تعليم الحكمة من وظائف النبوة

 

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ[1] 

تؤكد آيات القرآن الكريم في حديثها عن وظائف البعثة النبوية، على وظيفة تعليم الحكمة، فمن المهام الرئيسة للنبي أن يعلّم الناس الحكمة كما يعلّمهم القرآن الكريم.

وقد جاء ذلك في أكثر من عشر آيات في سور مختلفة، كقوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ[2] .

وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّـهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ[3] .

وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ[4] .

وقد تكررت كلمة الحكمة في القرآن الكريم عشرين مرة، وجاءت صفة لله تعالى بأنه حكيم إحدى وتسعين مرة.

معنى الحكمة

وذكر المفسّرون للحكمة معانيَ كثيرة معظمها مصاديق وتجلّيات لمعنى الحكمة.

لكنّ الأصل في معنى الحكمة لغة هي الإحكام والإتقان في علم أو عمل أو قول، تقول: أحكمت الشيء فاستحكم: أي صار محكمًا. والأمر المحكم: المتقن الذي لا يوجد فيه ثغرة ولا خلل.

وقالوا: الحكمة وضع الشيء في موضعه. والحكيم: الذي يُحكم الأشياء ويُتقنها ويضعها في مواضعها.

قال الفراهيدي: وكلّ شيء منعته من الفساد فقد حكمته وأحكمته.

وجاء في كتاب (الفروق اللغوية): الحكمة وجود الفعل على جهة الصواب.

وفي نهاية ابن الأثير: الحكيم: الذي يُحكم الأشياء ويتقنها، ويقال لمن يُحسن دقائق الصناعات ويتقنها: الحكيم.

وبموجب هذه التفاسير اللغوية للكلمة يتضح أنّ من مهام النبي أنه يعلّم الأمة الإتقان في العمل، والامتناع عمّا يجب الامتناع عنه، ويرجع ذلك إلى مقولة حسن الأداء وجودة الفعل وصواب العمل.

فوظيفة النبي إلى جانب تلاوة آيات الله تعالى على الناس، وإرشادهم إلى تزكية أنفسهم، وتعليمهم القرآن، تعليمهم نهج الحكمة في إدارة حياتهم، فالحكمة حسن إدارة الذات، وإدارة الحياة.

ومما يؤيّد أنّ الحكمة تعني حسن إدارة الحياة وتحقيق جودتها، أنّ رسول الله دعا إلى طلب الحكمة وأخذها من أيّ مصدر كانت.

فقد ورد عنه : "الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا"[5] .

وورد عن علي : "الحِكمَةُ ضالَّةُ المُؤمِنِ؛ فَاطلُبوها ـ ولَو عِندَ المُشرِكِ ـ تَكونوا أحَقَّ بِها وأهلِها"[6] .

وعنه : "الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، فَخُذِ الْحِكْمَةَ وَلَوْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ"[7] .

ومعلوم أنّ الأمور الدينية، من المعتقدات والتشريعات، لا تؤخذ ولا تطلب إلّا من المصادر والجهات المعتمدة. أما الأمور المرتبطة بإدارة شؤون الحياة فيمكن استفادتها وأخذ النافع منها من تجارب البشر وخبراتهم، بغض النظر عن توجهاتهم الدينية والسلوكية، وبهذا يتضح أنّ الحكمة التي هي ضالة المؤمن في هذه النصوص هي ما يرتبط بإدارة الحياة.

الحكمة جودة الحياة والإنتاج

فالحكمة في مجال العمل تعني أمرين: اختيار العمل ثم إتقان أدائه، والمجتمعات والحضارات في هذا العصر تتنافس في الإنتاج وفي الإتقان، وتتفاوت قيمة المنتجات والبضائع والخدمات تبعًا لمستوى الإتقان والجودة.

