في جلسة حوارية بسلطنة عمان
الشيخ الصفار يُناقش جذور التطرّف وتأصيل مبدأ التعددية والتعايش
ناقش سماحة الشيخ حسن الصفار جذور التطرّف التي تشكو منها كثير من المجتمعات الإسلامية، مؤكداً أن رفض الاعتراف بمشروعية الرأي الآخر، والسعي لفرض رأي واحد على الناس، يشكّل أرضية خصبة للتطرّف.
ودعا إلى تأصيل التعددية، وإحياء روح التعايش في المجتمعات الإنسانية بشكلٍ عام، وفي أوساط المجتمع الإسلامي بشكلٍ خاص.
جاء ذلك ضمن الجلسة الحوارية التي نظّمها النادي الثقافي بسلطنة عمان مساء الأربعاء 3 جمادى الآخرة 1446هـ الموافق 4 ديسمبر 2024م، بعنوان: الإنسان والآخر.. نقد جذور التطرف.
وفي مستهلّ حديثه أكد الشيخ الصفار أن التعددية ليست ظاهرة طبيعية بشرية فحسب، بل هي ظاهرة كونية، أكّدها القرآن الكريم في العديد من آياته الكريمة حين يتحدث عن اختلاف الثمرات، واختلاف أنواع الجبال، والاختلافات داخل البشر أنفسهم حيث يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾.
وأضاف: التعددية سمة كونية، وجمال الكون يكمن في هذه التعددية القائمة بين مخلوقاته، أرأيت لو ذهبت إلى حديقةٍ ذات أزهارٍ وورود، فإن ما يظهر لك من جمالها وبهائها، بتعدد الأشكال والألوان فيها أكثر مما لو كانت من لون ونوع واحد.
مؤكداً أن الله تعالى خلق البشر ضمن مبدأ التعدية، ولا إرادة للبشر في ذلك، فالله سبحانه قد منح البشر القدرة على التفكير، ومن الطبيعي أن ذلك يُنتج آراءً وأفكاراً متعددة، فإذا أردت أن تمنع التعددية فما عليك سوى أن تسلب الناس قدرتهم على التفكير، وهذا محال!
مشيراً إلى أن الله سبحانه قد أنزل القرآن الكريم خاتمةً للأديان السماوية، ورغم ذلك فإنه يُقرّ بوجود أتباع الأديان الأخرى، يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
وتجاه حالة التعدد التي تُمثّل واقعاً طبيعياً في الحياة والكون، وفي الذات الإنسانية، أكد الشيخ الصفار على الإقرار بوجود التعددية واحترامها، مبينًا أن هذا صريح القرآن الكريم.
وأضاف: إن التعامل مع التنوع والتعدد، كواقع ينبغي التعايش معه. مؤكدًا أن الله تعالى لو لم يُقرّ هذا التعدد لما سمح بوجوده.
وبيّن أن الله سبحانه في القرآن الكريم كرّم بني آدم عموماً دون تخصيص، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.
وفي سياق إجابة الشيخ الصفار على سؤالٍ حول الدولة الوطنية اليوم، وهل يُمكن تصنيفها بأنها دولة إسلامية أم دولة غير إسلامية أم دولة وطنية؟ أكد أن هذه التوصيفات إنما جاءت متأخرة، ففي عصور الإسلام الأولى لم تكن مطروحة، وكانت الدولة تُمثّل المجتمع الذي ينتمي إليها، وباعتبار أن المجتمع كانوا في معظمهم مسلمين، كانت الدولة تعتبر دولة المسلمين.
وأضاف: إن هذه الدولة التي يحكمها الدين كانت تعترف بحقوق المواطنة لغير المسلمين، ومن ذلك صحيفة المدينة التي أقرّها رسول الله مع اليهود في المدينة المنورّة. وفي سيرة الإمام علي وسائر الخلفاء الراشدين ما يؤكد وجود التعدد والتنوع داخل الدولة الإسلامية، ووجود الإعتراف به وحماية حقوق المواطنة.
مشيراً أن الدولة الحديثة اليوم قائمة على أساس الجغرافيا، ضمن أركانٍ الأرض، والشعب، والنظام. مؤكداً أن هذا الواقع أدعى لأن تُحترم فيه حقوق المواطنة.
