ثقافة التعارف الاجتماعي
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. [سورة الحجرات، الآية: 13].
تؤكد الثقافة الدينية على أهمية البعد الاجتماعي في حياة الإنسان، ومعظم المناسبات والبرامج العبادية التي وضعها الدين، تعزّز حالة التعارف والتواصل بين الناس، كما نجد ذلك جليًّا في فريضة الحج، وصلاة الجمعة والجماعة، ومناسبات الأعياد، والشعائر الدينية المختلفة.
الانفتاح والانطواء
إننا نجدُ في حياتنا الاجتماعية نمطين من الشخصية: الأول: يميلُ إلى الانفتاح على الآخرين، ويهتمُ بصنع العلاقة معهم. والثاني: يميل إلى الانطواء على نفسه، والعزوف عن العلاقة مع الآخرين، إلّا بمقدار الحاجة والضرورة، فتكون علاقته محصورة مع من يحتاج إليهم، ويرتبط بهم ارتباطاً وثيقًا في شؤون حياته، ولا يرغب في أن يوسّع رقعة علاقاته مع الآخرين.
وتتفاوت درجات الانفتاح والانطواء في شخصيات النمطين، كما هو الحال في درجات التفاوت في أيّ سمةٍ أو صفة، فليس كلّ الكرماء والبخلاء في درجة واحدة، ولا كلّ الأذكياء في مستوًى واحد.
وقد بحث علماء النفس هاتين السمتين تحت عنوان (الانبساط والانطواء)، وظهر هذا المصطلح لأول مرة عام 1919م، عند العالم السويسري مؤسس علم النفس التحليلي كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961م) حيث عرّف الانطواء بأنه (انفصال الليبدو أي (الطاقة النفسية) عن الموضوعات الخارجية والانسحاب إلى عالم الشخص الداخلي).
كما عرّف الانبساط بأنه (التوجه نحو الخارج ـ خارج الذات ـ كاهتمام الفرد بالأشياء والناس والعالم الخارجي بصفة عامة).
الشخص المنطوي ميله واهتمامه بالدرجة الأولى داخل ذاته، فهو مشغول بعالمه الداخلي، بينما يكون الانتباه عند المنبسط مشدودًا نحو الظروف والأشخاص والأمور الخارجية.
والاهتمام بالذات أمر غريزي طبيعي، لكنّ الذات ليست مفصولة عن العالم والآخرين، والمبالغة بالانشغال بداخل الذات عن خارجها، ليس في مصلحة الذات، إنّ البعض يتلخص العالم عندهم في أنفسهم، ويعتبرون ذواتهم مركز العالم والحياة، وقيل: إنّ جحا سُئل يومًا عن مركز الكون، فقال: حيث يقف حماري.
وإذا كان جذر سمتي الانبساط والانطواء مدى انشغال الإنسان بداخل ذاته، أو مدى اهتمامه بالآخرين، فإنّ الإنسان المنبسط يسعى إلى توثيق العلاقة مع من حوله، ويحب الاختلاط مع الآخرين، وتوسيع رقعة معارفه وأصدقائه، بينما الانطوائي يعزف عن صنع العلاقات الاجتماعية، ويقتصر فيها على الحدّ الأدنى بمقدار الحاجة.
دوائر العلاقات الاجتماعية
هناك قدرٌ من التداخل بين الناس تفرضه طبيعة الحياة، إذ لا يستطيع إنسان أن يعيش في عزلةٍ عن الناس، وهناك مستويات متقدمة من التداخل، الذي يُقبل عليه الإنسان عن قصد وإرادة، ويتقاطع مع صميم اهتماماته. مع تفاوت مستوى الاهتمام بشبكة العلاقات الاجتماعية من شخص لآخر.
