ارحموا من أخطأ

 

يقول تعالى: ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‎﴿١٤‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [سورة الجاثية، الآيتان: 14-15].

إذا كانت الرّحمة تبذل لمن يعيش حالة ضعف لمساعدته على تجاوز معاناته، كالصغير والمريض والمصاب والفقير، فإنّ من يقع في الخطأ يعيش حالة ضعف روحي معنوي أخلاقي، قد يشعر بها وقد لا يشعر، بسبب إغواء الشيطان وتسويل النفس.

وكما يبادر الإنسان المؤمن لإبداء الرّحمة، لمن يعيش ضعفًا جسميًا أو ماديًا، ويهتم بمعاناته ويساعده لتجاوزها، فإنّ عليه أن يحمل نفس المشاعر والأحاسيس تجاه من يراه يقع في الخطأ الأخلاقي، والانحراف السلوكي.

اللامبالاة تجاه المخطئين

إنّ المؤمن الواعي لا يصح له أن يكون لا أباليًا تجاه المخطئين والمذنبين، فذلك يعني عدم الاهتمام بما يسخط الله تعالى، ويعني لونًا من الأنانية، فكما يحرص على الهداية والصلاح لنفسه، يفترض أن يهتم بهداية الآخرين وإصلاحهم.

وهذا ما يندرج ضمن عدد من العناوين الدينية، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة والدعوة إلى الخير.

وتؤكد التوجيهات الدينية أنّ على الإنسان أن ينظر إلى المخطئ والمذنب نظرة رحمة وعطف، وليس نظرة عداوة وانتقام.

العفو عن الإساءة الشخصية

قد يكون خطأ الآخر وذنبه يتمثل في الإساءة إليك، والنيل من شيء من حقوقك المادية أو المعنوية، وهنا يدعوك الدين إلى الصفح والعفو عن المخطئ بحقك، ويقدّم لك القرآن الكريم وعدًا إلهيًا، بأن تنال عفو الله وصفحه عن ذنوبك.

يقول تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة النور، الآية: 22].

ورد عن رسول الله أنه قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ خَلَائِقِ‌[1]  الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَإِعْطَاءُ مَنْ حَرَمَكَ»[2] .

وورد عن أمير المؤمنين علي : «مَا اِنْتَصَرَ رَسُولُ اللهِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَظْلِمَةٍ حَتَّى تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ الله، فَيَكُونُ غَضَبُهُ حِينَئِذٍ لِله تَبَارَكَ وَتَعَالَى»[3] .

وحُكِيَ أنَّ مالِك الأَشتَرَ كانَ مُجتازًا بِسوقِ الكوفَةِ، وعَلَيهِ قَميصُ خامٍ، وعِمامَةٌ مِنهُ، فَرَآهُ بَعضُ السّوقَةِ، فَازدَرى بِزِيِّهِ؛ فَرَماهُ بِبُندُقَةٍ[4]  تَهاوُنًا بِهِ، فَمَضى ولَم يَلتَفِت، فَقيلَ لَهُ: وَيلَكَ! أتَدري بِمَن رَمَيتَ؟ فَقالَ: لا، فَقيلَ لَهُ: هذا مالِكٌ صاحِبُ أميرِ المُؤمِنينَ ! فَارتَعَدَ الرَّجُلُ ومَضى إلَيهِ لِيَعتَذِرَ مِنهُ، فَرَآهُ وقَد دَخَلَ مَسجِدًا وهُوَ قائِمٌ يُصَلّي، فَلَمَّا انفَتَلَ أكَبَّ الرَّجُلُ عَلى قَدَمَيهِ يُقَبِّلُهُما، فَقالَ: ما هذَا الأَمرُ؟! فَقالَ: أعتَذِرُ إلَيكَ مِمّا صَنَعتُ، فَقالَ: لا بَأسَ عَلَيكَ، فَوَاللهِ ما دَخَلتُ المَسجِدَ إلّا لِأَستَغفِرَنَّ لَكَ[5] .

الموقف تجاه العاصين لله

وقد يكون الخطأ من الآخر يتمثل في معصية الله تعالى بانحراف فكري عقدي، أو انحراف عملي سلوكي، وهنا على المؤمن أن ينطلق في نظرته وتعامله مع العاصين المنحرفين من مشاعر إيجابية تجاههم، في الوقت الذي ينكر بقلبه معاصيهم ويتبرّأ من انحرافهم، لكن عليه أن يشعر بالرّحمة تجاههم، فالمنحرف والعاصي يعيش حالة مرضية، حالة ضعف ومصيبة وخطر.

ثم قد يكون العاصي جاهلًا، وقد يكون غافلًا، وقد يكون ظرفه ملتبسًا، وقد تكون إرادته ضعيفة أمام إغراءات الشيطان وأهواء النفس، وقد يكون واقعًا تحت تأثير جو اجتماعي، أو انقياد لأصدقاء سوء. وليس كلّ مذنب عاصيًا معاندًا مصرًّا على الانحراف.

