القصدية في حركة الإنسان
يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنعام، الآية: 162].
الإنسان كائن ذو إرادة وعقل واختيار، لذلك فإنه يتحمّل مسؤولية أعماله وتصرفاته، أمام الله تعالى، وأمام النظام الاجتماعي الذي يعيش في ظلّه.
وحين يفقد الإنسان إرادته أو عقله أو اختياره، لا تكون أفعاله تحت طائلة المسؤولية والاعتبار، كالنائم والمجنون والمكره.
وعلى الإنسان أن يدرك أنَّ لأيِّ تصرّف وفعل يصدر منه، مردودات ونتائج تنعكس عليه سلبًا أو إيجابًا، عاجلًا أم آجلًا، وهذا ما تؤكّد عليه آيات القرآن الكريم:
يقول تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾. [سورة الزلزلة، الآيتان: 7-8].
ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿١٠﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿١١﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾. [سورة الانفطار، الآيات: 10-12].
ويقول تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾. [سورة الكهف، الآية: 49].
ويقول تعالى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾. [سورة ق، الآية: 18].
التفكير قبل أيِّ حركة
إنّ أيِّ حركة أو فعل يستهلك جزءًا من عمر الإنسان ومن طاقته، فعليه أن يوظف ذلك فيما ينفعه، وألّا يكون فيما يضرّه.
وهذا يعني أن يسبق التفكير كلّ عمل وحركة يقوم بها الإنسان، لتصدر عن قصد، ولغرض صحيح.
ورد عن النبي : «إِذَا أَنْتَ هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ، فَإِنْ يَكُ رُشْدًا فَامْضِهِ، وَإِنْ يَكُ غَيًّا فَانْتَهِ عَنْهُ»[1] .
وورد عن الإمام علي أنه قال لكميل: «ما مِنْ حَرَكةٍ إِلّا وَأَنْتَ مُحتَاجٌ فِيْها إِلى مَعْرِفَةٍ»[2] .
وعنه : «لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ، وَقَلْبُ الاْحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ»[3] .
إنَّ بعض الناس قد يتصرّف أو يتحرّك ارتجالًا دون تفكير، أو تحت تأثير لحظة انفعال، ثم يدفع ثمنًا باهظًا.
والبعض قد يسترسل بعفوية، أو محاكاة للآخرين، ولعلّ للآخرين مبرّرات تخصّهم، أو أنّهم يخطئون بحقِّ أنفسهم، فهل تورّط نفسك في الخطأ مثلهم؟
إنَّ محاكاة الآخرين دون استكشاف لغرض العمل، لا يليق بمن يحترم نفسه وعقله.
ويدخل في هذا السياق استيراد العادات من المجتمعات الأخرى، أو تقليد الأسلاف في أعرافهم وعاداتهم.
وهناك قصة معبّرة للأديب (ادواردو غاليانو): عن كرسي فارغ كان يتوسّط ثكنة عسكرية يقف لجنبه حارس يحرسه، وكلّما أنهى حارس خدمته أو استقال جاء حارس آخر بعده لحراسة هذا الكرسي ليل نهار، حتى قرّر أحدهم أن يستكشف سرَّ هذا الكرسي الذي لا تُترك حراسته للحظة واحدة، فقرّر العودة إلى الملفّات والأوامر القديمة، فوجد أنه قبل واحد وثلاثين عامًا وشهرين وأربعة أيام، أمر ضابط حارسًا أن يقف قربَ ذلك الكرسي الذي دُهن للتوِّ، لكيلا يفكر أحدٌ بالجلوس على الدهان الطري.
التربية على التزام القصدية
ولكي يتربّى الإنسان المسلم على التزام القصدية في أعماله، اشترط الدين استحضار النية، وهي القصد في أداء الأعمال العبادية طاعة لله تعالى، فمع كون العبادات حسنة ومطلوبة، لكن لا ينبغي أن تؤدّى على نحو الاسترسال أو العادة، وإنّما بقصدية واستهداف.
بل إنّ الدين يوجّه الإنسان حتى في أدائه لسائر التصرفات في شؤون حياته، أن يستحضر القصد الحسن فيها، فينال بذلك الأجر والثواب، إلى جانب مصالحه الدنيوية الحياتية.
وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [سورة الأنعام، الآية: 162].
فالصلاة والنسك العبادي، وكلّ شأنٍ من شؤون الحياة والموت محياي ومماتي، كلّها ضمن دائرة استهداف رضا الله سبحانه.
وورد عن رسول الله : «يَا أَبَا ذَرٍّ لِيَكُنْ لَكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ نِيَّةٌ حَتَّى فِي اَلنَّوْمِ وَاَلْأَكْلِ»[4] .
ورد عن أمير المؤمنين : «عَوِّدْ نَفْسَكَ حُسْنَ اَلنِّيَّةِ وَجَمِيلَ اَلْقَصْدِ، تُدْرِكْ فِي مَسَاعِيكَ اَلنَّجَاحَ»[5] .
وجاء في دعاء للإمام زين العابدين : «اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ هَمَسَاتِ قُلُوبِنَا، وَحَرَكَاتِ أَعْضَائِنَا وَلَمَحَاتِ أَعْيُنِنَا، وَلَهَجَاتِ أَلْسِنَتِنَا فِي مُوجِبَاتِ ثَوَابِكَ حَتَّى لا تَفُوتَنَا حَسَنَةٌ نَسْتَحِقُّ بِهَا جَزَاءَكَ»[6] .
حتى المعاشرة والعلاقة الجنسية بين الزوجين تكون سببًا للأجر والثواب. حين تكون ضمن مقصد الأخذ بالحلال واجتناب الحرام.
ورد عن رسول الله أنه سُئل: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»[7] .
وعملك في الوظيفة، وطلب الرزق ما دام يخدم مصلحة حقيقية، يكون فيه الأجر والثواب.
عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَفَرٍ، فَمَرَّ بِهِمْ أَعْرَابِيٌّ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ قُوَّتِهِ وَمِنْ نَشَاطِهِ. فَقَالُوا: لَوْ كَانَ قُوَّةُ هَذَا وَنَشَاطُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. بَلَغَ ذَلِكَ رسول الله ، فقال: «إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدٍ صِغَارٍ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى»[8] .
تعزيز المقاصد الحسنة في النفس
كلّ هذه التعاليم والنصوص الدينية هدفها توجيه وتربية الإنسان على القصدية في أعماله وحركاته وتصرفاته، وأن ينمّي في نفسه النية الحسنة، والمقصد الصالح، ويكبح نيّات السوء، ومقاصد الشر، فذلك أسعد لحياته، وأفضل لآخرته.
ورد عن الإمام علي : «مَنْ حَسُنَتْ نِيَّتُهُ كَثُرَتْ مَثُوبَتُهُ، وَطَابَتْ عِيشَتُهُ، وَوَجَبَتْ مَوَدَّتُهُ»[9] .
وعن الإمام موسى بن جعفر : «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا هَمَّ بِالْحَسَنَةِ خَرَجَ نَفَسُهُ طَيِّبَ الرِّيحِ... وَإِذَا هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ خَرَجَ نَفَسُهُ مُنْتِنَ الرِّيحِ»[10] . وتشير الرواية إلى أنَّ الملكين اللَّذين عن يمينه وعن شماله يميزان هذه الريح.
وجاء في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين : «وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إِلَى أَحْسَنِ النِّيَّاتِ، وَبِعَمَلِي إِلَى أَحْسَنِ الأَعْمَالِ. اللَّهُمَّ وَفِّرْ بِلُطْفِكَ نِيَّتِي».