الوظيفة الروحية والأخلاقية للعبادات
يقول تعالى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾. [سورة طه، الآية: 14]
حين تدفع الإنسان فطرته وعقله للإيمان بالله تعالى، إلهًا خالقًا مدبرًا للكون والحياة، فإنّ ذلك يفرض عليه الالتزام بالطاعة والعبادة لله تعالى، شكرًا لإنعام الخالق وطلبًا لرضاه.
الغفلة عن مقتضيات الإيمان
لكنّ استغراق الإنسان في هموم الحياة، وانشغاله بمتطلبات العيش، وتلبية الرغبات المختلفة لغرائزه ونزعاته المادية، كلّ ذلك قد يسبب له الغفلة عن مقتضيات إيمانه بالله تعالى. فيصبح الإيمان مجرّد معلومة في الذهن، لا دور لها في واقع حياة الإنسان، ولا تأثير لها في اتجاهات شخصيته وسلوكه.
وقد تحدّث القرآن الكريم عن أقوام يعترفون بخالقية الله لهم وللكون، حينما يواجههم السؤال عن ذلك، لكنهم لا يرتبون أثرًا على هذه المعرفة في حياتهم وسلوكهم.
يقول تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾. [سورة الزخرف، الآية: 87].
ويقول تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾. [سورة العنكبوت، الآية: 61].
كما تحدّث القرآن الكريم عمّن تدفعه فطرته للالتجاء إلى الله تعالى عندما تحيط به الأزمات الخانقة، لكنه يغفل وينسى ذكر ربه حين يتجاوزها.
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾. [سورة يونس، الآية: 12].
وفي القرآن الكريم عدد من الآيات تتحدث عن مشكلة غفلة الإنسان عن مقتضى الاعتراف والإيمان بالله تعالى.
وقد تضغط الشهوات والأهواء على الإنسان، فيستجيب لها، ويقع في ممارسة الخطأ والانحراف، ويقوم بالعدوان وظلم الآخرين.
وقد يعيش الإنسان في أجواء تزيّن له المعاصي والاعتداء على حقوق الآخرين.
وظائف البرامج العبادية
لذلك شرّع الدين البرامج العبادية، كالصلاة والصوم والحج والدعاء وتلاوة القرآن، وسائر العبادات، لتحقيق الوظائف التالية:
أولًا: لتذكير الإنسان بخالقه، وتأكيد العلاقة والصلة الدائمة بين الإنسان وربه، حتى لا يغفل عن إيمانه، ولا ينسى خالقه.
يقول تعالى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾. [سورة طه، الآية: 14].
إنّ صلة الإنسان الروحية بربه وانفتاحه النفسي عليه، يمنحه السكينة والاطمئنان أمام تحدّيات الحياة.
يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. [سورة الرعد، الآية: 28].
ثانيًا: لاستحضار المبادئ والقيم في نفسه، فالعبادات شرطها نية التقرب إلى الله تعالى، والتزام الإنسان بها، يؤكد في نفسه واجب الطاعة لله تعالى، والاستجابة لأمره، والرغبة في رضاه، كما أنّ مضامين العبادات ومفرداتها تثير في نفسه المفاهيم الدينية وتنمّي البعد الروحي في شخصيته.
إنّ العبادات تُخرج الإنسان من إطار ذاتيته الأنانية، واهتماماته المادية المصلحية، وتحفّزه للسمو الروحي، والالتزام بالمبادئ والقيم، والتفكير في المستقبل الأخروي، والعطاء والاهتمام بالآخرين.
ثالثًا: تعزيز الشعور الداخلي بالمسؤولية: لأنّ أداء العبادات لا يكون نتيجة فرض خارجي أو رقابة نظامية، وإنما ينتج عن اندفاع داخلي ذاتي، وبذلك تتحقق فيه نية التقرب إلى الله تعالى.
أما العبادة التي تأتي استجابة لضغط من أحد، أو لكسب رضا أحد، فلا ينطبق عليها عنوان العبادة.
إنّ المسلم الكادح الذي يصوم في بلاد يطول فيها النهار، أو تشتدّ فيها الحرارة، يتحمّل الجوع والعطش وعناء الصوم استجابة لأمر الله تعالى.