وتتحدّث النظرية التي أطلقها عالم الأنثروبولوجيا البريطاني (روبن دنبار)، في تسعينيات القرن الماضي، عن التواصل الاجتماعي، بعد أن درس العلاقات الاجتماعية في المجتمعات البشرية في جميع أنحاء العالم، وعلى مرّ التاريخ، أنّ هناك ثلاث دوائر وحلقات في علاقات الإنسان الاجتماعية، تتكون الأولى منها من حوالي خمسة أشخاص مفضلين، وهي الدائرة الأكثر إحكامًا وقربًا من الإنسان، تلي هذه الدائرة الضيقة، دائرة أوسع تضم حوالي عشرة أشخاص، أو نحو ذلك من الأشخاص الذين يكونون مجموعة التعاطف من الأقرباء والأصدقاء، أما الدائرة الثالثة فهي دائرة المعارف، والروابط الضعيفة، ومعدّلها 150 شخصًا حول الفرد، من الناس الذين يلتقيهم من حين لآخر أو بشكل عابر في حياته اليومية.
وأطلقوا على هذه النظرية عنوان (رقم دنبار) حيث تؤكد أنّ الحدّ الأقصى لحجم الشبكة الاجتماعية للفرد مستقرٌّ عند 150 شخصًا في المتوسط[1] .
إيجابيات ومكاسب الانفتاح
إنّ التداخل مع المحيط الاجتماعي أمر بالغ الأهمية؛ لأنه يعود على الإنسان بدرجة عالية من الفوائد، والنتائج الإيجابية.
ولعلّ أولها: أنّ التداخل مع الناس يثري المشاعر الإنسانية في نفس الإنسان، مثل مشاعر الحبّ والودّ والتعاون والإحسان، في مقابل ذلك، تبقى هذه المشاعر في أدنى مستوياتها متى ما اختار الإنسان العزلة عن الناس.
وتفيد عدد من الدراسات أنّ كبار السن الذين لديهم مجموعة من المعارف ممن يتفاعلون معهم بشكل يومي، هم أكثر شعورًا بالإيجابية والحيوية، وأقلّ عرضة للإصابة بالاكتئاب.
أما الميزة الثانية: فهي ما يتيحه الانفتاح الاجتماعي والعلاقات الواسعة، من إمكانات وفرص أمام الإنسان، تساعده في تيسير أمور حياته، ومعالجة ما قد يواجهه من مشكلات وتحدّيات، وتفتح له آفاق التقدّم والازدهار.
إننا نلحظ في واقعنا الاجتماعي، أنّ صاحب العلاقات الواسعة، يستفيد من خبرة ونفوذ من يعرفهم، للوصول إلى الفرص المفيدة، وتخطّي العقبات التي تعترض مسار حركته ونشاطه.
ومن أوائل من سلّط الضوء حديثًا على شبكة المعارف وأهميتها، عالم الاجتماع في جامعة ستانفورد (مارك غرانوفيتر) الذي نشر ورقة بحثية عام 1973م، عنوانها (قوة الروابط الضعيفة).
وقد أجرى استطلاعًا، شمل 282 موظفًا في مختلف المجالات، في مدينة بوسطن الأمريكية، ووجد أنّ معظمهم (84%) حصلوا على وظائفهم من طريق أحد معارفهم، بينما حصلت أقلية منهم على الوظيفة من خلال صديق مقرب[2] .
تطوير المهارات الاجتماعية
وتتجلّى الميزة الثالثة: في تقوية وتطوير المهارات الاجتماعية عند الإنسان، من قبيل القدرة على التشبيك وبناء العلاقات، والتأثير في نفوس الآخرين، ومواجهة المشاكل، وإدارة الأزمات، وحسن التصرف في مختلف الظروف.
إنّ هذه المهارات لا تتأتى من خلال التلقي النظري غالبًا، بقدر ما تأتى عن طريق الممارسة، فكلّما تداخل الإنسان مع الناس على نحو أكبر، تبلورت عنده هذه المهارات بالتوازي، كما أنّها تضعف وتنخفض في حالة الانطواء.
وكان الدكتور العراقي حسين محفوظ يقول عن عالم الاجتماع العراقي علي الوردي: إنه أعظم عالم اجتماع، لكنه لا يتقن فنّ العلاقات الاجتماعية.
وقد كتب علي الوردي عن نفسه قائلًا: إنّ صديقًا لي علم بأنّي سألقي محاضرة عامة في موضوع (كيف تعامل الناس)، فقال لي على سبيل المزاح: إنك ينطبق عليك قول الشاعر: "طبيب يداوي الناس وهو عليل"، وكان يقصد أنّي أقوم بتعليم غيري كيف يعاملون الناس، بينما لا أعرف كيف أعامل الناس[3] .
