الملا أحمد خميس.. التقوى والخطاب الرصين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب: 70]

صدق الله العلي العظيم.

ورد عن الصحابي الجليل سهل بن سعد الساعدي أنه قال: كَانَ رَسُول الله إِذا خطب النَّاس أَو علمهمْ لَا يدع هَذِه الْآيَة أَن يتلوها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا[1] .

من أهم الميزات في شخصية الفقيد الراحل الشيخ ملا أحمد الخميس[2]  - رحمه الله - ميزتان بارزتان:

الأولى: التقوى، على صعيد سلوكه الشخصي وتعامله الاجتماعي.

الثانية: الخطاب الرصين والقول السديد.

بين السمتين ارتباط وثيق؛ فالإنسان الذي يتقي الله سبحانه وتعالى، يتحمل المسؤولية في خطابه وحديثه مع الناس، خاصة حين يتصدى للخطاب الديني والتوجيه للجمهور.

وهذا ما نراه جليًا من سيرة النبي ، فقد كان يبدأ بهذه الآية الكريمة في كل خطبة من خطبه، كما ورد عن الصحابي الجليل. أي أنه يستحضر المسؤولية أمام الله تعالى مفتتح كل خطبة.

ومن يشعر بالتقوى، ويعيش الالتزام بتقوى الله سبحانه وتعالى، لا يعطي الفرصة لأي خلل أو خطأ أن يظهر على سلوكه.

وهذا ما كان عليه الفقيد الشيخ الملا أحمد رحمه الله، إذ لم يُذكر عنه خلال أكثر من تسعين عامًا من حياته، أي خطأ أو خلل في سلوكه يمكن أن يُدان به أو يُؤاخذ عليه.

وهو أمر مهم جدًا، خاصةً لمن له وزنٌ اجتماعي، أو دورٌ فاعلٌ في محيطه. فقد مارس التقوى في حياته الخاصة، وكذلك في علاقاته العامة، وهو توفيق كبير من الله سبحانه وتعالى.

أما الميزة الثانية، وهي التي أقف عندها فهي: الخطاب الرصين.

هذا المنبر الحسيني الذي نُحبّه، ونستلهم منه، وتتميّز به مجتمعاتنا الموالية؛ هو أمانة عظيمة وكبيرة.

الخطيب الذي يصعد هذا المنبر، وهو يتقي الله، يقدّر هذه المسؤولية، ويرتفع إلى مستوى تحملها، فيُقدّم خطابه برصانة، وينطلق من قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا.

فما هو القول السديد؟

السديد من السدّ الذي يُنشأ لمنع تسلّل المياه، ويجب أن يكون محكمًا متقنًا حتى لا يتسرّب الماء من خلال خروق أو ثقوب فيه.الملا احمد خميس

كذلك هو الخطاب السديد، يكون خالٍ من الثغرات، لا يوجد فيه ثقوب على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون.

خطيبنا الراحل، كانت ميزة منبره أنه رصينٌ على مستوى الشكل والمضمون، ملتزمٌ باللغة الفصحى الواضحة، في وقتٍ كان فيه كثيرٌ من الخطباء معظم خطابهم باللهجة العامية.

ورغم أن استخدام العامية ليس أمرًا مُستنكرًا، إلا أن الأفضل هو مراعاة الفصاحة، والنحو العربي، في القواعد ومخارج الحروف.

الخطيب الراحل كان يُتقن اختيار الكلمات، ويستحضر العبارات الفصيحة.

قلّما كان يستشهد بكلمات شعبية أو عامية، وإن استخدمها ففي أضيق الحدود، ولأداءٍ جمالي معين فقط، وكان يتمتع بصوت جهوري جميل.

وهنا يحسن أن نذكر كلمتين لأمير المؤمنين علي ، ينبغي أن تكونا نصب عين كل خطيبٍ ومتحدّثٍ مع الجمهور:

الأولى: ورد عنه : «أَحْسَنُ اَلْكَلاَمِ مَا زَانَهُ حُسْنُ اَلنِّظَامِ وَفَهِمَهُ اَلْخَاصُّ وَاَلْعَامُّ»[3] .

أي: أن يكون الكلام منسجمًا ممنهجًا من بدايته إلى نهايته، بلا تشتّت وتنقّل بين الموضوعات، وأن يكون واضحًا مفهومًا لمن يسمعه، سواء كان من الخاصة أو من العامة.

الخطيب حين لا يُحضّر لخطبته، فقد يُنتج خطابًا مُشوّشًا غير واضح، لا يُعدّ من أحسن الكلام.

الكلمة الثانية: عنه : «أَحْسَنُ الْكَلَامِ مَا لَا تَمُجُّهُ الْآذَانُ، وَلَا يُتْعِبُ فَهْمُهُ الْأَذْهَانَ»[4] .

أي أن الكلام الحسن هو ما لا تستثقله الأسماع، ولا تستقبحه الأذواق، ولا يُربك الفهم.

في بعض الأحيان، يقول الخطيب كلامًا يحتمل عدّة تفسيرات، أو يحتاج إلى تأمل طويل لفهمه، وهذا غير مناسب للمنبر الجماهيري، لأن الخطاب العام يحتاج إلى وضوح وسلاسة وبلاغة محكمة.

