تقديم لكتاب: مُدَوّنة الذّاكِرَة.. بحوث تراثية ورحلات وحوارات

 

الكتاب: مُدَوّنة الذّاكِرَة..  بحوث تراثية ورحلات وحوارات

المؤلف: لسيد علي باقر الموسى

الناشر: جواثا للنشر، بيروت - لبنان، دار روافد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان.

الطبعة الأولى، 1446هـ - 2024م

بسم الله الرحمن الرحيم

من أصدق تجليات عشق الوطن، الاهتمام بتاريخه الحضاري، وإحياء تراثه الثقافي، ذلك أن تاريخ أي مجتمع، وعطاءه المعرفي، هو الذي يرسم شخصية ذلك المجتمع بين المجتمعات الإنسانية، ويبرز اسهامه في حركة التاريخ، ومسيرة الحضارة.

كما يشكل التراث التاريخي والثقافي مصدر إلهام، ومنبع ثقة واعتزاز، لأبناء كل مجتمع، ولأجياله الصاعدة.

وفي الصراع بين الحضارات والمجتمعات، يكون التراث التاريخي ميدانًا من ميادين التنافس والمواجهة، حيث يُستهدف تاريخ المجتمع وتراثه، من قبل الجهات المناوئة المعادية، وذلك بتشويه تاريخه، وتغييب تراثه، لإضعاف هُويته، وتحطيم الثقة في نفوس أبنائه.

لكن الاستهداف الخارجي ليس هو السبب الوحيد لضياع تاريخ وتراث المجتمع، فهناك عامل آخر من الداخل، يتمثل في إهمال وتقصير أبناء المجتمع ذاته، تجاه تاريخهم وتراثهم، بسبب غياب الوعي الحضاري، واهتزاز الثقة بالذات، والاستغراق في الاهتمامات المادية، على حساب القيم المعنوية، والتطلعات الإنسانية.

وإذا ما اجتمع عامل الاستهداف من الخارج، وعامل الإهمال من الداخل، فستكون الخسارة فادحة على تاريخ ذلك المجتمع وتراثه.

وهذا ما حصل لبعض مجتمعاتنا في الحقب الماضية، حيث فُقدت معالم كثيرة من تاريخها، وغابت صور كثير من رجالاتها ورموزها، وتعرّض معظم تراثها العلمي والأدبي للضياع والفقدان.

لكن ما يعزز الأمل والتفاؤل، انبعاث روح جديدة في نفوس طليعة من أبناء المجتمع، أدركوا عمق الحيف والظلم الواقع على تاريخهم الوطني، وتراث مجتمعهم الثقافي، وأيقنوا أن نهوض المجتمع، وحركته لبناء الحاضر، وصناعة المستقبل، تتأثر بمستوى وعيه بتاريخه وتراثه الحضاري، فتحفّزوا للقيام بمبادرات تنقذ ما يمكن إنقاذه من التراث المفقود والمنسي، وتسعى لاستكشاف المناطق المجهولة من تاريخ الوطن والمجتمع.

وتلك مهمة كبيرة توجهها صعوبات وعوائق، وتتطلب جهودًا وتضحيات، وتستلزم رصد قدر كبير من القدرات والإمكانات.

ولكي تنجح هذه المبادرات الريادية في انجاز تطلعها الحضاري، لابد وأن تحظى بدعم اجتماعي، وان تتحول إلى عمل ونشاط مؤسسي، تتظافر في إطاره الجهود، وتتكامل الطاقات، ويؤمن الاستدامة والاستمرارية.

وبين أيدي القراء الكرام أنموذج لأحدى تلك المبادرات الريادية في إحياء التراث، وهي مدونة مهمة ثرية، تحكي وتوثق بعض جهود مؤلفها في خدمة تاريخ الوطن وتراث المجتمع.

تضم هذه المدونة أبحاثًا عن مؤلفات مخطوطة لعلماء من الوطن، تقاذفتها البلدان، وطوتها قرون من النسيان، كما تقدم قراءة في تراجم بعض الشخصيات العلمية والأدبية، للكشف عن انتمائها غير المعروف لهذا الوطن، أو للتحقيق في بعض جوانب سيرتها، وتسليط الأضواء على بعض الأحداث المرتبطة بها.

وتحتوي المدونة فصولًا من أدب الرحلات، حيث وثق المؤلف يوميات بعض رحلاته وأسفاره، للبحث عن التراث الوطني وآثار أعلام المجتمع، والتعرف على المخطوطات والوثائق المهاجرة إلى مختلف البلدان.

ومؤلف هذه المدونة هو الصديق العزيز الباحث الفاضل سماحة السيد علي السيد باقر الموسى، الذي أسر قلبه عشق وطنه، وامتلك نفسه حب مجتمعه، فاندفع بجدية وإخلاص، لخدمة تراث هذا الوطن المجيد والمجتمع العريق.

وقد اجتمعت في شخصيته الكريمة، عناصر قوة تؤهله للنجاح والانجاز المتميز على هذا الصعيد، فهو من أبناء الحوزة العلمية، حيث التحق بها في ريعان شبابه، وقطع شوطًا في دراسة العلوم الشرعية، فحين يكتب في سير العلماء والفقهاء، ويحقق المؤلفات العلمية والأدبية، فإنه يمتلك الأدوات المعرفية التي تمكنه من دقة البحث والتحليل.

كما أن انفتاحه على الآفاق الثقافية الواسعة، عبر التثقيف الذاتي، ومتابعة التطورات الفكرية والاجتماعية، في ساحة الوطن والأمة، أكسبه نضجًا في الوعي، وعمقًا في معرفة التيارات والتوجهات.

وهناك صفة مهمة في شخصيته خدمت مشروعه الريادي لأحياء التراث، وهي مهارته البارعة في فتح أبواب العلاقات، وصنع شبكة الأصدقاء والمعارف، فهو يتواصل مع مختلف الأطراف دون حواجز، ويبادر للتعرف على الآخرين والسعي للقائهم، ويتبادل الخدمات المعرفية مع الباحثين والمهتمين بشؤون التراث.

أسأل الله تعالى للمؤلف الكريم المزيد من التوفيق في خدمة دينه ومجتمعه، وأن يكلل سعيه وجهوده لإحياء التراث الوطني بالتقدم والنجاح، وأرجو أن يكون نشر هذه المدونة حافزًا ودافعًا لأبناء المجتمع للاهتمام بتاريخهم وتراثهم، ودعم الجهود والمبادرات الرائدة لإحيائه.

حسن موسى الصفار

22 جمادى الآخرة 1443هـ

25 يناير 2022م