وكذلك من يغالب حاجته للنوم، ويغادر فراشه عند الفجر لأداء الصلاة. أو من يذهب بنفسه لأداء زكاة وخمس ماله.
الشعور الداخلي بالمسؤولية
إنّ تنمية الشعور الداخلي بالمسؤولية، والاندفاع الذاتي لأداء الواجبات واجتناب المحرمات، هو ما يربي الإنسان على الانضباط السلوكي والأخلاقي في حياته الشخصية وفي الفضاء الاجتماعي العام.
قبل ليالٍ حدّثني أحد المؤمنين الصالحين عن قصة حصلت له خلال الأيام الماضية:
فقد طرق شخص باب منزله صباح ذات يوم، فلما خرج إليه، فاجأه بالمعانقة والبكاء، وقال له: هل تعرفني؟
يقول: فتأملت في ملامحه وهو من الهند، وكأنني رأيته سابقًا، لكني لم أستطع تذكره جيّدًا، إلا بعد أن ذكّرني أنه كان يعمل عندي في محلّ (بوفيه)، قبل أكثر من أربعين سنة، وانتهت مدة عمله، وغادر إلى بلده الهند.
فأدخلته المنزل وكان معه عائلته، فأخبرني أنه قدم لأداء العمرة، وكان هدفه الأساس أن يلتقيني، وقدّم لي مبلغًا من المال، وهو يبكي، ويقول: إنّ الله تعالى قد أنعم عليه بالخير في بلده، وأصبح لديه مصنع للرخام، لكنّ ما كان يقلقه ويؤلمه، أنه قد اختلس بعض المال من البوفيه، يوم كان يعمل عندي، لذلك يعاني من توبيخ الضمير، ويخشى أن يموت قبل أن يتمكن من لقائي، حتى يستميحني ويسترضيني عن خطئه بالاختلاس، فشكرته وقبلت اعتذاره، ولم آخذ منه المبلغ، رغم إلحاحه الشديد.
تُرى ما الذي دفع هذا الرجل لهذا الموقف، لولا إحساسه بالمسؤولية الذاتية وتفكيره في مستقبله الأخروي؟
إنّ هذا الإحساس والشعور هو ما يغرسه الإيمان وأداء العبادات في نفس الإنسان.
العبادات في الحياة والسلوك
تشير النصوص الدينية إلى هذه الوظيفة الروحية الأخلاقية للعبادات، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾. [سورة العنكبوت، الآية: 45].
وكقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿٢١﴾ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿٢٢﴾ الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾. [سورة المعارج، الآيات: 19-23].
وجاء بسند صحيح عن رسول الله : «لَوْ كَانَ عَلَى بَابِ دَارِ أَحَدِكُمْ نَهَرٌ فَاغْتَسَلَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ خَمْسَ مَرَّاتٍ أَكَانَ يَبْقَى فِي جَسَدِهِ مِنَ اَلدَّرَنِ شَيْءٌ؟» قُلْنَا: لاَ، قَالَ : «فَإِنَّ مَثَلَ اَلصَّلاَةِ كَمَثَلِ اَلنَّهَرِ اَلْجَارِي كُلَّمَا صَلَّى صَلاَةً كَفَّرَتْ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ اَلذُّنُوبِ»[1] .
وعنه : «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاَتُهُ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَاَلْمُنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اَللَّهِ إِلَّا بُعْدًا»[2] .
وإذا لم تؤدِّ الصلاة والعبادة هذه الوظيفة والغرض، فذلك يعني وجود خلل في وعي الإنسان بالعبادة، والتفاته إلى أغراضها وأهدافها، وبذلك تفقد العبادة قيمتها.
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «لَا تَغْتَرُّوا بِصَلَاتِهِمْ وَلَا بِصِيَامِهِمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ اسْتَوْحَشَ، وَلَكِنِ اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ»[3] .
لقد نشأنا في عوائل متديّنة وفي مجتمع محافظ والحمد لله، فتربينا على أداء الصلاة والعبادات، وهي نعمة كبيرة ومكسب عظيم، لكن علينا أن نهتم ونتوجه لتفعيل دور هذه الصلاة والعبادة في حياتنا وسلوكنا.