وهذا ما نجده في كلام (ديكارت) عن الحكمة، حيث يقول: ليس المقصود بالحكمة الاتصاف بالحيطة أو الأخذ في الأمور بالحزم فقط، وإنما المقصود بها المعرفة الكاملة بجميع ما يمكن أن يُعرف لتدبير الحياة، وحفظ الصحة، واختراع الصناعات[8] .

إننا حين نتأمل أنماط سلوك الناس، وطريقة إدارتهم لأمور حياتهم، نجد نمطين مختلفين:

فهناك من يؤدي أعماله كيف اتفق، بطريقة استرسالية، من وحي ما تعوّد عليه، أو ينطلق في مواقفه وتصرفاته من حالة مزاجية انفعالية، دون أن يبذل جهدًا في التفكير ودراسة الأمور، ودون أن يهتم بطريقة الأداء وإتقان العمل.

ففي مجال الآراء والأفكار، لا يرجع إلى معايير ومقاييس في قبول فكرة أو رفض أخرى، بل يتأثر بالأجواء، ومدى تفاعله العاطفي مع أيّ فكرة.

وفي مجال الكلام ينطلق لسانه بما يرد على خاطره، ويتحدث من وحي انفعالاته، دون أن يحسب حسابًا لألفاظه وتعبيراته.

وفي تصرفاته وممارساته العملية قد يكون متسرعًا، أو متساهلًا، أو متكاسلًا، أو غير جاد في أداء ما يقوم به من عمل.

وفي مواجهة المشاكل قد يكون مرتبكًا أو متشنجًا. وهذا النمط تمثله الأكثرية من الناس مع تفاوت في الدرجات والمجالات.

وهناك نمط آخر من الناس ينطلق في سلوكه من التفكير في الأمور، واعتماد مرجعية في دراستها، ثم الاجتهاد في إتقان أدائها على أفضل وجه ممكن. وهذا هو نهج الحكمة الذي جاء النبي ليعلمه الناس.

ففي المجال النظري والمعرفي كان النبي يحث الناس على التفكير والتأمل، وتقليب الآراء وإنضاجها بالمشورة، والتحصن من تأثير الأهواء والرغبات على الفكر، وقبول الرأي السليم. وذلك ما يقرره القرآن الكريم وتؤكد عليه أحاديث النبي .

وفي المجال العملي: كان يربي الناس ويعلمهم على حسن إدارة شؤون حياتهم، في مختلف المجالات، ويمكن استخدام المصطلح الحديث (جودة الحياة).

فليس المسألة أن تعيش فقط، وإنما أن تختار الطريقة الأفضل للعيش، يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً[9] .

وليست المسألة أن تعمل وأن تنتج فقط، بل أن يكون عملك وإنتاجك في المستوى الأفضل والأحسن. يقول تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[10] .

ورد عن النبي : "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ"[11] .

وعنه : "إنَّ اللّه َ تَعالى يُحِبُّ مِنَ العامِلِ إذا عَمِلَ أن يُحسِنَ"[12] .

النبي معلّم الحكمة

في الحديث والسيرة النبوية مساحة واسعة يطلق عليها (السنن والآداب) وقد أفرد لها المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي أربعة مجلدات في موسوعة الفقه تقع فيما يقارب (1800) صفحة.

وتحتوي السنن النبوية على تعاليم لتحسين جودة الحياة في مختلف مجالاتها.

وحين نقرأ سيرة رسول الله نرى الجهد الكبير الذي صرفه في تعليم الناس الحكمة في أداء شؤون حياتهم، من خلال الأحاديث والسنن الواردة في مختلف جوانب أمور الحياة.

بدءًا من آداب الطعام والشراب وآداب النوم واليقظة، وآداب التخلي وقضاء الحاجة، وأحكام الأسرة وإدارة الحياة الزوجية، وتدبير المعيشة، وأساليب العمل والكسب الاقتصادي، وتعليم إدارة الحروب والمعارك، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية، وانتهاء بالسنن والأحكام المتعلقة بمراسيم الموت والدفن.

