الشيخ الصفار.. الشخصية والمشروع
تعرَّفت إلى شخصية سماحة الشيخ الصفار الخلوقة وعمري لا يتجاوز السابعة عشر وعمره لا يزال في بداية العشرينات.
وعلى الرغم من أني لم أتعرف وأحتك بالكثير من المشايخ والعلماء المتصدين للشأن الديني في ذلك الوقت باستثناء القلة منهم، إلَّا أني وجدت تميُّزًا واضحًا في شخصية سماحة الشيخ منذ ذلك الوقت، ما جعلني انشد وأنجذب إليه بقوه، وصرت أتحيَّن الفرص للالتقاء والجلوس معه، وقضاء الوقت الطويل برفقته، وفي سبيل ذلك كنت أشد الرحال من مدينتي الأحساء إلي مدينة القطيف في كل أسبوعين تقريبًا، إلى أن عزم الرحيل والهجرة من المنطقة في عام ١٤٠٠ للهجرة.
ومن أبرز ما يميُّز شخصية سماحة الشيخ التي كانت تجذب الآخرين إليه:
- دماثة الخلق، والتي تجلَّت خصوصًا في تلك الابتسامة الجميلة العريضة، وتلك البشاشة البارزة التي كانت تغمر وجهه ومحياه حينما تلتقي به للوهلة الأولى، وفي تلك الكلمات العذبة واللطيفة التي تخرج من فمه ولسانه، وحينما يمتد المجلس واللقاء لا بد وأن تسمع منه ما يدخل السرور على القلب، ويجلب البسمة والضحكة للفم، من تلك الكلمات والعبارات المازحة وذات النكهة الفكاهية، ولذلك يعتبر سماحة الشيخ من الأشخاص الموهوبين في بثِّ روح الفكاهة مع من يجالسه، وله قدرة بارزة في استخدام أسلوب النكتة أثناء أحاديثه مع مجالسيه ومستمعيه.
- التواضع والبساطة، فتجد منه الاحترام الكبير للصغير والكبير، والوجيه والفرد البسيط، بلا تمييز وتفريق بينهما، فمثلما يقف احترامًا للكبير أو الوجيه عند دخوله مجلسه وتقديم التحية المبالغة له إلى حين جلوسه في مقعده، ومثلما يقوم مشيعًا ومصاحبًا له عند مغادرته المجلس، كذلك يفعل الشيء نفسه للصغير وللفرد المتواضع اجتماعيًّا.
وفي المقابل تلمس منه بوضوح عدم رغبته، بل وكرهه لمظاهر الاحتفاء به المبالغة فيها، وتجد منه رغبته الصادقة في مساواته بالآخرين الأقل شأنًا منه اجتماعيًّا في إظهار الاحتفاء به.
- سعة صدره وحلمه، وهذه الصفة تحديدًا قد تكون من أكثر الصفات التي جذبت الكثيرين إلى شخصيته، وأنا أعرف الكثير من الأشخاص الذين كان يكنُّون الحقد والعداء لسماحته، وبعدما عرفوه وتعاملوا معه ووجدوا فيه كل تلك السعة في قلبه، وغضه الطرف وتجاوزه عن تعدِّياتهم اللفظية وآرائهم السيئة والقاسية السابقة عنه، والتي كانوا يبثونها ويُشيعونها عنه في غالب الأحيان، وتقبُّله السريع لهم على الرغم من كل ذلك، وانفتاحه الشخصي عليهم؛ تحوَّلوا إلى أصدقاء محبِّين جدًّا له، بل ومتفانين في الدفاع عنه.
فكم وكم تجاوز وغض الطرف عمَّن أساء له بالكلام الجارح وبذاءة العبارات، وتحمَّل الكثير من الأذى الشخصي وكتم في قلبه، في سبيل مدِّ جسور العلاقة والصداقة معهم مع إساءاتهم البالغة له، وهو ما حصل كثيرًا.
فضلًا عن سعة صدره في حواراته ونقاشاته العادية في مجالسه اليومية مع أصدقائه وضيوفه، سواء في مجلسه أو مجالس الآخرين، فتجد منه حسن الاستماع وتقبُّل الرأي الآخر واستيعابه لكل الآراء، ومن ثم طرح رأيه ووجهة نظره بالرفق واللين، وبالأسلوب المقنع القائم على المنطق والبرهان والواقعية، ما يجعل معظم من يشاركه الحوار يتقبَّل رأيه ويقتنع به سريعًا، بل ويتبنَّاه أيضًا.
هذه الصفات وغيرها -التي يطول الحديث لو تم التفصيل فيها- جعلت من سماحة الشيخ الصفار شخصية اجتماعية محبوبة جدًّا ذات علاقات اجتماعية واسعة.
فهو استطاع -وفي غضون سنوات بسيطة منذ رجوعه من الخارج واستقراره في مدينته القطيف عام ١٤١٥ هجرية- أن يكتسب محبة وصداقة معظم أبناء مجتمعه الشيعي، وقد قام سماحة الشيخ في تلك الفترة ولا يزال بزيارة جميع مدن ومناطق وقرى المنطقة الشرقية (القطيف، الأحساء، الدمام، الخبر).
وقد صاحبته شخصيًّا في العديد من تلك الزيارات في مدينة الأحساء.
