أسرار التفوق والتقدم
قال تعالى: ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾. [سورة الإسراء، الآية: 21].
آيات كثيرة في القرآن الكريم تأمر الإنسان بالنظر والتأمل في الظواهر الكونية والظواهر الاجتماعية، ليدرك أنّ الحياة يسيّرها نظام دقيق حكيم، من قبل الخالق جلّ وعلا، فلا مكان للعبث والفوضى والصدف في إدارة الوجود.
وذلك ما يجب أن يدفع الإنسان لمعرفة معادلات نظام الحياة، واكتشاف القوانين التي تمكنه من تسخير الطبيعة لصالحه، وبناء حياته الإنسانية الاجتماعية بالشكل الأفضل.
ومن الآيات التي تأمر بالنظر في الظواهر الكونية قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ﴾. [سورة الأعراف، الآية: 185].
ومن الآيات التي تأمر بالنظر في الظواهر الاجتماعية، الآية الكريمة: ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾. [سورة الإسراء، الآية: 21].
فهي أمر بالنظر، والنظر هو التأمل والتفكير، تقول: نظرت في الأمر أي تدبّرت.
البحث عن أسباب التفوق
والمأمور به هو التفكير في تفاوت مستويات الناس، وتقدّم بعضهم على بعض في القدرات والإمكانات، وإحراز المكاسب والمواقع في الحياة.
على الإنسان أن يفكر ويتأمل، لماذا يتفوق بعض الناس علميًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا، بينما يبقى آخرون في مستوى أدنى؟
هل يحصل ذلك صدفة أو اعتباطًا أو ضربة حظ، وخارج أيّ معادلة وضوابط؟
أم أنّ هناك سننًا إلهية تحكم مسار المجتمعات البشرية؟
تؤكد آيات القرآن الكريم على وجود السنن والمعادلات في حركة البشر، كما هي السنن والأنظمة التي تحكم الطبيعة والحياة.
يقول تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾. [سورة الأحزاب، الآية: 62].
ويمكننا أن نستوحي من الآية الكريمة ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾ أنّ علينا أن نبحث عن أسرار تفوق المتفوقين، وتقدّم المتقدمين، فإذا رأينا من حقّق التقدّم والتفوق في أيّ مجال من مجالات الحياة، كالتفوق العلمي، والنجاح الاقتصادي، والتميز الاجتماعي، فعلينا ألّا نمرّ على المسألة مرور الكرام، وألّا نقبل بالتفسيرات الزائفة، بل نحاول اكتشاف أسباب التفوق لنأخذ بها، ونلحق بركب المتفوقين.
هناك حقيقتان في تفاوت قدرات الناس ومستوياتهم في هذه الحياة.
نظام التكامل الاجتماعي
الحقيقة الأولى: إنّ حكمة الله تعالى شاءت وضع نظام للحياة الاجتماعية، يدفع الناس للتكامل فيما بينهم، بأن يحتاج بعضهم لبعض في إدارة شؤون الحياة، ليشكلوا مجتمعًا مدنيًا يتقاسمون فيه الأدوار والمهام، وهذا يقتضي تفاوت القدرات والمواهب والاهتمامات والتخصصات، فيكون هناك متميزون في قدراتهم المالية، وآخرون في قدراتهم العلمية، وشريحة ثالثة في مواهبهم الفنية، وأخرى في طاقتهم العملية والمهنية، وهكذا تتنوع القدرات والإمكانات بين أبناء البشر، ليعطي ويبدع كلّ مهم في مجال قدرته وتميزه، ومن مجموع الجهد البشري يكون إعمار الأرض والحياة وبناء الحضارة الإنسانية.
يقول تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾. [سورة الزخرف، الآية: 32].
فنظام الحياة الاجتماعية يقوم على هذا التمايز والتفاوت بين الناس، للتكامل والتوازن، فبعضهم أرفع من بعض في هذا المجال أو ذاك، فهو تمايز وتفاضل نسبي.
وعلى كلّ إنسان أن يبحث عن نقاط قوته، ويكتشف مسار طاقاته ومواهبه.
الاجتهاد يصنع التّقدّم
الحقيقة الثانية: إنّ سعي الإنسان واجتهاده هو الذي يصنع موقعه، ويحدّد مستوى إمكاناته ومكاسبه في الحياة، ضمن السنن الإلهية.
يقول تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾. [سورة النجم، الآية: 39].
والسعي في الأصل معناه السير السريع الذي لا يصل مرحلة الركض، إلّا أنه يستعمل غالبًا في الجدّ والمثابرة.
ويقول تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾. [سورة الأنعام، الآية: 132].
فدرجة كلّ إنسان ومكانته في الدنيا والآخرة، تتحدّد من خلال عمله وحركته ونشاطه.
إنّ بعض الناس حين يرى تفوق بعض زملائه أو أبناء مجتمعه، قد تتلوث نفسه بمشاعر سلبية تجاههم، وكأنه غير مرتاح لتفوق الآخرين، لأنه لم ينل ما نالوه، وهذا ما يطلق عليه الحسد.
يقول تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾. [سورة النساء، الآية: 54].
والبعض قد يعيش حالة التمني الفارغ، دون أن يسعى لكسب مؤهلات التقدّم.
