عبادة الله منهج حياة
يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾. [سورة النحل، الآية: 36].
الإنسان كائن مميّز، منحه الله الإرادة والاختيار، في تصرفاته وممارساته، وهو بإرادته واختياره يقرّر توجهاته الفكرية وممارساته السلوكية، لكن كلّ حركة فكرية أو سلوكية تصدر منه، إنما تنطلق من دافع أو باعث يستجيب له، تارة يكون هذا الباعث من جهة في داخله، ضميره أو عقله أو هواه، وتارة من جهة من خارجه، ضمن تفاعله مع محيطه الاجتماعي، حيث يستقبل التأثير من عائلته، أو مراكز القوة والنفوذ في مجتمعه، فيستجيب لتلك التأثيرات فيما توجهه له من فكرة أو سلوك.
الخضوع والانقياد عبادة
وحينما يكون الإنسان دائم الاستجابة لبواعث جهة من داخله أو خارجه، يصبح خاضعًا منقادًا لتلك الجهة، ويطلق على هذا الخضوع والانقياد مصطلح العبادة.
فالعبادة لغة، هي: الخضوع والانقياد، لذلك يطلق على الإنسان الذي يُسترقُّ وتُصادر حريته وإرادته، أنّه عبد، بمعنى أنّه خاضع ومنقاد إلى من استرقّه واستعبده.
ومن ذلك قولهم طريق معبّد، أي مذلل لمن يطأه ويسلكه.
وعبادة الله تعني الخضوع والانقياد له في أوامره ونواهيه، والأوامر والنواهي الإلهية، قد تكون من خلال فطرة الإنسان النقية وعقله السليم، وقد تكون من قبل الأنبياء والرسل المبلّغين عن الله تعالى.
وفي المقابل فإنّ الخضوع والانقياد للأهواء والشهوات، يعني العبودية لها.
يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾. [سورة الفرقان، الآية: 43].
وورد عن أمير المؤمنين علي : «اَلْجَاهِلُ عَبْدُ شَهْوَتِهِ»[1] .
والانقياد للشيطان يكون عبادة له.
يقول تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾. [سورة ياسين، الآية: 60].
والخضوع لأيّ جهة لا تنطلق في أوامرها من العقل أو الوحي، هو عبادة لها، ويطلق عليها مصطلح الطاغوت، والطاغوت صيغة مبالغة للطغيان، أي التجاوز والتعدّي عن الحدّ المتعارف، ماديًا أو معنويًا، فكلّ من اشتدّ طغيانه وتجاوزه عن الحقّ، هو طاغوت، ويطلق على الشيطان والأصنام والأوثان البشرية، والمستبدّين المستكبرين.
يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾. [سورة النحل، الآية: 36].
مهمة الأنبياء تحرير الإنسان
مهمة الأنبياء والرسالات الإلهية تحرير الناس من الانقياد لأهوائهم وشهواتهم، ومن الاستجابة لإغواء الشيطان، ومن الخضوع للطغاة المستكبرين والفاسدين، حتى يكون انقياد الإنسان وخضوعه لله وحده.
جاء عن الإمام جعفر الصادق : «مَنْ أَصْغَى إِلَى نَاطِقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ، وَإِنْ كَانَ النَّاطِقُ يُؤَدِّي عَنِ الشَّيْطَانِ فَقَدْ عَبَدَ الشَّيْطَانَ»[2] .
وعنه : «مَنْ أَطَاعَ رَجُلًا فِي مَعْصِيَةٍ فَقَدْ عَبَدَهُ»[3] .
وبهذا فعبادة الله منهج في حياة الإنسان، حيث يتحرّر من الخضوع والانقياد لما سوى الله تعالى، ويطيع الله في جميع تصرفاته في أبعاد حياته المختلفة.
أما ما يتبادر إلى الأذهان من أنّ العبادة هي الفرائض الخاصة، كالصلاة والصوم والحج فقط، فهو حصر غير صحيح. إنها جزء من العبادة، وهي الجزء الشاحن الذي يحفّز الإنسان للعبادة الشاملة لله تعالى.
فمن يطع الله في إقامتها، لكنه لا يطيعه في بقية جوانب حياته، لا يكون عابدًا لله.
التفكير من تجلّيات العبادة
إنّ النصوص حين تتحدّث عن العبادة لله تعالى، لا تحصرها في الفرائض كالصلاة والصيام، وإنما تتحدّث عن شمول العبادة لكلّ جوانب حياة الإنسان.
فإعمال الفكر واستخدام العقل بمنهجية صحيحة، عبادة يأمر الله تعالى بها.
يقول تعالى: ﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾. [سورة الأنعام، الآية: 50].
ويقول تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾. [سورة البقرة، الآية: 219].
وعن الإمام جعفر الصادق عن رسول الله : «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ»[4] .
وعن أمير المؤمنين علي : «اَلتَّفَكُّرُ فِي آلاَءِ اَللَّهِ نِعْمَ اَلْعِبَادَةُ»[5] .
وعنه : «فِكْرُ سَاعَةٍ قَصِيرَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةٍ طَوِيلَةٍ»[6] .
وعن الإمام جعفر الصادق : «لَيْسَ الْعِبَادَةُ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[7] .
في مجال العواطف والأحاسيس
وهناك عبادة في مجال العواطف والأحاسيس، فإنّ محبّة الأولياء والصالحين عبادة، بينما حبّ الظالمين والمنحرفين معصية.
ورد عن رسول الله : «حُبُّ عَلِيٍّ عِبادَةٌ»[8] .
