الزهراء والأمومة النموذجية
قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾. [سورة لقمان، الآية: 14].
إذا كانت الأدوار والوظائف تقاس بمدى أهمية منتجاتها، ومستوى تأثيرها في الحياة، فإنّ دور الأمومة هو أعظم دور ووظيفة في المجتمع الإنساني؛ لأنه يُعنى بصناعة الإنسان خلقًا وخُلُقًا، وجسمًا وروحًا.
فخلقة الإنسان وتكونه يحصل في أحشاء الأم، حيث تستقبل البويضة في رحمها الحويمن المنوي من الرجل، ثم يبدأ تخليق الجنين طورًا فطورًا ومرحلة فمرحلة، حتى يتكامل بناؤه وتستوي خلقته، متغذيًا من دمها، مستنزفًا من قوتها، مستهلكًا لجهدها.
يقول تعالى: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ﴾. [سورة الزمر، الآية: 6].
إنّ أحشاء الأم هي المصنع الذي يتكون فيه الإنسان، ثم يصبح حضنها معهد تنميته وتنشئته.
فهي صاحبة الدور المركزي الكبير في وجود الإنسان، وهذا ما يُصرّح به قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾. [سورة لقمان، الآية: 14].
ويقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾. [سورة الأحقاف، الآية: 15].
ففي الآيتين الكريمتين وصية بالوالدين، لكنّ الحديث فيهما يتمحور حول دور الأم، باعتباره الدور الأهم والأكبر.
وللأم دور أساس في مرحلة التربية والتنشئة، حيث السنوات التأسيسية لبناء شخصية الإنسان، وتنمية مشاعره وأحاسيسه ومداركه، فهي تشبع حاجته الكبيرة للحنان والشعور بالأمن، وتغدق عليه من حبّها وعطفها، إلى جانب إشباع حاجاته الجسمية الأخرى.
الأمومة إعداد واختيار إلهي
وقد أعدّ الله تعالى المرأة للقيام بهذا الدور الكبير والوظيفة المميزة، ليطوّق بفضلها أعناق الرجال، فمهما بلغ الرجل من العظمة والشأن، فهو مدين لفضل أمه، وواجب عليه برّها وتقديرها أولًا وقبل كلّ أحد.
ورد عن هشام بن سالم عن الإمام جعفر الصادق قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ أَبَاكَ»[1] .
وروي عن أنس عن رسول الله : «الجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الاُمَّهَاتِ»[2] . وهو حديث ضعيف السند، لكن معناه صحيح ثابت في حديث آخر وهو قوله للذي جاءه يستأذنه في الغزو معه وله أم: «الْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا»[3] .
إنّ الأمومة نزعة إنسانية فطرية في كيان المرأة، بل في كيان الأنثى في جميع الكائنات الحيّة، حيث اقتضت الإرادة الإلهية أن يستمرّ وجود هذه المخلوقات عبر سنّة التوالد والتناسل.
والأمومة دور اختاره الله تعالى للمرأة، لتشارك من خلاله في استدامة الحياة، وعبر أدائها لهذا الدور تتكامل شخصيتها الإنسانية، وتنمو وتتفاعل طاقاتها النفسية، ويمتدّ وجودها في الحياة بذريتها ونسلها، وتنال عظيم المقام والشأن في الآخرة عند الله سبحانه وتعالى.
الثقافة الغربية وإضعاف دور الأمومة
من المؤسف أنّ الثقافة المادية السائدة، وقد أخذت منحى مخالفًا للفطرة ولمصلحة الحياة الإنسانية، أصبحت تعمل لإضعاف دور الأمومة في الوسط النسائي، وعدم الإقبال عليه، وذلك بتضخيم النزعة الأنانية الذاتية، ودفع المرأة لإعطاء الأولوية للمكاسب المادية، والملذات والرغبات الآنية، والعزوف عن الزواج، وعن تحمّل أعباء الأمومة، وذلك ما سبب تراجعًا في معدلات الخصوبة والإنجاب على المستوى العالمي، خاصة في المجتمعات المتقدمة التي تسودها الثقافة المادية بدرجة كبيرة.
