مَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟

 

يقول تعالى: ﴿وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ. [سورة فصلت، الآية: 23].

نظرتك إلى أيّ شيءٍ أو أحدٍ هي التي تحدّد شكل علاقتك به، وتعاملك معه، فإذا كنت تنظر إليه أنه مصدر بطش وأذى، فإنك تبتعد عنه وتحذر منه، وإذا كنت تراه منبع خير ورحمة، فإنك تقترب منه وتنجذب إليه.

وإذا كنت تنظر إلى أحدٍ أنّه محلّ ثقة واعتماد في نفسك، فستأخذ برأيه وتطمئنّ إلى قوله ووعده، أما من ينتابك الشك فيه وفي مصداقيته، فلا يمكنك الثقة به ولا الاعتماد عليه.

التصور الخطأ عن الله

تنطبق هذه المعادلة الفطرية الوجدانية على علاقة الإنسان بربه وطريقة تعامله معه.

فالنظرة والانطباع الذي يتشكل في ذهن الإنسان ونفسه عن الله تعالى، يؤثّر في تحديد سلوك تعامله وعلاقته مع الله تعالى.

لذلك يتحدث القرآن الكريم في عددٍ من آياته عن التصورات الخطأ والظنون السيئة عند بعض البشر عن الخالق جلَّ وعلا، التي تكون سببًا لانحرافهم وشقائهم.

يقول تعالى: ﴿وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ‎﴿٢٢﴾‏ وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ. [سورة فصلت، الآيتان: 22-23].

فإذا غفل الإنسان عن إحاطة الله تعالى به وتصوّر أنّ الله يترك الناس في هذه الحياة، دون مبالاة بأعمالهم وتصرفاتهم، فإنّ هذا التصوّر والظنّ الخطأ يشجع الإنسان على الفساد والظلم، استجابة لشهواته وأهوائه، ويؤدي به أخيرًا إلى الهلاك والخسران يوم القيامة، ﴿أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ.

أما إذا تيقن أنه محاسب أمام ربه، وأنه تعالى لا تخفى عليه خافية، وكان هذا الشعور والتصور حاضرًا في نفس الإنسان، فإنّ ذلك يدفعه إلى الاستقامة والالتزام، في عمله وسلوكه.

وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ. [سورة آل عمران، الآية: 154].

والآية في سياق الحديث عمّن اهتزّت نفوسهم واضطربت في واقعة أحد حينما أصابتهم انتكاسة في المعركة، فتصوروا أنّ الله لم يفِ لهم بوعد النصر؛ لأنهم لا يعيشون التصور الإيماني الصحيح بأنّ النصر من الله يأتي وفق سننه، وأنّ حكمة الله تعالى تريد لهم أن يستفيدوا من تجربة الانتكاسة.

ويقول تعالى في مورد آخر: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ. [سورة الفتح، الآية: 6].

الذين يظنون أنّ الله قد يظلم عباده، أو يجور عليهم، أو يخدعهم، فإنّ هذه الظنون السيئة بالله ستحيق بهم سوءًا.

إلى آيات أخرى في القرآن الكريم، تؤكد على أهمية أن يصحح الإنسان نظرته إلى الله وتصوره عن صفاته تعالى.

وهناك روايات وأحاديث كثيرة تؤكد على حسن الظنّ بالله، وتحذّر من سوء الظنّ به تعالى.

جاء عن رسول الله : «فَأَحْسِنُوا بِاللَّهِ اَلظَّنَّ، وَاِرْغَبُوا إِلَيْهِ»[1] .

وعنه : «أَكْبَرُ الكبائرِ سوءُ الظنِّ باللهِ»[2] .

آلام البشر والعدل الإلهي

ونريد أن نركّز على آثار الظنّ بالله تعالى من زاويتين ترتبط بصفات الله تعالى.

الزاوية الأولى: عدل الله تعالى وحكمته

من طبيعة الحياة أن يواجه الإنسان فيها مشاكل وصعوبات، فقد تحصل له إعاقات أو إصابات في جسمه، وقد يتعرّض للكوارث الطبيعية، كما يرزأ بفقد بعض أحبّته وأعزّته، ويعيش أزمات في علاقاته الاجتماعية مع من حوله، وقد لا تتوفر له بعض متطلبات حياته، وقد يقع عليه عدوان من بني جنسه.

فيتساءل الإنسان أين الله فيما يصيبه ويحدث له؟ ولماذا يقع به ما وقع؟

هنا تأتي أهمية تصحيح نظرته إلى الله وحسن ظنه به، فحين يعتقد بعدل الله وحكمته، يرضى بقضاء الله وقدره.

وعند تأمله في حقائق الكون والحياة، ونتائج ومآلات ما يقع من الأحداث، تتضح له جوانب من الحكمة ومسار العدل الإلهي.

أولًا: إنّ بعض المصائب والمشاكل تصيب الإنسان بسبب أخطائه وغفلته.

