القرب من الله
قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴿١٠﴾ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾. [سورة الواقعة، الآيتان: 10-11].
إنّما يهتم الإنسان بالقرب والاقتراب من أحدٍ، إذا كانت لديه أحد الدوافع التالية:
أولًا: المحبة؛ فمن يحبّه وتنشد نفسه إليه. يشعر بالراحة والسرور والبهجة حال القرب منه.
ثانيًا: المقام والشأن؛ فمن له مقام وشأن في نفسه، أو في الواقع الاجتماعي. يجد في الاقتراب منه شيئًا من الحظوة، والمكانة الاجتماعية.
ثالثًا: الحاجة؛ فمن يحتاج إليه يكون القرب منه طريقًا للحصول على حاجاته منه.
ويفترض في الإنسان المؤمن بالله تعالى، أن يكون أحرص على القرب منه تعالى، من القرب إلى أيّ جهة أخرى، لتوفر كلّ هذه الدوافع بأعلى مستوى ودرجة.
دوافع القرب من الله
فإذا كانت المحبة دافعًا للقرب من أحد، فحب الله هو أساس ومنبع كلّ حب في قلب الإنسان المؤمن، ولا شيء أحب عنده من الله.
يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾. [سورة البقرة، الآية: 165].
والإيمان الصادق بالله تعالى يستلزم كون محبة الله فوق كلّ محبة.
جاء عن رسول الله : «اَللَّهُمَّ اجْعل حُبَّكَ أَحَبَّ اَلْأَشْيَاءَ إِلَيَّ»)[1] .
وورد عن الإمام جعفر الصادق : «لاَ يُمَحِّضُ رَجُلٌ اَلْإِيمَانَ بِاللَّهِ حَتَّى يَكُونَ اَللَّهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَوُلْدِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ وَمِنَ اَلنَّاسِ كُلِّهِمْ»[2] .
وفي مناجاة الإمام علي بن الحسين زين العابدين: «اَللّـهُمَّ اِنّي أَسْاَلُكَ أنْ تَمْلاَ قَلْبي حُبًّا لَكَ»[3] .
ولا يوجد من هو أعظم مقامًا وشأنًا من الله في نفس الإنسان المؤمن، والله هو القوة الحقيقية المهيمنة على الوجود، فكلّ شيءٍ بيده.
وكلّ ما يحتاج إليه الإنسان فهو بيد الله تعالى، لذلك جاء عن رسول الله : «أَحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بهِ مِن نِعَمهِ»[4] .
من هنا فإنّ القرب من الله تعالى هو باعث العبادة والحركة في حياة الإنسان المؤمن، وذلك ما يستحضره في نفسه عند الشروع في كلّ عبادة وطاعة، حيث ينوي أنّها قربة لله تعالى. أي من أجل التقرب إليه.
ولكن ماذا يعني الاقتراب والقرب من الله تعالى؟
إنّه تعالى ليس جسمًا، ولا يحدّه مكان ولا زمان، فالمقصود هو القرب والاقتراب المعنوي، أي القرب من رضاه ورحمته. والسعي للتحلّي بالصفات التي يوصف بها تعالى، كالحكمة والعلم والرحمة والجود والعفو، فبمقدار ما تجسّد من هذه القيم والصفات، يكون قربك من الله تعالى.
الترحيب الإلهي بالمقتربين
إنّ أيّ جهة يريد الإنسان القرب والاقتراب منها، قد لا يضمن موافقتها، وقد لا تفسح المجال له للاقتراب منها. فقد ترغب أنت في القرب من عالم أو مرجع ديني مثلًا، لكنّ الفرصة لا تتاح لك، إما لبعد مكانه عنك، أو لظروف لا تجعل اللقاء به فضلًا عن القرب منه ميسورًا. وقد لا يرغب هو في اقترابك منه.
وكذلك الحال لو أردت الاقتراب من صاحب سلطة أو ثروة أو كفاءة، أو من انجذبت إليه نفسيًّا، فقد يكون الحب من طرف واحد. وهذه معاناة كثير من المحبّين والعاشقين والطامحين.
لكنّ الأمر مختلف بالنسبة إلى العلاقة مع الله تعالى، فإنه بلطفه وفضله منفتح على عباده، وأبوابه مشرعة لهم جميعًا، الكبير والصغير، والغني والفقير، والقوي والضعيف، بل وحتى المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي.
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾. [سورة البقرة، الآية: 186].
وفي الدعاء عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين : «وَأنّكَ لا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقَكَ إلّا أنْ تَحْجِبُهُم الأعْمَالُ دُونَكَ»[5] .
وفي دعاء آخر عنه : «الْقَرِيبُ إِلَى مَنْ حَاوَلَ قُرْبَكَ»[6] .