وضمن تساؤلٍ عن الولاء للوطن أو للدين والمذهب، مع القلق حول هجرة الولاء للخارج، أكّد الشيخ الصفّار: أن تعدد دوائر الولاء يدخل ضمن طبيعة الإنسان ذات الأبعاد المتعددة، فمثلاً انتماء الإنسان لقبيلةٍ معيّنة يقتضي أن له ولاءً لتلك القبيلة، وهذا الولاء لا يقدح في ولاء الإنسان لدينه ولا لوطنه، ولا يتضارب معه، وكذلك الولاء الديني والمذهبي، فإنه لا يقدح أبداً في ولاء الإنسان لوطنه.
وحول الحديث عن التعايش مع مختلف الاتّجاهات الإنسانية مهما كانت توجّهاتها أكد الشيخ الصفار على أن ذلك أمرٌ مطلوب، وهو يعكس عمق الاقتداء برسول الله حيث كان يتعايش مع اليهود والنصارى الذين كانوا في عصره، كما أن التعايش والتعارف غاية كُبرى جعلها الله تعالى ضمن هذا التعدد البشري، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾.
وأكد أنه لا ينبغي أن نربط التعايش بالتوافق في الدين، لأن ذلك سيجر إلى ربط التعايش بالتوافق في المذهب، بل سننحدر إلى مساحة أضيق تصل إلى اشتراط التوافق في الاتّجاه الفكري داخل المذهب، وبذلك سينتفي التعايش مطلقاً.
وحول الدولة العلمانية ودورها في حل موضوع التعايش بين المواطنين، أكد الشيخ الصفار أن الحديث عن الانفتاح والتعايش بعيداً عن المصطلحات القائمة اليوم، ففي مجتمعنا الإسلامي كانت حالة التعايش واضحةً وجليّة، في سيرة الأئمة كان الإمام جعفر الصادق يتحاور مع الزنادقة الذين يُنكرون وجود الله سبحانه، وكانوا يحضرون مجلس الإمام ويتناقش معهم، ولم يرفض وجودهم.
وتابع: في الزمن المتأخر تولّدت حالة من التشنج والتشدد لرفض أي فكر آخر، فمثلاً العلمانيون هم بشر ومواطنون في بلادهم لهم آراء، قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية، فالإيجابي منها نقبله، والسلبي نناقشه ونرفضه بعيداً عن حالة التشدد والعصبية.
وضمن الحديث عن دعوة التقريب بين المذاهب وهل أنها فشلت في تحقيق أهدافها أمام دعوات التكفير، أكد الشيخ الصفار أن فكرة التقريب بين المذاهب فكرة ذات قيمة عالية ينبغي التمسّك بها، فمن خلالها يتعرّف المسلمون على بعضهم البعض، وعلى أفكارهم ومعتقداتهم، مما يبني أرضية خصبة للتعايش، بعيداً عن موجات التمزّق والتفرّق.
وتابع: إن وجود الخلافات ضمن التوجهات والمدارس المختلفة لا يعني فشل فكرة التقريب بين المذاهب، مشبّهاً الواقع بالأمراض التي تغزوا جسم الإنسان، على الرغم من وجود المستشفيات التي تعج بالأطباء، فهل يُمكننا القول بأن المستشفيات فشلت في محاربة الأمراض؟
وعن أنسنة النص الديني والجدلية القائمة حول الموضوع أكد الشيخ الصفار أن الموضوع ينبغي أن يدور حول أنسنة تأويلات النص الديني، فالنص الديني ثابت يستوعب تطور الزمن، وهذا ما جعل باب الاجتهاد مفتوحاً، وليس صحيحاً أن يبقى الفهم الديني رهين الآراء التي كانت في القرون والعصور السابقة.
وحول رأي الشيخ الصفار كما جاء في كتابه العقلانية والتسامح بأن بعض الأفكار والآراء المنسوبة للدين تدفع للتطرف، أكد أنّ بعض الأفكار مثل تكفير منكر الضروري من شأنها أن تُسبب حالة من التطرف، مشيراً إلى أن أصول الدين هي التوحيد والنبوة والمعاد، وما عداها من ضروريات الدين والمذهب قابلة للنقاش، ولا ينبغي أبداً تكفير أحدٍ بناءً على الاختلاف فيها. مضيفاً: إن رفض الاعتراف بمشروعية الرأي الآخر والسعي لفرض رأي واحد على الناس هو أرضية خصبة للتطرّف.
