رسالة الحج الالتزام بطاعة الله
يقول تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة الحج، الآية: 37].
حين يؤمن الإنسان بالله خالقًا منعمًا حكيمًا مدبّرًا، فإنه ملزم عقلًا بطاعة الله تعالى فيما يأمره وينهاه.
وذلك؛ أولًا: للاعتراف بحقيقة العبودية والخضوع لله تعالى.
ثانيًا: لأداء واجب الشكر نحوه تعالى، حيث يجب عقلًا شكر المنعم، وقد أنعم الله على الإنسان بنعمة الوجود، وأفاض عليه من النعم ما لا يُعدّ ولا يحصى، فهو تعالى المستحقّ للشكر، والطاعة مظهر وتجسيد للشكر لله تعالى.
وقد جاءت في القرآن الكريم عشرات الآيات التي تؤكد على طاعة الله تعالى، وطاعة الرسل الذين يبلّغون أوامر الله تعالى، كقوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [سورة المائدة، الآية: 92].
ثالثًا: إنّ عدم الطاعة يعرّض الإنسان لسخط الله وغضبه، ويدرك العقل ضرورة اجتناب الخطر وأسباب الهلاك.
يقول تعالى على لسان نبيّه : ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة يونس، الآية: 15].
ويقول تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [سورة النور، الآية: 63﴾
وورد عن أمير المؤمنين علي : «اَلطَّاعَةُ تُطْفِىءُ غَضَبَ الرَّبِّ»[1] .
رابعًا: إنّ الله تعالى لا يأمر الإنسان إلّا بما فيه مصلحة له، ولا ينهاه إلّا عمّا يضرّه، مما يرتبط بدنياه وآخرته، وجوانب حياته المادية والمعنوية، والفردية والاجتماعية. ففي طاعة الله تعالى مصلحة للإنسان، وليس لله، فإنّ الله غني عن العالمين.
جاء في خطبة لأمير المؤمنين علي : «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانَه وتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ، غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِنًا مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّه لَا تَضُرُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، ولَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه»[2] .
وورد عنه : «إِنَّه لَمْ يَأْمُرْكَ إِلَّا بِحَسَنٍ - ولَمْ يَنْهَكَ إِلَّا عَنْ قَبِيحٍ»[3] .
لكنّ مشكلة الإنسان تكمن في غفلته عن هذه الحقائق، وعدم إدراكه غالبًا لمواقع مصلحته، والأسوأ من ذلك غلبة الأهواء والشهوات عليه، ووقوعه تحت تأثير الشيطان والأجواء التي تغريه بالمعصية.
ومن لطف الله تعالى بالإنسان أن يهيّئ له وسائل الهداية والطاعة، فيبعث له الأنبياء والرسل، وينزّل له الكتب والشرائع التي ترشده إلى طاعة الله تعالى، وتحذّره من معصيته، وتحفّزه لاستخدام عقله، ومخالفة الأهواء والشهوات، وعدم الانخداع بالشيطان، والاستجابة لأجواء الاغراءات.
وقد تضمنت الشرائع الإلهية برامج لتربية الإنسان وتدريبه على طاعة الله تعالى، لتكون الطاعة منهجًا له في حياته.
تربية وتدريب على الطاعة لله
ويأتي في طليعة تلك البرامج، فريضة الحج، التي نعيش هذه الأيام أجواءها العظيمة، حيث يزحف الحجيج اليوم إلى صعيد منى، بعد أن وقفوا بعرفة أمس، وباتوا البارحة في المزدلفة، وهم اليوم يؤدون نسك يوم النحر في منى، يرمون جمرة العقبة، ويقدّمون الهدي، ثم يقومون بالحلق أو التقصير.
إنّ الرسالة الأساس لفريضة الحج، هي الالتزام بطاعة الله، فهي رحلة تربوية تدريبية، وورشة عمل تأهيلية، تعزّز في نفس الإنسان الانقياد لأوامر الله تعالى، بأشكالها وألوانها المختلفة، دون تردّد أو نقاش، بل بطاعة وتسليم.
يقول تعالى في الحديث عن نسك الهدي في الحج: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ﴾ [سورة الحج، الآية: 37]، فلا مصلحة لله في أيّ من مناسك الحج، وغايتها حصول التقوى في نفس الإنسان، بأن يلتزم بطاعة الله، وتجنّب معصيته.
فأمكنة أداء مناسك هذه الفريضة محدّدة من قبل الله تعالى، بدءًا من مواقيت الإحرام، إلى حدود الطواف والسعي، ومكان أداء صلاة الطواف، إلى الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، وأعمال منى والمبيت فيها، ورمي الجمرات، كلّ عملٍ يؤدّى في مكانه المحدّد بدقة عالية.
كما أنّ زمن أداء المناسك محدّد أيضًا من قبل الله تعالى، فلا يقع الحج إلّا في الوقت المحدّد، ولا يكون الوقوف بعرفة إلّا في الزمن المحدّد، وهكذا بقية المناسك لا بُدّ أن تؤدى في أوقاتها المقرّرة، وبالترتيب المقرّر، فلا يصح تقديم نسك على آخر، خارج التعاليم الشرعية المقررة.
وعليك أن تؤدي مناسك الحج بلباس خاص هو الإحرام، ويجب اجتناب حوالي (25) أمرًا حال الإحرام.
وحين يتأمل الإنسان محظورات الإحرام، يدرك أهمية هذا التدريب على الانقياد لطاعة الله تعالى دون تردّد ونقاش.
