الحقوق التي عليك
جاء في بداية رسالة الحقوق المروية عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين : «اعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ حُقُوقًا مُحِيطَةً بِكَ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ تَحَرَّكْتَهَا أَوْ سَكِنَةٍ سَكَنْتَهَا أَوْ حَالٍ حُلْتَهَا أَوْ مَنْزِلَةٍ نَزَلْتَهَا أَوْ جَارِحَةٍ قَلَبْتَهَا [قَلَّبتَها] أَوْ آلَةٍ تَصَرَّفْتَ فِيهَا، فَأَكْبَرُ حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْكَ مَا أَوْجَبَ عَلَيْكَ لِنَفْسِهِ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْحُقُوقِ، ثُمَّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ لِنَفْسِكَ مِنْ قَرْنِكَ إِلَى قَدَمِكَ عَلَى اخْتِلَافِ جَوَارِحِكَ».
إلى أن يقول : «ثُمَّ يَخْرُجُ [تَخرُجُ] الْحُقُوقُ مِنْكَ إِلَى غَيْرِكَ مِنْ ذَوِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْكَ»[1] .
من روائع ما حفظ لنا التاريخ، من تراث الإمام زين العابدين علي بن الحسين ، رسالته المعروفة برسالة الحقوق، التي كتبها الإمام إلى بعض أصحابه، ورواها الشيخ الصدوق في كتابه (الخصال) بسند معتبر عن أبي حمزة اَلثُّمَالِيِّ.
يتحدث الإمام في هذه الرسالة عن خمسين عنوانًا للحقوق التي على الإنسان، بدءًا من حقّ الله تعالى عليه، الذي هو أصل الحقوق، كما يقول ، وعن هذا الحقّ يقول : «فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ الْأَكْبَرُ عَلَيْكَ فَأَنْ تَعْبُدَهُ لَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا».
والعبادة هي: الطاعة والخضوع المطلق لله سبحانه وتعالى، فهو الخالق المنعم، فيجب شكره بعبادته وحده لا شريك له.
وجاء في هذه الرسالة عناوين عن بعض مظاهر العبادة لله تعالى، كالصلاة والصوم والحج والصدقة والهدي.
حقّ نفسك عليك
ويركز الإمام في المرتبة الثانية على حقوق نفس الإنسان عليه، يقول : «وَحَقُّ نَفْسِكَ عَلَيْكَ أَنْ تَسْتَعْمِلَهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
إنّ حقّ نفس الإنسان عليه أن يدفع عنها أخطار الدنيا والآخرة، وأن يسعى لرقيّها وتكاملها، والالتزام بطاعة الله تعالى التي تحقّق لنفسه النفع، وتبعد عنه الضَّرر.
فقد أودع الله في نفس الإنسان حبّ ذاته، لكنه قد يخطئ الطريق، فيضرّها بدل أن ينفعها، لذلك تكرّر في القرآن الكريم التحذير من ظلم النفس:
يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾. [سورة الطلاق، الآية: 1].
ويقول تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ﴾. [سورة هود، الآية: 101].
ثم يذكر الإمام مصاديق لاستعمال النفس في طاعة الله، بالحديث عن حقوق الجوارح، حقّ اللسان، والسمع، والبصر، واليدّ، والرجلين، والبطن، والفرج.
حقوق الآخرين
وفي المرتبة الثالثة يستعرض الإمام أهمّ حقوق الآخرين عليك، ضمن روابط الإنسان الاجتماعية، وهي المساحة الأوسع من هذه الرسالة، ففيها الحديث عن حقوق الأئمة، أي القيادات الدينية والسياسية، وعن حقوق الرعية، أي من يرعاهم الإنسان ويدير شؤونهم، وعن حقوق الرحم، كالأم والأب والولد والأخ.
ثم حقوق سائر الناس، كالجار، والصاحب، والشريك، والغريم، والخصم، والمشير والمستشير، والناصح والمستنصح، والكبير والصغير، والسائل والمسؤول، ومن سرّك ومن سائك، وأهل دينك، ومواطنيك من أتباع الأديان الأخرى.
أروع وأقدم الوثائق الحقوقية
وهي من أروع وأقدم الوثائق الحقوقية في التراث الإسلامي.
وتأتي أهميتها من جهة صدورها من إمام من أئمة أهل البيت ، الذين هم مرجعية الأمة في معرفة مفاهيم الدين وأحكامه.
ومن جهة مضامينها الأخلاقية العالية.
ومن جهة قيمتها التاريخية، حيث صدرت في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة (وفاة الإمام سنة 95هـ).
لكنّ المؤسف أنّ هذه الرسالة المهمّة، لم تنل نصيبًا لائقًا من الاهتمام، في ميدان الثقافة الحقوقية، على مستوى الأمة، وعلى المستوى العالمي.
إنّ أول ما يميّز هذه الوثيقة السَّجادية أنّها تتعامل مع الحقوق الإنسانية في الأبعاد المختلفة، كالبعد الروحي والمعنوي والاجتماعي، إضافة لما يرتبط بشؤون المعيشة والحياة، وتتأسس على مرجعية دينية، تشكّل دافع التزام للإنسان.
وهي تحفّز الإنسان للرقي الروحي والأخلاقي، وتؤكد على البعد الاجتماعي، وليس الحقوق الفردية، وحماية المصالح المادية فقط.
بين الحقوق والواجبات
كما أنّها جاءت في صيغة واجبات ومسؤوليات على الإنسان، فهي تتحدث عن الحقوق التي على الإنسان، وليس التي له.