ويقول تعالى: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾. [سورة المجادلة، الآية: 22].
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْحَمُ اَلرَّجُلَ لِشِدَّةِ حُبِّهِ لِوَلَدِهِ»[9] .
السعي لطلب الرزق عبادة
وفي مجال العمل والسلوك، فالسعي لطلب الرزق عبادة من أفضل العبادة، حيث أمر الله تعالى بذلك.
يقول تعالى: ﴿فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾. [سورة الجمعة، الآية: 10].
ويقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾. [سورة الملك، الآية: 15].
وفي الكافي، عَنْ مُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ: سَأَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ [الإمام جعفر الصادق ] عَنْ رَجُلٍ، وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَصَابَتْهُ الْحَاجَةُ، قَالَ «فَمَا يَصْنَعُ الْيَوْمَ؟» قِيلَ: فِي الْبَيْتِ يَعْبُدُ رَبَّهُ، قَالَ: «فَمِنْ أَيْنَ قُوتُهُ؟» قِيلَ: مِنْ عِنْدِ بَعْضِ إِخْوَانِهِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ «وَاللَّهِ لَلَّذِي يَقُوتُهُ أَشَدُّ عِبَادَةً مِنْهُ»[10] .
الدعاء لتحقيق التطلعات عبادة
كما أنّ حمل همّ التطلعات الحسنة، في المجال الدنيوي والأخروي عبادة، وهذا ما يعبّر عنه بالدعاء، الذي يعني وجود هموم وتطلّعات وحاجات يسأل الإنسان ربه لتحقيقها.
يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾. [سورة غافر، الآية: 60].
وورد عن أمير المؤمنين علي : «اَلدُّعَاءُ مُخُّ اَلْعِبَادَةِ»[11] .
على الإنسان ألّا يقمع أيّ تطلّع حسن داخل نفسه، صغيرًا كان أم كبيرًا، بل عليه أن يحمل همَّ ذلك التطلع ويسأل الله ويدعوه.
قال : «إِذَا سَأَلَ أَحَدُكُم فَلْيُكثِر، فَإِنَّمَا يَسأَلُ رَبَّهُ»[12] .
وعنه : «لِيَسْأَلْ أحدُكم ربَّه حاجتَه كُلَّها، حتى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ إذ انْقَطَعَ»[13] .
ورد عن الإمام جعفر الصادق : «عَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَتَقَرَّبُونَ بِمِثْلِهِ، وَلاَ تَتْرُكُوا صَغِيرَةً لِصِغَرِهَا أَنْ تَدْعُوا بِهَا»[14] .
إنّ الأدعية المأثورة عن النبي وآله ، تعلّمنا كيف نرسّخ الثقة بالله تعالى في نفوسنا، ونطلب منه تعالى الدعم في الأزمات والملمّات.
ومن تلك الأدعية الرائعة الدعاء الوارد عن الإمام زين العابدين في الصحيفة السجادية، إِذَا عَرَضَتْ لَهُ مُهِمَّةٌ، أَوْ نَزَلَتْ بِهِ مُلِمَّةٌ، وَعِنْدَ الْكَرْبِ، ومن فقراته:
«يَا مَن تُحَلُّ بِهِ عُقَدُ المَكَارِهِ، ويَا مَن يَفثَأُ بِهِ حَدُّ الشَّدَائِدِ، ويَا مَن يُلتَمَسُ مِنهُ المَخرَجُ إِلَى رَوحِ الفَرَجِ.
أَنتَ المَدعُوُّ لِلمُهِمَّاتِ، وأَنتَ المَفزَعُ فِي المُلِمَّاتِ، لَا يَندَفِعُ مِنهَا إِلَّا مَا دَفَعتَ، ولَا يَنكَشِفُ مِنهَا إِلَّا مَا كَشَفتَ.
وقَد نَزَلَ بِي يَا رَبِّ مَا قَد تَكَأَّدَنِي ثِقلُهُ، وأَلَمَّ بِي مَا قَد بَهَظَنِي حَملُهُ، وبِقُدرَتِكَ أَورَدتَهُ عَلَيَّ وبِسُلطَانِكَ وَجَّهتَهُ إِلَيَّ، فَلَا مُصدِرَ لِمَا أَورَدتَ، ولَا صَارِفَ لِمَا وَجَّهتَ، ولَا فَاتِحَ لِمَا أَغلَقتَ، ولَا مُغلِقَ لِمَا فَتَحتَ، ولَا مُيَسِّرَ لِمَا عَسَّرتَ، ولَا نَاصِرَ لِمَن خَذَلتَ.
فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وافتَح لِي يَا رَبِّ بَابَ الفَرَجِ بِطَولِكَ، واكسِر عَنِّي سُلطَانَ الهَمِّ بِحَولِكَ، وأَنِلنِي حُسنَ النَّظَرِ فِيمَا شَكَوتُ، وأَذِقنِي حَلَاوَةَ الصُّنعِ فِيمَا سَأَلتُ، وهَب لِي مِن لَدُنكَ رَحمَةً وفَرَجًا هَنِيئًا، واجعَل لِي مِن عِندِكَ مَخرَجًا وَحِيًّا»[15] .
من يعبد الله إذا أصابته محنة أو مشكلة، لا يخضع لليأس، ولا يسيطر عليه الاكتئاب، بل يتسلّح بالأمل والرجاء، وتعمر نفسه الثقة بالله، فيتجه إليه يسأله العون والفرج.
هكذا تكون عبادة الله منهجًا في مجال الفكر والعاطفة والعمل والسلوك.