وجاء في دعاء آخر عنه : «يَا مَنْ يَدْنُو إِلَى مَنْ دَنَا مِنْهُ»[7] .
معادلة معكوسة
إنّها معادلة معكوسة، قياسًا بمعادلات العلاقات الاجتماعية التي نعرفها ونعيشها، فالله القوي العظيم، يخطب ودّ عبده المخلوق الضعيف الفقير.
كما نقرأ في دعاء الافتتاح: «فَلَمْ أَرَ مَوْلًى كَرِيمًا أَصْبَرَ عَلَى عَبْدٍ لَئِيمٍ مِنْكَ عَلَيَّ يَا رَبِّ، إِنَّكَ تَدْعُونِي فَأُوَلِّي عَنْكَ، وَتَتَحَبَّبُ إِلَيَّ فَأَتَبَغَّضُ إِلَيْكَ، وَتَتَوَدَّدُ إِلَيَّ فَلَا أَقْبَلُ مِنْكَ، كَأَنَّ لِيَ التَّطَوُّلَ عَلَيْكَ، فَلَمْ يَمْنَعْكَ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ بِي وَالْإِحْسَانِ إِلَيَّ»[8] .
وعَن يزِيد بن نعيم قَالَ سَمِعت أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيّ وَهُوَ على الْمِنْبَر بالفسطاط يَقُول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ شِبْرًا، تَقَرَّبَ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، تَقَرَّبَ اللَّهُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ أَقْبَلَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَاشِيًا، أَقْبَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ مُهَرْوِلًا، وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ»[9] .
بين الاقتراب والتقريب
هناك محاولة وسعي من العبد للقرب من الله، وهناك تقريب من الله للعبد، وهي تعني قبول الله تعالى لسعي عبده، وتفضّله عليه، بأن يجعله من المقرّبين إليه، وهو المصطلح الذي استخدمه القرآن الكريم في عدد من الموارد والآيات. منها قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴿١٠﴾ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾. [سورة الواقعة، الآيتان: 10-11].
ويقول تعالى: ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿٨٨﴾ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾. [سورة الواقعة، الآيتان: 88-89].
ويقول تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾. [سورة المطففين، الآية: 28].
صفات المقرَّبين من الله
ولكن كيف يقترب الإنسان من الله تعالى؟
تشير النصوص الدينية إلى أهمّ مواصفات القريبين والمقرّبين إلى الله تعالى، نذكر منها:
1/ المبادرة والسبق إلى الخير، وذلك يدلّ على الوعي واكتشاف موارد الخير قبل الآخرين، ويدلّ على عمق الرغبة للخير في النفس، ووجود الإرادة والاندفاع الذاتي لعمل الخير.
يقول تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴿١٠﴾ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾. [سورة الواقعة، الآيتان: 10-11].
2/ الابتعاد عن محارم الله، جاء في الكافي عن الإمام جعفر الصادق : «فِيمَا نَاجَى اَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مُوسَى صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِ: يَا مُوسَى؛ مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ اَلْمُتَقَرِّبُونَ بِمِثْلِ اَلْوَرَعِ عَنْ مَحَارِمِي»[10] .
3/ سعة الخلق مع الناس، جاء عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين : «إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنَ اللَّهِ أَوْسَعُكُمْ خُلُقاً»[11] .
4/ قول الحقّ والعمل به، ورد عن أمير المؤمنين علي : «أَقْرَبُ اَلْعِبَادِ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى أَقْوَلُهُمْ لِلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَأَعْمَلُهُمْ بِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ كُرْهُهُ»[12] .
5/ التواضع وعدم التكبّر، ورد عن الإمام جعفر الصادق : «فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى دَاوُدَ : يَا دَاوُدُ، كَمَا أَنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْمُتَوَاضِعُونَ، كَذَلِكَ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْمُتَكَبِّرُونَ»[13] .
6/ السعي للإصلاح بين الناس، ورد عن الإمام موسى الكاظم : «مَكْتُوبٌ فِي اَلْإِنْجِيلِ: طُوبَى لِلْمُصْلِحِينَ بَيْنَ اَلنَّاسِ، أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُقَرَّبُونَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ»[14] .
التطلع للقرب من الله
فليتطلّع كلّ واحد منّا، أيّها الأخوة والأخوات، للانفتاح أكثر على الله، والاقتراب والتقرب إليه عسى أن نكون من المقربين.
إنّ السعي للقرب من الله تعالى يملأ نفس الإنسان سكينة وطمأنينة، ويمنحه الهمّة والنشاط للتّحلّي بأكمل الصفات، ويؤهّله للنعيم الأكبر في الآخرة. ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴿٨٨﴾ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ﴾.