الميزة الرابعة: إنّ التداخل مع الناس يمثل رافدًا حيويًّا للأفكار والمعلومات والتجارب، وكما قيل «العلم كلّه في العالم كلّه»، وأعلم الناس من جمع علوم الناس إلى علمه، وعقولهم إلى عقله، وكلّما ارتبط الإنسان بأيِّ طرف، انفتحت أمامه نافذة غنية بالتجارب، لذلك نجد أنّ الإنسان المنفتح على الآخرين، عادةً ما تكون لديه معلومات واسعة، وأفكار متنوعة، من خلال احتكاكه بالآخرين، واطلاعه على تجاربهم.
وورد عن أمير المؤمنين علي أنه قال: «عَلَيكَ بِمُجالَسَةِ أصحابِ التَّجارِبِ؛ فَإِنَّها تُقَوَّمُ عَلَيهِم بِأَغلَى الغَلاءِ، وتَأخُذُها مِنهُم بِأَرخَصِ الرُّخصِ»[4] .
أما الميزة الخامسة: فهي أنّ تداخل الإنسان مع محيطه الاجتماعي، يسهم في تمتين الرابطة والتماسك في المجتمع، حيث أنّ المجتمع الذي يهتم أبناؤه بالتواصل والتعاون فيما بينهم، تكون درجة التماسك، وحال التكافل، فيه أقوى وأفضل، ولا شك أنّ قوة المجتمع تنعكس على أفراده.
والميزة السادسة: أنّ التداخل الاجتماعي يشكّل فرصة ثمينة للإنسان، للتبشير بأفكاره ووجهات نظره، فإذا كان لدى أيّ شخص أو جماعة، آراء دينية، أو سياسية، أو ثقافية، وكان هناك اهتمام بنشر هذه الأفكار والآراء في المحيط الاجتماعي، فمن الطبيعي أن يمثل التداخل مع الناس قناة مهمّة لبث تلك الأفكار، وتعريف المجتمع بها، وعلى النقيض من ذلك سيلف الغموض صورة وأفكار أيّ جهة إذا ما اتّسمت بالانكفاء على نفسها.
كما أنّ تداول الآراء والأفكار من خلال العلاقات الاجتماعية، يتيح الفرصة والمجال لبلورتها وتصحيحها وتطويرها، بينما إذا انطوى الإنسان على نفسه، ولم يبدِ آراءه للآخرين، فقد تخفى عليه ثغراتها ونقاط ضعفها.
الميزة السابعة: إنّ التعارف والتواصل مع الناس يمثل سببًا لمرضاة الله تعالى، ونيل الأجر والثواب. وهو ما يبتغيه ويسعى إليه كلّ مؤمن. فكما يتقرب إلى الله تعالى بالصلاة وسائر العبادات، يمكنه التقرب إلى الله تعالى بالعلاقات الطيبة مع عباده.
الإسلام دعوة إلى التعارف والانفتاح
إنّ الله تعالى يخاطب الناس جميعًا ليدعوهم إلى التعارف والانفتاح فيما بينهم، حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. [سورة الحجرات، الآية: 13]. فتنوع الانتماءات بين بني البشر، لا يعني انطواء كلّ جهة أو فئة على نفسها، بل يجب أن يكون دافعًا وحافزًا للتعارف والانفتاح، ليستفيد الناس بعضهم من بعض، ويتبادلون الأفكار والتجارب، فتتكامل وتتطور المسيرة الإنسانية.
وقد ورد عن رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: «المُؤمِنُ يألَفُ ويُؤلَفُ ولا خيرَ فيمَنْ لا يألَفُ ولا يُؤلَفُ»[5] .
وجاءت النصوص الدينية تحثّ على كسب الأصدقاء والإخوان، ليس لتحقيق المصالح الدنيوية فقط، وإنّما لنيل المكاسب في الآخرة أيضًا، ويشير النبي الأكرم فيما روي عنه إلى هذا البعد الأخروي في العلاقة مع الآخرين بقوله : «اِستَكثِروا مِنَ الإِخوانِ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ مُؤمِنٍ شَفاعَةً»[6] ، فلعلّ هذا الصديق في الدنيا يكون هو المنقذ في الآخرة، ولا يدري المرء على يد من تكون الشفاعة له يوم القيامة.