وتظهر البيانات أنّ معدّل الخصوبة العالمي، أي متوسط عدد المواليد لكلّ امرأة، انخفض من حوالي 5 أطفال في عام 1950 إلى 2.2 في عام 2021.
وبحلول عام 2021، كان لدى 110 دول وأقاليم، أي 54%، معدلات أقلّ من مستوى إحلال السكان البالغ 2.1 طفل لكلّ امرأة.
وبعض الدول مثل كوريا الجنوبية وصربيا، يقل معدّل الخصوبة عن 1.1 طفل لكلّ امرأة، مما يعرضها لتحدّيات ترتبط بانكماش القوى العاملة[4] .
وتتباطأ معدلات المواليد في العديد من الدول، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وبورتوريكو والبرتغال.
لكنّ تقلّص عدد السكان هو مصدر قلق كبير لإيطاليا، ثالث أكبر دولة في منطقة اليورو.
ويمكن أن تفقد البلاد ما يقرب من خمس سكانها بحلول عام 2050. وفي الوقت نفسه، يتقدم السكان في السن بسرعة، فقد تضاعف عدد المعمّرين في إيطاليا ثلاث مرات خلال العشرين عامًا الماضية.
وغالبًا ما يطلق على إيطاليا لقب "بلد أسرّة الأطفال الفارغة". حتى إنّ إيلون ماسك غرّد الشهر الماضي قائلًا: "إيطاليا تختفي!"[5] .
وقال باحثون: إنّ أكثر من ثلاثة أرباع المواليد الأحياء سيكونون في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل بحلول نهاية القرن[6] .
وأظهرت إحصاءات مصدرها بيانات للأمم المتحدة أنّ معدلات المواليد انخفضت في السعودية بنسبة 67% في العام الحالي، مقارنةً بمعدّلات المواليد في عام 1950م، حيث كان عدد المواليد حينذاك 53.34 لكلّ ألف شخص، وتراجع هذا العدد في العام الحالي 2023 ليصل إلى 15.7 لكلّ 1000 نسمة، بانخفاض بنسبة 2.88% عن معدّل المواليد في 2022م؛ الذي كان عند 16.16 مولود لكلّ 1000 نسمة[7] .
إنّ نسبة الخصوبة في منطقة الخليج متراجعة بشكل يثير القلق، إذ يبلغ معدل الخصوبة الإجمالي لمنطقة دول مجلس التعاون الخليجي 1.8 في عام 2022، وهو أقلّ من 2.0، وهو المعدّل العالمي لمستوى الإحلال اللازم للحفاظ على ثبات عدد السكان. وبحسب موقع «مارمور» الإحصائي، فإنه من المتوقع أن ينخفض معدّل الخصوبة الإجمالي إلى 1.15 بحلول عام 2060، مما سيؤدي إلى انخفاض كبير في عدد السكان بدول مجلس التعاون.
ويقول أحد الباحثين: إنّ التراجع الكبير في أعداد ونسب المواطنين بمعظم دول الخليج يشكّل تهديدًا ناعمًا للمنطقة بما تملكه من موارد وقدرات يغبطها عليها المحب ويحسدها عليها المبغض. وعليه، فلا بُدّ من تضافر جهود المسؤولين في المنطقة لرفع مستوى الإنجاب بما لا يقلّ عن دول الجوار من أجل حفظ الاستقرار الاجتماعي والثقافي للمنطقة، حتى لو تم تقديم امتيازات للمواطن الذي يزيد عدد أولاده على الأربعة من تسهيلات مالية أو لوجيستية تساعده في رعاية الأولاد وتوفير حياة كريمة لهم. إنّ التقدم العمراني الذي تعيشه المنطقة يستهدف المواطنين بالدرجة الأولى، فهم الزبائن والمستهلكون للسلع المعروضة، وهم بناة الأوطان والجنود الذين يحمونها ويفدونها[8] .
تربية الكلاب بديلًا عن الأطفال
ونجد في المجتمعات الغربية توجهًا لصرف فائض العاطفة الإنسانية على تربية الكلاب، بديلًا لتربية الأطفال، وهي تقليد مرشح للانتشار في سائر المجتمعات المتأثرة بالثقافة المادية الغربية.
وقد اعتبر البابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، أنّ الأشخاص الذين يختارون رعاية الحيوانات الأليفة، بدلًا من إنجاب أطفال، هم أشخاص يتصرفون بأنانية.
