كيف يراك الآخرون؟
يقول تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾. [سورة الشعراء، الآية: 84].
نظرة الآخرين للإنسان تترك أثرًا على نفسه، وعلى حياته.
فإذا كانت إيجابية، يزداد ثقة ورضًا عن نفسه، أما إذا كانت سلبية، فإنّها تضعف ثقته بنفسه، ورضاه عنها.
ولتداخل مصالح الإنسان مع أبناء محيطه الاجتماعي، فإنّ النظرة الإيجابية له من قبل الآخرين، تساعده في تسيير علاقته وارتباطه بهم، وفي المقابل، فإنّ النظرة السلبية تجاهه من الآخرين، تربك علاقاته الاجتماعية، وتؤثر على تسيير شؤون حياته المرتبطة بالآخرين.
من هنا يهتم الإنسان السّوي بأن تتشكل له صورة حسنة في نفوس الآخرين، وأن يكون محلّ احترامهم وتقديرهم.
الرؤية الدينية للاهتمام بالسمعة
وفي الرؤية الدينية، فإنّ على الإنسان أن يهتم أولًا برضا الله سبحانه وتعالى عنه، كما أنّ عليه أن يهتم بتكوين سمعة حسنة له عند الآخرين من الناس. وأن يبتعد عمّا يسيء لسمعته.
ولو تزاحم الأمران، فإنّ رضا الله تعالى هو المقدَّم.
ورد عن النبي : «مَنْ أَسْخَطَ اللَّهَ بِرِضَا النَّاسِ وَكَلَهُ الِلَّهِ إِلَى النَّاسِ»[1] .
في غير هذه الصورة الاستثنائية، فإنّ الاهتمام بالسمعة الحسنة أمر يشجعه الدين، ويحثُّ عليه.
الأنبياء والأئمة والأولياء كانوا يهتمون بخلق السمعة الحسنة لأنفسهم في أنظار الآخرين؛ لأنّ ذلك يساعدهم على نفوذ رسالتهم الدينية وقبولها، ويجعل منهم أنموذجًا للاقتداء والاحتذاء.
والآية الكريمة قوله تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾. [سورة الشعراء، الآية: 84] دعاء من النبي إبراهيم ، أن يجعل له ذكرًا حسنًا في الآخرين، والأجيال الصاعدة.
وحين يمتن الله تعالى على نبيه محمد بما أفاض عليه من النعم، يذكر منها: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾. [سورة الانشراح، الآية: 4] مما يشير إلى أهمية ارتفاع ذكر الإنسان، بمعنى حسن سمعته عند الآخرين. حيث عدّه الله تعالى نعمة يمتنّ بها على نبيّه .
ونجد في النصوص الدينية حثًّا على الاهتمام بالسمعة الحسنة.
قيل لرسول الله : أَرَأَيْتَ اَلرَّجُلَ يَعْمَلُ اَلْعَمَلَ مِنَ اَلْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ اَلنَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ : «ذَلِكَ بُشْرَى المؤمن»[2] .
وعَنْ زُرَارَةَ عَنْ الإمام محمد الباقر قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ اَلرَّجُلِ يَعْمَلُ اَلشَّيْءَ مِنَ اَلْخَيْرِ فَيَرَاهُ إِنْسَانٌ فَيَسُرُّهُ ذَلِكَ، فَقَالَ : «لاَ بَأْسَ، مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ فِي اَلنَّاسِ اَلْخَيْر، إِذَا لَمْ يَكُنْ صَنَعَ ذَلِكَ لِذَلِكَ»[3] .
وورد عن أمير المؤمنين علي : «لِسَانُ الصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يَرِثُهُ غَيْرُهُ»[4] .
وجاء في كلمة أخرى عنه : «إِنَّ اَللِّسَانَ اَلصَّالِحَ يَجْعَلُهُ اَللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي اَلنَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ اَلْمَالِ يُورِثُهُ مَنْ لاَ يَحْمَدُهُ»[5] .
وورد في دعاء الإمام الحسين في يوم عرفة: «وَفِي نَفْسِي فَذَلِّلْنِي، وَفِي أَعْيُنِ اَلنَّاسِ فَعَظِّمْنِي»[6] .
وهنا يطلب الإنسان من ربه، وهو يقوم بنسك من أهم مناسك الحج، الوقوف بعرفة، وفي زمن من أفضل الأزمنة، أن يجعله عظيمًا في أعين الناس.