يقول تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ. [سورة الشورى، الآية: 30].

ثانيًا: بعض ما يحصل للإنسان من آلام، هو ضمن السنن الإلهية التي جعلها الله حاكمة على الكون والحياة.

يقول تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. [سورة الحديد، الآية: 22].

هذه السنن اقتضتها المصالح العليا في تسيير الوجود، وقد يحصل من خلال جريان بعض هذه السنن ضرر هنا أو أذى هناك، لقسم من البشر، لكنّ الله تعالى يُعوّض الإنسان في الآخرة عند تعرضه للبلاء في الدنيا إذا كانت إصابته ضمن سياق السنن الإلهية، كما يُعطى الإنسان مثلًا تعويض مناسب حينما يزال بيته من قبل الدولة لتوسعة الطريق.

فقد ينزعج البعض لإزالة بيوتهم التي ألفوا العيش فيها، لكن شقّ الطرق وتوسعتها فيه مصلحة عامة ترجح على المصالح الخاصة، ومن المقبول منطقيًا الرضا بالتعويض المناسب الذي قد يوفّر فرصة أفضل لمن فقد منزله.

ثالثًا: قد ينزعج الإنسان من بعض ما يصيبه لكن نتائجه تكون لخيره وصلاحه، وقد يفوته ما يحزن لفوته لكنه في الحقيقة مضرٌّ له.

يقول تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. [سورة البقرة، الآية: 216].

رابعًا: إنّ الإنسان يقتصر نظره على عاجل الدنيا فيقيس الخير والشر بمعادلاتها، والله تعالى يرعى مصلحته في الدارين.

الرضا بقضاء الله

إنّ الله تعالى يصف عباده العارفين بقوله: ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ. [سورة المائدة، الآية: 119].

جاء عن رسول الله : «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لاَ يَقْضِي اَللَّهُ عَلَيْهِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، سَرَّهُ أَوْ سَاءَهُ، إِنِ اِبْتَلاَهُ كَانَ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ وَأَكْرَمَهُ كَانَ قَدْ حَبَاهُ»[3] .

وورد عن أمير المؤمنين علي : «أَصْلُ اَلرِّضَا حُسْنُ اَلثِّقَةِ بِاللَّهِ»[4] .

وعن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّهِ أَرْضَاهُمْ بِقَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[5] .

وعنه : «مَنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا قَسَمَهُ اللَّهُ لَهُ، اتَّهَمَ اللَّهَ فِي قَضَائِهِ»[6] .

الرحمة الإلهية الواسعة

الزاوية الثانية: رحمته ولطفه بعباده

تتحدّث الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة عن مجازاة الله تعالى للكافرين والعاصين بالعقوبة والعذاب، وذلك بهدف ردع الناس في هذه الحياة عن الانحراف والعصيان والظلم، ولا يعذب الله أحدًا إلَّا بعد إتمام الحجة عليه وإتاحة الفرصة الكاملة الواسعة له للتراجع والتوبة.

وبعد كلّ ذلك فإنّ عفو الله يتسع لعباده. إنّ الله يفي بوعده لكنه قد يتجاوز عن وعيده.

إنّ الصفة الأهم التي تصحب اسم الله تعالى هي الرحمة، وذلك ما افتتح الله به القرآن الكريم، (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)، وتتكرّر هذه الصفة في آيات القرآن الكريم بمختلف الصّيغ، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ. [سورة البقرة، الآية: 143].

ويقول تعالى: ﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. [سورة يوسف، الآية: 64].

ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. [سورة الأنعام، الآية: 54].

ثغرة في الخطاب الديني

بعض الخطاب الديني يطيل الحديث عن جانب الوعيد والعقوبات أكثر من الحديث عن الوعد بالمغفرة والثواب، وهذا فقدان للتوازن، إنّ بعض الدعاة يصورون الله تعالى أمام الناس وكأنه جلّاد منتقم ينتظر أيّ فرصة خطأ من الإنسان لينهال عليه بالعذاب ويسوقه إلى النار، وهذا ما يناقض الصورة الحقيقية التي تؤكدها النصوص الدينية عن سعة رحمة الله وعفوه، وذلك ما قد يسبب حدوث اليأس والقنوط في النفوس الذي تحذّر منه آيات القرآن الكريم.

وقد تحصل حالات سلبية في بعض أوساط المتدينين بسب عدم التوازن في الخطاب الديني، مثل بعض حالات الوسواس والاضطراب في القضايا العبادية من منطلق الشعور بالخوف الشديد من عقاب الله، فهو يخشى حدوث خلل في الغسل أو الوضوء يؤدي به إلى النار والعذاب!!

من وظائف الدعاء المأثور

من أهم وظائف الأدعية الواردة والمأثورة أنّها تركّز النظرة السلمية والظنّ الحسن في نفس الإنسان عن الله تعالى.

نقرأ في الدعاء «يَا مَنْ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَتُهُ، يَا مَنْ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ»[7] .