وأضاف "في بعض الأحيان ينجبون طفلًا واحدًا، ويكتفون بذلك، ثم يقتنون الكلاب والقطط، التي تحلّ محلّ الأطفال".
واعتبر البابا أنّ هذا التصرف "رفض لممارسة الأبوة، والأمومة، ويؤدي لتناقصنا، وينزع عنّا إنسانيتنا".
وقال البابا: إنّ اقتناء الحيوانات الأليفة بدلًا عن إنجاب الأطفال "ظاهرة أخرى تعبّر عن التراجع الحضاري" لأنّ العلاقة العاطفية مع الحيوانات "أسهل" من العلاقات العاطفية "المعقدة" بين الآباء، وأطفالهم[9] .
وحذّر البابا من أنّ الحيوانات الأليفة تحلّ محلّ الأطفال في بعض المنازل، وروى كيف فتحت امرأة حقيبتها وطلبت منه "أن يبارك طفلها".
إلّا أنه لم يكن طفلًا، بل كلبًا صغيرًا.
وأضاف: "فقدتُ صبري وقلت لها: هناك الكثير من الأطفال الجياع وأنت تحضرين لي كلبًا؟"، مما أثار موجة من التصفيق من الجماهير[10] .
شرائط التربية النموذجية
وإذا كان أصل القيام بدور الأمومة يستحقّ الإكبار والتقدير، فإنّ مستوى أداء هذا الدور، يتفاوت بتفاوت مستوى وعي الأم وإخلاصها، وتطلّعها إلى إيصال أولادها إلى مدارج متقدمة من الصلاح والكمال.
وذلك إنّما يتحقق عبر الشرائط التالية:
أولًا: الوعي وإدراك المسؤولية، وامتلاك الطموح، يدفع الأم للاهتمام أكثر بتنشئة الأولاد وتربيتهم.
ثانيًا: اكتساب المعرفة والخبرة يمكّن الأم من اتباع أفضل طرائق وأساليب التربية.
ثالثًا: بذل الجهد الأكبر، والمساحة الأوسع من الوقت للاهتمام بالأولاد، يتيح لهم الفرصة المطلوبة للاستفادة من عطاء الأم، وحسن تربيتها.
رابعًا: مستوى الالتزام القيمي والأخلاقي للأم هو ما يؤهل الأولاد أكثر لتمثل الصفات الكريمة الفاضلة عن طريق المحاكاة والاتباع، وترسيخ القيم والسلوك الإيجابي في نفوسهم وحياتهم.
وهنا نجد أنّ سيرة البضعة النبوية فاطمة الزهراء تقدّم صورة الأمومة النموذجية، فقد أنجبت في عمرها القصير خمسة مواليد، الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، وآخرهم سقط عرف بالمحسن.
مع شدّة وصعوبة الظروف التي عاشتها الصديقة الزهراء ، حيث كان زواجها وإنجابها وحياتها العائلية، في ظلّ ظروف الكفاح المرير الذي كان يخوضه أبوها رسول الله ، وبعلها أمير المؤمنين علي ، في تبليغ الرسالة، وبناء المجتمع، ومواجهة الأعداء من مشركين ويهود ومنافقين.
إلّا أنّ كلّ ذلك لم يمنع الزهراء عن تقديم النموذج الأمثل في الأمومة والتربية الصالحة، فقد تخرج من أحضانها سيّدا شباب أهل الجنة وعقيلة الهاشميين بطلة كربلاء زينب، وأختها الفاضلة الكريمة أم كلثوم.
ومع محدودية ما سجّله التاريخ من سيرة الصديقة الزهراء ، إلّا أنّه يعرض لنا عددًا من المشاهد والصور، لما كانت تغمر به أولادها من حبٍّ وحنان، ولاهتمامها بالحديث لهم عن معارف الدين ومكارم الأخلاق، كما يظهر من رواياتهم عنها، ولأنّها جسّدت أمامهم القدوة الحسنة، بسيرتها وسلوكها في العبادة والزهد والعطاء للآخرين، والتضحية وتحمّل مسؤولية الدفاع عن الدين إلى آخر أيام حياتها.