وفي المقابل، فإنّ الفقهاء يذكرون أنّ من المكروهات التعامل مع الأدنين، (وفُسّر الأدنون بمن لا يبالي بما قال ولا ما قيل فيه)[7] . أي أن يبتعد الإنسان في تعامله المادي، مع من لا يهتم بسمعته، ولا يراعي سمعة الآخرين.
صناعة السمعة الحسنة
كيف يصنع الإنسان لنفسه السمعة الحسنة؟
يمكننا ذكر أهم العناصر في تشكيل الصورة الحسنة، والسمعة الطيبة للإنسان في أنظار الآخرين، وهي:
أولًا: امتلاك الكفاءة العلمية والعملية.
يقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾. [سورة الزمر، الآية: 9].
إنّ العلم يعطي للإنسان مكانة متميزة لا يحظى بها من يحرم العلم والمعرفة، وعلى من أراد نيل مكانة متقدّمة، أن يسعى لكسب العلم والمعرفة.
وفي الحديث الوارد عن رسول الله : «أَكْثَرُ اَلنَّاسِ قِيمَةً أَكْثَرُهُمْ عِلْماً، وَأَقَلُّ اَلنَّاسِ قِيمَةً أَقَلُّهُمْ عِلْماً»[8] .
كما أنّ امتلاك الكفاءة العملية، وحسن الإنتاج، وإتقان العمل في أيّ ميدان ومجال، عنصر مهم في صناعة السمعة الحسنة، وهذا ما تحرص عليه الشركات والمؤسسات في عالم اليوم.
وورد عن الإمام علي : «قِيمَةُ كُلِّ اِمْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ»[9] .
ثانيًا: الخلق الحسن
فإنّ تعامل الإنسان مع الآخرين بأخلاق حسنة، واحترامه لهم، يدفعهم للتعامل معه بالمثل، ويكوّن عنه انطباعًا حسنًا في النفوس.
ومهما كانت نقاط القوة في شخصية الإنسان، فإنّها لا تملأ الدور الذي يؤديه حسن الخلق في جذب نفوس الآخرين إليه. لذلك ورد عن الإمام علي : «رُبَّ عَزِيزٍ أَذَلَّهُ خُلُقُهُ، وَذَلِيلٍ أَعَزَّهُ خُلُقُهُ»[10] .
بمعنى أنّ الإنسان قد يمتلك مقومات العزّة في شخصيته، لكنّ سوء الخلق يسبب مهانته عند الناس، وقد يفتقد تلك المقومات، لكن حسن خلقه يصنع له معزّة في النفوس.
ونستحضر هنا ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 159] فإنّ الله تعالى يؤكّد لنبيّه أنه لو كانت أخلاق تعامله مع الناس سيئة، لفشل في جذب الناس إلى دعوته، مع أحقية دعوته، واتصاله بالوحي.
وورد عن أمير المؤمنين علي : «مَنْ حَسُنَ خُلْقُهُ كَثُرَ مُحِبُّوهُ، وَآنَسَتِ اَلنُّفُوسُ بِهِ»[11] .
وعنه : «عَلَيْكُمْ بِمَكَارِمِ اَلْأَخْلاَقِ فَإِنَّهَا رِفْعَةٌ وَإِيَّاكُمْ وَاَلْأَخْلاَقَ اَلدَّنِيَّةَ فَإِنَّهَا تَضَعُ اَلشَّرِيفَ وَتَهْدِمُ اَلْمَجْدَ»[12] .
وعنه : «سُوءُ اَلْخُلْقِ يُوحِشُ اَلْقَرِيبَ، وَيُنَفِّرُ اَلْبَعِيدَ»[13] .
ثالثًا: الإحسان للآخرين
إنّ إحسان الإنسان للآخرين ولو بالكلمة الطيبة، والمشورة النافعة، فضلًا عن العطاء وتقديم الخدمة والمساعدة لهم، خاصة في مواقع الحاجة، يترك أثرًا كبيرًا في نفوسهم، ويصنع مكانة واحترامًا في نظرهم.
ورد عن رسول الله : «جُبِلَتِ اَلْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا»[14] .
وورد عن الإمام علي : «بِالْإِحْسَانِ تُمْلَكُ اَلْقُلُوبُ»[15] .
رابعًا: المظهر اللائق
حيث يرتاح الناس للشخص النظيف، والهيئة الجميلة، والمظهر الأنيق، بينما ينفرون من الشخص القذر، والمنظر الكريه، ويصدق ذلك على القريبين والبعيدين من الإنسان، لذلك ينبغي لمن يحترم نفسه، أن يبدو نظيفًا أنيقًا، داخل بيته وضمن عائلته، ومع القريبين منه، كما يحرص على ذلك أمام الآخرين.