وعمّا إذا كان الدين يُدرك بالعقل أكد أن هناك نصوصًا دينية تُؤخذ مبتورة كالنص المروي عن أحد أئمة أهل البيت والذي يقول: ((إِنَّ دِينَ اَللَّهِ لاَ يُصَابُ بِالْعُقُولِ اَلنَّاقِصَةِ))، إلا أن النقل العام يتغاضى عن مفردة الناقصة، ويُعمّم الحديث بأن دين الله لا يُصاب بالعقول، وهذا ليس صحيحاً مطلقاً فآيات القرآن الكريم التي تدعوا إلى التفكّر، والتعقّل، والتدبّر، كلّها تؤكد دور العقل في التوجيه نحو الإيمان بالله تعالى وفهم مقاصد الشريعة واستنباط الأحكام الشرعية، وهذا ما يقوم به العلماء حيث يتأمّلون النصوص الدينية فيستنبطون منها الأحكام.
وأكد الشيخ الصفار أن اختلاف فهم العلماء للنصوص الدينية يُوجد اختلافاً في الأحكام التي يستنبطونها، لذا نجد أن كبار العلماء مثل السيد محمد باقر الصدر، والمرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض، وأمثالهما يؤكدون أن 5% تقريبًا من الأحكام الشرعية قطعية، وما عداها محل نقاش واختلاف بين الفقهاء، وبالتالي فإن فرض رأي واحد يُمثل وجهاً بارزاً للتطرف في الدين.
وعن الثابت والمتغير في الدين، أوضح الشيخ الصفّار أن النص الديني قسمان: قسمٌ يتحدث عن القيم والحقائق الدينية الأساسية، وهذا ثابت مهما تغيرت الأزمان، وقسمٌ يتحدث عن قضايا الحياة وإدارة شؤونها، وهذا بالتأكيد قابل للتطوير مع تقدّم الزمن واختلاف طبيعة الحياة، واستشهد برأي الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن الأصل في أحكام العبادات الثبات، والأصل في أحكام المعاملات بين الناس التغيير.
واختتم الشيخ الصفار نقاشه بالدعوة إلى النقد الذاتي سواء في الوسط الشيعي أو الوسط السني، مؤكداً وجود حالة من الهرب من النقد الذاتي، في حين هناك صورٌ متعددةٌ من توجيه النقد باتّجاه الآخر، فالسنّي يمتلك الجرأة في نقد التراث الشيعي، والشيعي يمتلك الجرأة في نقد التراث السنّي، إلا أنهما لا يمتلكان الجرأة في نقد تراثهما الذاتي، لأن الساحة الشعبية لا تقبل ذلك.
هذا وقد بدأ مدير الحوار الباحث العماني الشيخ بدر العبري بكلمة رحب فيها بسماحة الشيخ الصفار والحضور المميز من العلماء والمثقفين والمهتمين، مشيرًا إلى أن الشيخ الصفار من كبار علماء الشيعة في المملكة العربية السعودية، والعالم العربي والإسلامي، وهو إضافةً لذلك شاعر وأديب وناقد ومصلح اجتماعي.
وأبان أن الشيخ الصفار ليس شخصية وحدوية فحسب، بل هو في الحقيقة مدرسة وحدوية، ويستحق أن يُدرس ما تركه هذا الرجل لأكثر من ستة عقود كمدرسة وحدوية.
وأشار إلى أن ارتباط سماحته بسلطنة عمان قديم، وكان له جانب نهضوي في مسجد الرسول الأعظم بمطرح منذ عام 1974م – 1978م، وهو من الذين أنشأوا مكتبة الرسول الأعظم ومجلة الوعي في عام 1977م.
وتابع: كانت له علاقات اجتماعية في عمان وهو لم يتجاوز العقد الثاني من عمره، ومن أبرز العلماء الذين كانت تربطه بهم علاقات وطيدة سماحة المفتي السابق الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري، وسماحة المفتي الحالي الشيخ أحمد الخليلي، والشيخ الأديب سالم بن حمود السيابي، وابنه الشاعر هلال بن سالم السيابي، ولم ينقطع الشيخ عن عمان إلى يومنا هذا.
يشار إلى أن النادي الثقافي يعمل ويساهم في الارتقاء بالشأن الثقافي من خلال برامجه وانشطته المتنوعة، وعبر روابط تعاون وتكامل مع المؤسسات العاملة في المشهد الثقافي العماني.
وقد تأسس عام 1983م، بمسمى “النادي الجامعي”، تحت إشراف معالي وزير التربية والتعليم وشؤون الشباب آنذاك، وفي عام 1986م تم تعديل مسمى النادي من “النادي الجامعي” إلى “النادي الثقافي”.
لمشاهدة الندوة:
https://www.youtube.com/watch?v=QdpUpQrQvys