فلا يجوز للمحرم رجلًا أو امرأة الاقتراب من أيّ شأنٍ يرتبط بالعلاقة الجنسية، فإجراء عقد النكاح محرّم على المحرِم لنفسه أو لغيره، ولا يجوز له أن يحضر عقد نكاح أو يشهده، كما يحرم عليه الجماع والاستمناء، وتقبيل المرأة أو مسّها أو النظر إليها بشهوة، وإن كانت زوجته.
ولا يجوز استعمال الطيب شمًّا وأكلًا وطلاءً وصبغًا وبخورًا، كما يحرم أن يمسك على أنفه من الروائح الكريهة.
ولا يحوز التزيّن ولا الاكتحال ولا الدهان ولا النظر في المرآة للزينة.
ولا يجوز للرجل المحرِم لبس الخفّ والجورب الذي يغطّي ظهر القدم، ولا لبس أيّ مخيط.
ولا يجوز تقليم الأظفار، ولا إزالة أيّ شيءٍ من شعر الجسم، بأيّ طريقة ولو شعرة واحدة عمدًا. ولا أن تقتل أيّ حشرة تكون على جسمك، كالقمل والنمل والبق، أو تلقيها من جسمك أو ثوبك، نعم يجوز دفعها حتى تبتعد عنك.
ولا يجوز ستر الرأس للرجل المحرِم، ولا التضليل، ولا يجوز للمرأة المحرمة ستر وجهها بأيّ ساتر كالبرقع أو النقاب وما شابه، ولها أن تتحجب عن الأجنبي بإسدال شيءٍ من خمار رأسها على وجهها.
وكذلك حين نتأمل سائر مناسك الحج كرمي الجمرات، لماذا تؤخذ هذه الحجارة من مكان معيّن، وبصفات معيّنة، وترمى في وقت معيّن، على هذه الإسطوانات المحدّدة؟
إنّ كلّ هذه المناسك والأعمال عبادات تؤدى استجابة لأمر الله تعالى، ليتدرّب الحاج على ترويض نفسه للانقياد لله تعالى فيما يأمره في مختلف جوانب حياته.
تحصين وتعبئة روحية
وإلى جانب هذا التدريب العملي والترويض النفسي في مناسك الحج على الالتزام بطاعة الله، هناك برامج التحصين والتعبئة الروحية، المتمثلة في الإكثار من ذكر الله، والاستغفار من الذنوب، وذروتها في يوم عرفة، فقد جاء عن رسول الله أنه قال: «اَلْحَجُّ عَرَفَةُ»، ثمَّ أردَفَ رجلًا، فجعلَ يُنادي بِها في النَّاسِ[4] .
حيث ينبغي أن يقضي الإنسان وقته في التضرع إلى الله، وسؤال مغفرته وعفوه عن ذنوبه وأخطائه.
حتى ورد في رواية عن معاوية بن عمار قال سَأَلْتَ أَبَا عَبْدِاللَّهِ [الإمام جعفر الصادق ] عَنْ عَرَفَاتٍ لِمَ سُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ؟ فَقَالَ: «إِنَّ جَبْرَئِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ خَرَجَ بِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَلَمَّا زَالَتِ اَلشَّمْسُ قَالَ لَهُ جَبْرَئِيلُ: يَا إِبْرَاهِيمُ اِعْتَرِفْ بِذَنْبِكَ، وَاِعْرِفْ مَنَاسِكَكَ، فَسُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ لِقَوْلِ جَبْرَئِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ اِعْتَرِفْ فَاعْتَرَفَ»[5] .
وورد عن الإمام محمد الباقر : «إِنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ دُعَاءٍ وَمَسْأَلَةٍ»[6] .
وجاء في دعاء عرفة للإمام علي بن الحسين زين العابدين : «اللَّهُمَّ هَذَا يَوْمُ عَرَفَةَ، يَوْمٌ شَرَّفْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ وَعَظَّمْتَهُ، نَشَرْتَ فِيهِ رَحْمَتَكَ، وَمَنَنْتَ فِيهِ بِعَفْوِكَ وَأَجْزَلْتَ فِيهِ عَطِيَّتَكَ، وَتَفَضَّلْتَ بِهِ عَلَى عِبَادِكَ».
«وَهَا أَنَا ذَا بَيْنَ يَدَيْكَ صَاغِرًا، ذَلِيلًا، خَاضِعًا، خَاشِعًا، خَائِفًا، مُعْتَرِفًا بِعَظِيمٍ مِنَ الذُّنُوبِ تَحَمَّلْتُهُ، وَجَلِيْلٍ مِنَ الْخَطَايَا اجْتَرَمْتُهُ[7] ، مُسْتَجِيرًا بِصَفْحِكَ، لائِذًَا بِرَحْمَتِكَ، مُوقِنًا أَنَّهُ لاَ يُجِيرُنِي مِنْكَ مُجِيرٌ، وَلاَ يَمْنَعُنِي مِنْكَ مَانِعٌ»[8] .
إنّ رسالة الحج لا تقتصر على الحجيج بل تشمل كلّ مسلم يريد السعادة في دنياه وآخرته، بأن يلتزم بطاعة الله تعالى، وأن يحذر الاستجابة للأهواء والشهوات، والوقوع تحت تأثير الأجواء المغرية، ووساوس الشيطان التي تزيّن له الخروج عن طاعة الله تعالى.