وباعتبار قلَّة زياراته للأحساء للبعد الجغرافي عن مدينة القطيف المقيم فيها، فقد كان يضطر لزيارة الكثير من أصدقائه ومحبيه الأحسائيين الذين قد يصل عددهم إلى العشرين في يوم واحد في زيارته من بداية الصباح وإلى وقت متأخِّر في المساء!
وأنا أعرف أن هناك العديد من الأشخاص في الأحساء الذين ينتظرون بفارغ الصبر زيارة وتشريف سماحة الشيخ لمجالسهم في بيوتهم وتلبية دعواتهم.
الشيخ الصفار.. المشروع:
يعتبر سماحة الشيخ الصفار اليوم من أبرز علماء الدين الشيعة (إن لم يكن الوحيد) الذي يحمل مشروعًا رياديًّا يهدف إلى إدماج أبناء الطائفة مع المكونات الأخرى في الوطن. وذلك بالحث على الانفتاح والتواصل من قبل أبناء الطائفة مع أقرانهم من أبناء الطوائف الأخرى، وإقامة العلاقات الطيبة والإيجابية الدائمة معهم، للقدرة والتمكُّن من إزالة وإذابة كل الحواجز والعوائق القائمة المسبِّبة للتباعد والفرقة، ومن أهمها إزالة اللبس وسوء الفهم القائم والحاصل في أذهان الكثير من إخواننا السُّنَّة عن الشيعة، في معتقدهم ومنهجهم المذهبي، وفي انتمائهم وولائهم الوطني.
وهذا ما سعى إليه سماحة الشيخ شخصيًّا مع مجموعة من رفاقه حثيثًا طوال ربع القرن المنصرم في التواصل والانفتاح على أبناء الوطن من أتباع المذاهب الأخرى، وعلى رأسها الطائفة السُّنِّية الكريمة.
وقد لبَّى سماحة الشيخ دعوات العشرات من الشخصيات الوطنية البارزة في بلادنا في الحضور والمشاركة في الفعاليات والمناسبات المقامة في مجالسهم ومحافلهم الخاصة.
كما أنه قد بادر بالزيارة والتواصل مع الكثير من الشخصيات المرموقة في المجتمع اجتماعيًّا وثقافيًّا، ما أدَّى إلى تكسير الكثير من الحواجز والعوائق النفسية والفكرية، وتقريب وجهات النظر، وتقارب النفوس، والقبول بالعلاقات الدائمة.
فضلًا طبعًا عن السعي إلى الانفتاح والتواصل مع أبناء الطائفة أنفسهم وفي جميع انتماءاتهم الفكرية والاجتماعية والمرجعية.
والسعي -أيضًا- إلى إيجاد التقارب والتواصل ما بين هذه التيارات الشيعية المتعدِّدة من خلال إنشاء وإقامة العديد من المشروعات الفكرية والثقافية الاجتماعية، وهو ما حصل خلال السنوات الماضية، ومن أبرزها اللقاءات العلمائية المتنوِّعة، أو الدعوة إلى عقد المجالس الاجتماعية المتعدِّدة الانتماءات.
* البعد الثقافي: اعتمد سماحة الشيخ والقائمون الآخرون على تحقيق هذا المشروع خطابًا دينيًّا واجتماعيًّا تميز بالمواصفات التالية:
١- الوسطية والاعتدال، فقد كان الخطاب الصادر من قبل سماحة الشيخ والرموز الآخرين مسموعًا كان أو مقروءًا يتَّصف بالأفكار الوسطية الهادئة، التي تدعو إلى تحميل المسؤولية بالسعي إلى الإصلاح والتغيير بالأسلوب الهادئ والواقعي، البعيد عن روح التطرف والعنف، واستخدام الوسائل والأساليب الغير سلمية.
وقد تحمَّل سماحة الشيخ وأصدقاؤه الكثير من الأذى من أطراف وشخوص في داخل المجتمع الشيعي نتيجة هذا التوجُّه الوسطي المعتدل في الطرح والأسلوب والمنهج فيما يرتبط بالحق المطلبي الشيعي.
٢- المرونة والواقعية، يحاول هذا الخطاب معالجة كل السلبيات والمشكلات الاجتماعية إن كان على الصعيد الوطني، وأبرزها الفرقة والتباعد، وما يقابلها كمعالجة فكرية في التقارب والانفتاح المذهبي من خلال الطرح الواقعي والقيام بما يمكن القيام به.
أو على الصعيد الشيعي الداخلي، كمشكلة الخلافات الفئوية الداخلية، أو مشكلة الفقر والضعف الاقتصادي، أو المشكلات الأسرية وما إلى ذلك، ومعالجتها بأفكار قابلة للتنفيذ والتطبيق على أرض الواقع.
٣- الإصلاح الفكري والمذهبي، فقد سعى سماحة الشيخ ورموز آخرين إلى مناقشة بعض الموضوعات الدينية الشيعية التي تحوَّلت مع الزمن إلى ثوابت عقدية، في حين أنها قد تكون دخيلة على المعتقد الشيعي.
ومن أبرز ما تم طرحه ومناقشته ما شاب الموروث الروائي الشيعي من وضع أو إضافات أو إنقاص، والدعوة إلى تصفيته وغربلته من قبل المتخصّصين في هذا الشأن، وكذلك إعطاء آراء وتصورات دينية جديدة في العمل الاجتماعي وفي التنمية الوطنية ومشاركة المرأة ودورها فيها وما إلى ذلك.