يقول تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ﴾. [سورة النساء، الآية: 32].
فالتفوق يصنعه المتفوقون من الرجال والنساء بكسبهم وسعيهم، وعلى من يتطلع للتفوق أن يسعى وأن يكتسب المؤهلات.
الحياة مليئة بالفرص
إنّ الله تعالى قد غمر الحياة بنعمه، وجعلها متاحة لبني البشر، حيث سخّر لهم ما في الكون من خيرات وإمكانات، ومنح الإنسان عقلًا يفكر ويكتشف به، وإرادة يعمل من خلالها، وأعطاه قوة وقدرة، وما عليه إلّا السعي والعمل، ومن جدّ وجد، ومن زرع حصد.
إنه تعالى يلفت نظر الإنسان إلى النعم التي أحاطه بها، ويأمره بالسعي لنيل نصيبه من نعم الله.
يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾. [سورة الملك، الآية: 15].
إنّ نعم الله مبذولة لعباده.
يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. [سورة آل عمران، الآية: 73].
وفضل الله عطاؤه ونعمه المادية والمعنوية التي يفيضها على عباده.
روح الطموح وجدّية العمل
إنّ الله تعالى يريد من الإنسان أن يتطلع ويطمح لنيل نعم الله.
يقول تعالى: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾. [سورة النساء، الآية: 32].
إنّ السؤال والطلب من الله يعني وجود الرغبة والتطلع في نفس الإنسان للحصول على أيّ مكسب، والتطلع والطموح هو السر الأول من أسرار التفوق والتقدم، لكنّ السؤال من الله وما يعنيه من تطلّع، يجب أن يُرافقه السعي والتحرك، وهذا هو السرّ الثاني، وهو ما تعبّر عنه عدة آيات بالابتغاء، كقوله تعالى: ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. [سورة الروم الآية: 46].
ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾. [سورة الجمعة، الآية: 10].
إنّ على الإنسان أن يطمح للمزيد من فرص التقدم في الحياة، وهي متاحة لكنها تحتاج إلى السعي والجدّ والاجتهاد.
وبحمد الله تعالى فإننا نعيش في وطنٍ تتاح فيه للمواطنين فرص التفوق والتقدم، فالطالب الجادّ الذي يتطلع للتفوق الدراسي تحتضنه مؤسسات متخصصة، كمؤسسة موهبة، ومؤسسة مسك، والمواطن الذي يطمح للاستثمار الاقتصادي، هناك هيئات وبنوك تقدّم له الاستشارات والقروض والتسهيلات، ليشارك في مشاريع التنمية، ومن يرغب في العمل الاجتماعي، وخدمة مجتمعه ووطنه، فأفق العمل الأهلي التطوعي مفتوح أمامه.
فعلينا أن نغتنم الفرص ونتسابق نحو التقدم.
الآخرة تنافس أهم
وكما يتفاوت الناس في امكاناتهم ومواقعهم في هذه الحياة، مما يدفعهم إلى التنافس على الفرص والمكاسب، فيجتهد في دراسته ليكون متفوقًا، ويسعى لأفضل وظيفة ومنصب، ويكدح ليراكم ثروته واستثماراته الاقتصادية، ويوفر حياة مريحة، فإنّ على الإنسان أن يفكر في أمر آخرته، فإنّ التفاوت في الآخرة أكبر وأشدّ، وهذا ما تشير إليه الفقرة الثانية من الآية الكريمة: ﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾. [سورة الإسراء، الآية: 21].
فالتفاوت الأهم والأشد هو بين أصحاب النار وأصحاب الجنة.
يقول تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾. [سورة الحشر، الآية: 20].
ويقول تعالى: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾. [سورة آل عمران، الآية: 185].
وعنه : «اجْعَلُوا هِمَّتَكُمُ اَلْآخِرَةَ لاَ يَنْفَدُ فِيهَا ثَوَابُ اَلْمَرْضِيِّ عَنْهُ وَلاَ يَنْقَطِعُ فِيهَا عِقَابُ اَلْمَسْخُوطِ عَلَيْهِ»[1] .
وورد عن أمير المؤمنين علي : «مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَمَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ، وَكُلُّ نَعِيمٍ دوُنَ الْجَنَّةِ مَحْقُورٌ، كُلُّ بَلاَءٍ دُونَ النَّارِ عَافِيَةٌ»[2] .
ومن يتطلع إلى الجنة ويرجو النجاة من النار، عليه أن يسعى لنيل رضا الله سبحانه، ويجتهد في أعمال الخير والصلاح، ويقاوم نزعات السوء في نفسه.
يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿٤٠﴾ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾. [سورة النازعات الآيتان: 40-41].
وداخل الجنة هناك مقامات ودرجات.
ورد عن رسول الله : «في الجنَّةِ مائةَ درجةٍ ما بينَ كلِّ درجَتينِ كما بينَ السَّماءِ والأرضِ»[3] .
وعنه : «فِي الْجنَّة مائَة دَرَجَة، مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ مائَة عَام»[4] .
وعلى الإنسان أن يطمح للوصول للدرجات العالية في الجنة، وذلك بالمزيد من تحقيق سمو الروح، وتزكية النفس، وتهذيب السلوك.