بعض الأشخاص قد لا يبدو لك أنّ له شأنًا رفيعًا، وإذا بك تراه يوم القيامة وجيهًا عند الله تعالى، ومن أهل الشفاعة، وببركة معرفتك به يقول: يا ربّ، هذا من أصدقائي، فيأتيه النداء: خذه معك إلى الجنة!.
ورد عن أمير المؤمنين علي : «أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الْإِخْوَانِ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ»[7] .
إنّ اكتساب الإخوان لا صعوبة فيه، إذا توجه الإنسان إلى الاستزادة من الأصدقاء حقّق ما يريد، فلماذا لا تكسب أصدقاء؟!
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «مَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْإِخْوَانِ ابْتُلِيَ بالخُسْرانِ»[8] .
فكلّ صديقٍ تتعرف عليه، يشكّل مكسبًا، فإذا لم تستكثر من الإخوان تكون قد حرمت نفسك خيرًا كثيرًا.
وقد أكد عدد من علماء الاجتماع المعاصرين أنّ للإنسان دائرة داخلية من الروابط القوية، مكوّنة من الأشخاص الذين يتحدث معهم غالبًا، ويشعر بالقرب منهم، وهناك دائرة خارجية من الروابط الضعيفة، تتكون من المعارف الذين يراهم بعض الأحيان، أو بشكل عابر، ويضيف هؤلاء العلماء بأنه قد يكون تأثير هذه الدائرة الواسعة أكثر في حياة الإنسان من الدائرة الضيقة.
استثمار المناسبات والبرامج الدينية
إنّ المشاركة في المناسبات والبرامج الدينية، تمثل فرصة مهمّة لتعزيز البعد الاجتماعي في شخصية الإنسان، وتساعد على تكوين شبكة واسعة من العلاقات، تمنح الإنسان مكاسب نفسية وفكرية وعملية ومعنوية، فعلى الإنسان أن يحرص على المشاركة فيها، والاهتمام باستثمارها على هذا الصعيد، بالانفتاح على سائر المشاركين، والتعرف عليهم، وتوثيق العلاقة المفيدة معهم.
ورد عن رسول الله «رَأْسُ اَلْعَقْلِ بَعْدَ اَلْإِيمَانِ بِاللَّهِ اَلتَّحَبُّبُ إِلَى اَلنَّاسِ»[9] .
وفي كتاب وسائل الشيعة باب بعنوان (استحباب سؤال الصاحب والجليس عن اسمه وكنيته ونسبه وحاله وكراهة تركه)، ومما جاء في هذا الباب، ما روي عن رسول الله : «اَلْعَجْزُ، أَنْ يَصْحَبَ اَلرَّجُلُ مِنْكُمُ اَلرَّجُلَ أَوْ يُجَالِسَهُ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْ هُوَ وَمِنْ أَيْنَ هُوَ فَيُفَارِقَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ»[10] .
وفي حديث آخر عنه : «إِنَّ مِنْ أَعْجَزِ اَلْعَجْزِ رَجُلٌ يَلْقَى رَجُلًا فَأَعْجَبَهُ نَحْوُهُ فَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنِ اِسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَمَوْضِعِهِ»[11] .
وورد عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين : «لاَ تُعَادِيَنَّ أَحَدًا وَإِنْ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لاَ يَضُرُّكَ وَلاَ تَزْهَدَنَّ فِي صَدَاقَةِ أَحَدٍ وَإِنْ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُكَ فَإِنَّهُ لاَ تَدْرِي مَتَى تَخَافُ عَدُوَّكَ»[12] .
وروى اَلْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِاَللَّهِ [الإمام جعفر الصادق] فَقَالَ لِي: «مَنْ صَحِبَكَ؟» فَقُلْتُ لَهُ: رَجُلٌ مِنْ إِخْوَانِي، قَالَ: «فَمَا فَعَلَ؟» قُلْتُ: مُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ أَعْرِفْ مَكَانَهُ، فَقَالَ لِي: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ صَحِبَ مُؤْمِنًا أَرْبَعِينَ خُطْوَةً سَأَلَهُ اَللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ»[13] .