ورد عن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ آخِرَ عَبْدٍ يُؤْمَرُ بِهِ إِلَى اَلنَّارِ فَيَلْتَفِتُ فَيَقُولُ اَللَّهُ جَلَّ جَلاَلُهُ أَعْجِلُوهُ فَإِذَا أُتِيَ بِهِ قَالَ لَهُ: عَبْدِي لِمَ اِلْتَفَتَّ؟ فَيَقُولُ يَا رَبِّ، مَا كَانَ ظَنِّي بِكَ هَذَا! فَيَقُولُ اَللَّهُ جَلَّ جَلاَلُهُ: عَبْدِي مَا كَانَ ظَنُّكَ بِي؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، كَانَ ظَنِّي بِكَ أَنْ تَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي وَتُدْخِلَنِي جَنَّتَكَ، قَالَ فَيَقُولُ اَللَّهُ جَلَّ جَلاَلُهُ: مَلاَئِكَتِي وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي وَآلاَئِي وَاِرْتِفَاعِ مَكَانِي، مَا ظَنَّ بِي هَذَا سَاعَةً مِنْ حَيَاتِهِ خَيْرًا قَطُّ، وَلَوْ ظَنَّ بِي سَاعَةً مِنْ حَيَاتِهِ خَيْرًا مَا رَوَّعْتُهُ بِالنَّارِ، أَجِيزُوا لَهُ كَذِبَهُ وَأَدْخِلُوهُ اَلْجَنَّةَ»[8] .

ونقرأ في الأدعية المأثورة في شهر رجب، عن الإمام جعفر الصادق : «يا مَنْ أَرْجُوهُ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَآمَنُ سَخَطَهُ عِنْدَ كُلِّ شَرٍّ، يا مَنْ يُعْطِي الكَثيرَ بِالقَلِيلِ، يا مَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ، يا مَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسأَلْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تَحَنُّنًا مِنْهُ وَرَحْمَةً؛ أَعْطِنِي بِمَسأَلَتِي إِيّاكَ جَمِيعَ خَيْرِ الدُّنْيا وَجَمِيعَ خَيْرِ الآخرةِ، واصْرِفْ عَنِّي بِمَسْأَلَتِي إِيَّاكَ جَمِيعَ شَرِّ الدُّنْيا وَشَرِّ الآخرةِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوصٍ ما أَعْطَيْتَ وَزِدْنِي مِنْ فَضْلِكَ يا كَرِيمُ»[9] .

ونقرأ أيضًا عنه : «خَابَ الْوَافِدُونَ عَلَى غَيْرِكَ، وَخَسِرَ الْمُتَعَرِّضُونَ إِلَّا لَكَ، وَضَاعَ الْمُلِمُّونَ إِلَّا بِكَ، وَأَجْدَبَ الْمُنْتَجِعُونَ إِلَّا مَنِ انْتَجَعَ فَضْلَكَ، بَابُكَ مَفْتُوحٌ لِلرَّاغِبِينَ، وَخَيْرُكَ مَبْذُولٌ لِلطَّالِبِينَ، وَفَضْلُكَ مُبَاحٌ لِلسَّائِلِينَ، وَنَيْلُكَ مُتَاحٌ لِلْآمِلِينَ، وَرِزْقُكَ مَبْسُوطٌ لِمَنْ عَصَاكَ، وَحِلْمُكَ مُعْتَرِضٌ لِمَنْ نَاوَاكَ، عَادَتُكَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْمُسِيئِينَ، وَسَبِيلُكَ الْإِبْقَاءُ عَلَى الْمُعْتَدِينَ، اللَّهُمَّ فَاهْدِنِي هُدَى الْمُهْتَدِينَ، وَارْزُقْنِي اجْتِهَادَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا تَجْعَلْنِي مِنَ الْغَافِلِينَ الْمُبْعَدِينَ، وَاغْفِرْ لِي يَوْمَ الدِّينِ»[10] .

 

خطبة الجمعة 10 رجب ١٤٤٦هـ الموافق 10 يناير ٢٠٢5م.

[1]  الشيخ الكليني: الكافي، ج2، ص71، ح2.
[2]  المتقي الهندي: كنز العمّال، ح5849.
[3]  تحف العقول، ص48. وقريب منه في صحيح مسلم، ح2999.
[4]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص198.
[5]  الكافي، ج2، ص60، ح2.
[6]  أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج3، ص195، ح3874. ومثله في كشفُ الغُمَّة في مَعرِفَةِ الأئمّة ، ج2، ص370.
[7]  الشيخ إبراهيم الكفعمي: المصباح، دعاء الجوشن، 249.
[8]  وسائل الشيعة، ج15، ص231، ح7.
[9]  الشيخ الطوسي: مصباح المتهجد، ص379.
[10]  العلامة المجلسي: زاد المعاد، ص16.