شواهد من السيرة النبوية:

ونقتبس بعض الشواهد من السيرة النبوية في تعليم الحكمة وحسن إدارة الحياة، فعن جابر: أنّ النبي رَأَى رَجُلاً آخَرَ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ: ‏"أَمَا كَانَ هَذَا يَجِدُ مَاءً يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ؟"[13] .

وعن جابر: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى رَجُلاً شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ، فَقَالَ: ‏"‏أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ شَعْرَهُ؟"[14] .

وعن جابر قال: أَمَرَنَا النَّبِيُّ أَنْ نُوكِيَ أَسْقِيَتَنَا وَنُغَطِّيَ آنِيَتَنَا[15] .

وعن أبي سعيد الخدري: أنّ رسول الله نَهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ. فَقَالَ رَجُلٌ: الْقَذَاةَ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ. قَالَ : «أَهْرِقْهَا»[16] .

وورد عن الإمام علي : "أَمَرَنَا رَسُولُ اَللَّهِ بِدَفْنِ أَرْبَعَةٍ: اَلشَّعْرِ وَاَلسِّنِّ وَاَلظُّفُرِ وَاَلدَّمِ"[17] .

وعن عمر بن أبي سلمة: أَكَلْتُ يَوْمًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ طَعَامًا فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ نَوَاحِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ : ‏"كُلْ مِمَّا يَلِيكَ‏"‏[18] .

وروي أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ لَهُ اِبْنَانِ فَقَبَّلَ أَحَدَهُمَا وَتَرَكَ اَلْآخَرَ: فَقَالَ اَلنَّبِيُّ : "فَهَلاَّ سَاوَيْتَ بَيْنَهُمَا"[19] .

وعن الإمام جعفر الصادق : نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ أَنْ يُبَاتَ عَلَى سَطْحٍ غَيْرِ مُحَجَّرٍ[20] .

وعنه : "نَهَى رَسُولُ اَللَّهِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتاً مُظْلِماً إِلاَّ بِمِصْبَاحٍ"[21] .

وروي أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ نَزَلَ حَتَّى لَحَدَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَسَوَّى اَللَّبِنَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ نَاوِلْنِي حَجَراً، نَاوِلْنِي تُرَاباً رَطْباً يَسُدُّ بِهِ مَا بَيْنَ اَللَّبِنِ، فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ وَحَثَا اَلتُّرَابَ عَلَيْهِ وَسَوَّى قَبْرَهُ، قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ : إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَبْلَى، وَيَصِلُ إِلَيْهِ اَلْبَلاَءُ، وَلَكِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ عَبْداً إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَحْكَمَهُ"[22] .

 

خطبة الجمعة 28 رجب 1442هـ الموافق 12 مارس 2021م.

[1]  سورة الجمعة، الآية: 2.
[2]  سورة البقرة، الآية: 151.
[3]  سورة آل عمران، الآية: 164.
[4]  سورة الجمعة، الآية: 2.
[5]  سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحكمة، ح 4169.
[6]  عيون الحكم والمواعظ، ص22.
[7]  نهج البلاغة، حكمة 80.
[8]  مبادئ الفلسفة، المقدمة.
[9]  سورة النحل، الآية: 97.
[10]  سورة الملك، الآية: 2.
[11]  الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح1113.
[12]  الألباني: صحيح الجامع الصغير، ح 1891.
[13]  مسند أبي يعلى، ح 2022.
[14]  الألباني: سلسلة الأحاديث الصحيحة، 493.
[15]  سنن ابن ماجة، ح360.
[16]  صحيح الترمذي، ح1887.
[17]  الخصال، ج1، ص251.
[18]  صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب الأَكْلِ مِمَّا يَلِيهِ، ح5431.
[19]  مكارم الأخلاق، 220.
[20]  الكافي، ج6، ص530.
[21]  الكافي، ج6، ص531.
[22]  وسائل الشيعة، ج2، ص884.