يقول تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾. [سورة الأعراف، الآية: 31].
وجاء عن رسول الله أنه قال: «إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا خَرَجَ إِلَى إِخْوَانِهِ أَنْ يَتَهَيَّأَ لَهُمْ وَيَتَجَمَّلَ»[16] .
وعن الإمام جعفر الصادق قال: قال أمير المؤمنين : «لِيَتَزَيَّنْ أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ اَلْمُسْلِمِ كَمَا يَتَزَيَّنُ لِلْغَرِيبِ اَلَّذِي يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ فِي أَحْسَنِ اَلْهَيْئَةِ»[17] .
وقد نهى رسول الله أن يأتي إلى المسجد من أكل ثومًا أو بصلاً أو كرّاثًا أو نحوها؛ حتى لا يتأذى الناس من رائحتها الكريهة.
وورد عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ فَقُلْتُ عَلِّمْنِي دُعَاءً فِي الرِّزْقِ فَقَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ تَوَلَّ أَمْرِي وَلَا تُوَلِّ أَمْرِي غَيْرَكَ، فَعَرَضْتُهُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ [الإمام جعفر الصادق] فَقَالَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْ هَذَا فِي الرِّزْقِ؟ تَقُصُّ أَظَافِيرَكَ وَشَارِبَكَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ»[18] .
سمعة المجتمع الإيماني
ونجد في توجيهات أئمة أهل البيت تأكيدًا على أن يهتم أتباعهم وشيعتهم بتشكيل الصورة الحسنة لهم في المحيط الاجتماعي.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «شِيعَتَنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ كَانُوا خِيَارَ مَنْ كَانُوا مِنْهُمْ، إِنْ كَانَ فَقِيهٌ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ مُؤَذِّنٌ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ إِمَامٌ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ أَمَانَةٍ كَانَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ وَدِيعَةٍ كَانَ مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ كُونُوا، حَبِّبُونَا إِلَى اَلنَّاسِ وَلاَ تُبَغِّضُونَا إِلَيْهِمْ»[19] .
وورد عن الإمام الحسن العسكري : كُونُوا زَيْناً وَلاَ تَكُونُوا شَيْناً، جُرُّوا إِلَيْنَا كُلَّ مَوَدَّةٍ، وَاِدْفَعُوا عَنَّا كُلَّ قَبِيحٍ»[20] .
عَنِ اَلْحَارِثِ بْنِ اَلْمُغِيرَةِ قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ اَلْمَدِينَةِ لَيْلاً فَقَالَ لِي: «يَا حَارِثُ» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «أَمَا لَتَحْمِلُنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ» ثُمَّ مَضَى، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، لِمَ قُلْتَ لَتَحْمِلُنَّ ذُنُوبَ سُفَهَائِكُمْ عَلَى عُلَمَائِكُمْ، فَقَدْ دَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، مَا يَمْنَعُكُمْ إِذَا بَلَغَكُمْ عَنِ اَلرَّجُلِ مِنْكُمْ مَا تَكْرَهُونَهُ مِمَّا يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْنَا اَلْأَذَى وَاَلْعَيْبُ عِنْدَ اَلنَّاسِ، أَنْ تَأْتُوهُ فَتُؤَنِّبُوهُ، وَتَعِظُوهُ، وَتَقُولُوا لَهُ قَوْلاً بَلِيغاً؟» فَقُلْتُ لَهُ: إِذًا لاَ يَقْبَلُ مِنَّا، وَلاَ يُطِيعُنَا، قَالَ: فَقَالَ: «فَإِذًا فَاهْجُرُوهُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاِجْتَنِبُوا مُجَالَسَتَهُ»[21] .
إنّ هناك من يقول: إنه ليس علينا من رأي الآخرين فينا، ولا ينبغي أن نهتم بذلك، لكن هذا يخالف توجيهات أئمة أهل البيت ، إنّهم يحمّلون شيعتهم مسؤولية خلق الانطباع الحسن عن نهجهم ومدرستهم، لتكون نظرة الناس إلى الأئمة ونهجهم نظرة إيجابية، وتتشكل عنهم أفضل صورة يستحقونها في أذهان وأنظار الآخرين، ليكون ذلك دافعًا لاقتراب الناس إلى نهجهم، واتباع سيرتهم، وأخذهم قدوات ورموزًا في التزام الدين ومكارم الأخلاق.
كما يحذّر الأئمة شيعتهم من أيّ تصرف يخلق نفورًا وانطباعًا سلبيًا لدى الآخرين تجاه أهل البيت ومدرستهم.