وإن كانت الواجبات مترتبة على الحقوق ومضمّنةً فيها؛ لأنّ كلّ ما هو حقٌّ على فرد هو حقٌّ لآخر، فالحقّ الذي على القائد هو حقٌّ لمن يقودهم، والذي على الزوج هو لزوجه، والذي على الولد هو لوالديه.
وقد انتقد بعض الباحثين حتى من الغربيين، أنّ مواثيق حقوق الإنسان العالمية، لا تلتفت كثيرًا للواجبات، وهي نقطة ضعف وفراغ.
والحقّ قابل للتنازل عنه، بينما الواجب لا يصح تركه.
يقول الدكتور محمد سليم العوّا: (إنّ الشريعة الإسلامية تنظر إلى حقوق الإنسان، على أنّها فرائض إلهية، وواجبات شرعية، على حين أنّ الحضارة الغربية تراها مجرّد حقوق)[2] .
ويقول أحد الباحثين إنّ (مبادئ حقوق الإنسان، ليست من الأصالة والرسوخ في مذهب كما هي في الإسلام، وذلك لأنّ الإسلام اعتبرها تكاليف وعبادات شرعية، لا مجرّد مصالح كما هي في الغرب)[3] .
الإعلان العالمي لواجبات الإنسان
في أواخر تسعينيات القرن العشرين، اجتمع ستة وعشرون من القادة السياسيين، ومن الخبراء الأكاديميين، ينتمون لدول ومجتمعات مختلفة، وثقافات وديانات متعددة، اجتمعوا بقصد التوصل إلى ما أطلقوا عليه (الإعلان العالمي لواجبات الإنسان)، على أن يكون رديفًا ومتمّمًا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وليس نقيضًا له، أو بديلًا عنه، وذلك على خلفية أنّ إعلان حقوق الإنسان جاء مقتصرًا على جانب الحقوق، ولم يلتفت إلى جانب الواجبات.
ترأس هذا الاجتماع ودعا إليه المستشار الألماني الأسبق هلموت شميت (توفي 2015م)، الذي حذّر المجتمعات الغربية من السير في طريق الانهيار، نتيجة المبالغة في تحصيل الحقوق الكاملة، دون الالتفات إلى الواجبات، وعدم التوازن بينهما. واشترك في صياغة هذا الإعلان الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، والرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان، ورئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص[4] .
أولوية الاهتمام بما عليك
ويشير تركيز الإمام على الحقوق التي على الإنسان، إلى أولوية الاهتمام بما عليك أكثر من الاهتمام بما لك.
إنّ الإنسان يندفع بشكل طبيعي للتمسّك بحقوقه من الآخرين، والدفاع عنها، والعقل والشرع يعطيه الحقّ في ذلك، وقد لا يحتاج كثيرًا للتذكير بها والحثّ على الدفاع عنها، لكنه يغفل عن الحقوق التي عليه، بل قد ينكرها ويتجاوزها، من هنا تأتي أهمية التركيز والتأكيد عليها.
وقد أشار الإمام زين العابدين إلى ما يشبه هذه الحقيقة في موضوع الاهتمام بالدنيا والغفلة عن الآخرة.
حيث ورد عنه : «مَعَاشِرَ أَصْحَابِي، أُوصِيكُمْ بِالْآخِرَةِ وَلَسْتُ أُوصِيكُمْ بِالدُّنْيَا، فَإِنَّكُمْ بِهَا مُسْتَوْصَوْنَ وَعَلَيْهَا حَرِيصُونَ وَبِهَا مُسْتَمْسِكُونَ»[5] .
بل إنّ الدين يشجع الإنسان على التنازل عن بعض حقوقه ضمن ثقافة العفو.
يقول تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾. [سورة الشورى، الآية: 40].
ورد عن النبي محمد : «إِذَا كَانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ أَجْرُهُ عَلَى اَللَّهِ فَلْيَدْخُلِ اَلْجَنَّةَ، فَيُقَالُ: مَنْ ذَا اَلَّذِي أَجْرُهُ عَلَى اَللَّهِ؟ فَيُقَالُ: اَلْعَافُونَ عَنِ اَلنَّاسِ»[6] .
ويقول تعالى: ﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾. [سورة القرة، الآية: 237].
ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. [سورة البقرة، الآية: 178].
إنّ الحقّ الذي لك لا يفوتك، إن تنازلت عنه نلت ثوابًا أكبر، وإن فاتك في الدنيا فعوضه في الآخرة أنفع. بينما الذي عليك أنت ملزم به، وغالبًا ما تسوّل لك نفسك تجاهله، ويغريك الشيطان بتجاوزه، فتكون في موقع العدوان والظلم، وفي موقف المساءلة أمام الله سبحانه وتعالى في الآخرة، والتعرّض لانتقامه وسخطه وعذابه.
ورد عن أمير المؤمنين علي : «وَاِقْدَمُوا عَلَى اَللَّهِ مَظْلُومِينَ، وَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ»[7] .
إنّ الأفضل للإنسان ألّا يكون ظالمًا ولا مظلومًا، كما ورد أنَّ رسولَ اللهِ كان يقولُ: «اللّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ»[8] ، ولكن لو اضطرّ للاختيار بينهما، فأن يكون مظلومًا أفضل من أن يكون ظالمًا.
لذا على الإنسان أن يهتم بحقوق الآخرين المادية والمعنوية، ولا يتعدّى على حقِّ أحد، وإذا كان في ذمته حقٌّ لأحدٍ فليبادر إلى أدائه، والتحلل من صاحبه، وليكتب ويوثّق ما عليه من حقوق حتى لا ينسى شيئًا منها، أو يسوّل له الشيطان التجاوز والانكار، وحتى تؤدى عنه من تركته بعد وفاته.
وأشدّ التهاون ما يكون في حقوق الضعفاء كالأيتام، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾. [سورة النساء، الآية: 10].