كما ينبغي مراعاة ظروف الزمان والمكان، والبيئة الاجتماعية والمحيط الذي يعيش ضمنه المجتمع، خاصة في هذا العصر حيث كل شيء مرصود، وكل خطاب قابل للنقد والتحليل، أو حتى الاجتزاء والتشويه.

نحن اليوم في زمن الإعلام المفتوح، هناك من يرصد، وهناك من يتصيّد، يحاول أن يلتقط نقاط الضعف في أي خطاب، ليُحوّلها إلى مطاعن أو شبهات، وأحيانًا إلى تهم مذهبية طائفية.

فلا بد أن نُقدّم خطابًا رصينًا، مسؤولًا، لا يُعطي فرصةً للأعداء، ولا يفتح ثغرات للمتربّصين.

الأسلوب الذي نتحدث به يجب أن يكون محكمًا، يسدّ أكبر قدر ممكن من الثغرات المحتملة في خطابنا.

وهناك بعدٌ آخر أيضًا يتعلق بوضعنا الداخلي كمجتمع، فنحن مجتمعٌ فيه توجهات وآراء وتيارات متعددة.

وهذا المنبر، ينبغي أن يكون واجهةً ومنبعاً لتقريب القلوب، وتأليف النفوس، وصيانة أجواء الانسجام في المجتمع.

ولا يصح أبدًا أن يُستغلّ هذا المنبر لطرح قضايا تُثير الفرقة أو الخلاف، أو تزرع الشك في النفوس، أو تُقسّم المجتمع إلى أطياف متضادة.

أحيانًا، قد يكون لدى الخطيب أو الباحث رأيٌ في موضوع عقدي، أو فقهي، أو اجتماعي، ويريد طرحه، لكن يجب أن يطرحه بطريقة لا تُثير البلبلة، ولا تُشعل الخلاف، ولا تُفهم على أنها هجوم أو إقصاء أو إساءة.

لأن هذه الثغرات، يدخل منها الداء، وتتسرّب منها المشكلات إلى داخل المجتمع.

وهذا خلاف القول السديد الذي أمر الله به في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا.

الفقيد الراحل، حين كان يتحدث عن مصائب أهل البيت ، أو يستعرض فضائلهم ومقاماتهم، كان يتحدث برصانة،

لا يُهوّل ولا يغالي، ولا يُثير أمورًا قد لا تتحملها أذهان المستمعين، بل كان خطابه رزينا، متماسكًا، بعيدًا عن الإثارة والانفعال.

وهذا نابع من تقواه، واستشعاره المسؤولية، ومن اهتمامه بإتقان خطابه وتحضيره جيدًا.

فقد كان يذهب إلى النجف الأشرف بضع أشهر من كل عام، لعدة سنوات، ويقضي وقتًا للدراسة في الحوزة العلمية، ليستزيد من العلم والمعرفة.

كما كان يُفرغ وقتًا وجهدًا لإعداد خطاباته، ويهيأ نفسه ليكون خطابه قولًا سديدًا، كما أمر الله تعالى.

وقد نُقل عن الشيخ محمد تقي فلسفي (رحمه الله)، وسمعتُ منه في أحد مجالسه، في بيته في طهران: أنه يصرف على إعداد كل محاضرة من محاضراته ما لا يقل عن ثماني ساعات، لهذا كانت خطاباته بهذا المستوى من الرزانة والإحكام. لأنه كان يُجهد نفسه ويحترم مستمعيه، يرى أن هذا المنبر يُشكّل واجهة وسمعة للمذهب وللطائفة، فلا يصح لأحدٍ منا أن يستهين بهذه المهمة وبهذه الوظيفة.

ونحن في ختام مجالس العزاء للفقيد الراحل، كلنا معنيون أن نترحّم عليه، وأن نواصل الدعاء له بالمغفرة والرحمة، لأن له إحساناً وفضلاً علينا جميعاً، ربّى مجتمعنا، وعوائلنا، وأبناءنا على الولاء وحب أهل البيت، وعلى الالتزام بالدين والقيم. فلَه حقّ علينا ألا ننساه.

كما أن من واجبنا أن تكون سيرته نبراسًا يُحتذى، خاصةً لفئة الخطباء والواعظين والموجّهين.

ومن أهم ما في هذه السيرة المباركة: التقوى، والخطاب الرصين.

أسأل الله سبحانه وتعالى، له المغفرة والرحمة،

فاتحة الملا احمد خميس

 

نص الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ حسن الصفار في ختام مجالس فاتحة المرحوم الشيخ الملا احمد خميس، في مسجد الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات، السبت ليلة الأحد 17 محرم 1447هـ الموافق 12 يوليو 2025م.
[1]  جلال الدين السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ج6، ص667.
[2]  الملا أحمد منصور علي كاظم الخميس، خطيب حسيني وإمام جماعة وشاعر، ولد في مدينة سيهات عام 1352 هـ /1941م، ارتقى المنبر الحسيني وعمره لم يتجاوز 16 عاما، التحق بالحوزة العلمية في النجف الأشرف بالعراق أوائل سبعينات القرن الماضي، درس الفقه والمنطق واللغة العربية، له ديوان شعر بعنوان: الأسى في رثاء أهل الكساء، ومؤلف بعنوان: الحسين سفينة النجاة، توقف عن القراءة لعارض صحي ألم به عام 1438 هـ /2016م، توفي صباح يوم الثلاثاء 13 محرم 1447هـ الموفق 8 يوليو 2025م.
[3]  الشيخ عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص212.
[4]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص218.