هناك مبدأ تؤكد عليه التعاليم الدينية، وهو ألّا يتحول الموقف من المعصية إلى موقف حقد ذاتي على شخص العاصي، وتوجه للانتقام والتشفي منه، فالمعصية حالة مرضية، والعاصي ـ في أغلب الأحيان ـ كالمريض المحتاج إلى المساعدة للتعافي وتجاوز المرض، وفي هذا السياق يأتي ما ورد عن أمير المؤمنين علي: «وإِنَّمَا يَنْبَغِي لأَهْلِ الْعِصْمَةِ، والْمَصْنُوعِ إِلَيْهِمْ فِي السَّلَامَةِ، أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ والْمَعْصِيَةِ، ويَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ ـ والْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ»[6] .

وورد أنّ أحد أصحاب الإمام موسى الكاظم سأله: الرَّجُلُ مِن مَواليكُم يَكونُ عارِفًا يَشرَبُ الخَمرَ ويَرتَكِبُ الموبِقَ مِنَ الذَّنبِ، نَتَبَرَّأُ مِنهُ؟

 فَقالَ : «تَبَرَّؤوا مِن فِعلِهِ ولا تَتَبَرَّؤوا مِنهُ، أحِبّوهُ وأَبغِضوا عَمَلَهُ»[7] .

عمله مبغوض، لكنّه إنسان له حقوقه، ونسعى لمساعدته واستقطابه والتأثير عليه. بعض المتديّنين قد يعيش وضعًا نفسيًّا متأزّمًا، ويعكس ذلك على تعامله مع الآخرين باسم الدين، وعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!!

الرّحمة بالعاصين

الدين لا يريد منّا أن نتعامل بجفاء وغلظة مع الشخص المذنب، بل يدعو إلى الرحمة والشفقة به.

والآية الكريمة ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [سورة الجاثية، الآيتان: 14-15] تشير إلى هذا المبدأ، وتؤكد عليه.

إنها خطاب لرسول الله ، أن يأمر المؤمنين بالمغفرة، أي التسامح والصفح عن الذين لا يفكرون في المستقبل الأخروي، ﴿لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ حيث يجازي الله الناس بما يكسبون ويعملون في هذه الدنيا. فلا تحقدوا أيّها المؤمنون عليهم ولا تقابلوهم بالخشونة، فهم سيتحمّلون مسؤولية أعمالهم بين يدي الله، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۖ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ.

دروس من السيرة النبوية

وفي سيرة رسول الله أروع المواقف الملهمة في التعامل مع المذنبين.

فإنه تجاه كفار قريش، ومع إصرارهم على الكفر والعناد، وممارستهم العداء له وللرسالة، كان يقول: «اللّهُمَّ اغفِر لِقَومي فَإِنَّهُم لا يَعلَمونَ»[8] .

وعلى صعيد تعامله مع العاصين لله تعالى داخل المجتمع الإسلامي، نجد في السيرة النبوية مشاهد كثيرة، نقتبس منها بعض النماذج:

أُتِيَ النَّبِيُّ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قَالَ : «اضْرِبُوهُ»، [أي أقيموا عليه الحدّ] فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللهُ، قَالَ : «لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ»[9] .

وعن أنس بن مالك: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ، إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ : مَهْ، مَهْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : «لَا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ»، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ، لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ، وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ»[10] .

وورد في حديث أنه بيْنَما رسول الله جالس، إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يا رَسولَ اللهِ، هَلَكْتُ. قَالَ: ما لَكَ؟ قَالَ: وقَعْتُ علَى امْرَأَتي وأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسولُ اللهِ : هلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَ: لَا، فَقَالَ: فَهلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَكَثَ النبيُّ ، فَبيْنَا نَحْنُ علَى ذلكَ أُتِيَ النبيُّ بعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ - والعَرَقُ المِكْتَلُ- قَالَ: أيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أنَا، قَالَ: خُذْهَا، فَتَصَدَّقْ به، فَقَالَ الرَّجُلُ: أعَلَى أفْقَرَ مِنِّي يا رَسولَ اللهِ؟ فَوَاللهِ ما بيْنَ لَابَتَيْهَا - يُرِيدُ الحَرَّتَيْنِ - أهْلُ بَيْتٍ أفْقَرُ مِن أهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النبيُّ حتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أطْعِمْهُ أهْلَكَ[11] .

بين الاحتواء والتنفير

إنّ على المؤمن ألّا يكون متشنّجًا تجاه من يتورّط في المعاصي والذنوب؛ لأنّ ذلك سيخلق عنده موقف عداء شخصي، وسيمنعه عن التفكير في أفضل أساليب الهداية والإصلاح، كما أنّ التشنج ينفّر الطرف الآخر، ويبعده عن الاستجابة لدعوة الخير.

وخاصة في هذا العصر، نحن بحاجة ماسّة للحكمة واللباقة والرفق، في التعامل مع من يقع في الخطأ والمعصية من أبنائنا وبناتنا، حتى نتمكن من استيعابهم واحتضانهم، فإنهم يعيشون أجواءً تجذبهم وتغريهم بالانحراف، فلا ندفعهم أكثر إلى تلك الأجواء بالأساليب الجافة المنفّرة.

 

خطبة الجمعة 27 ربيع الأول 1447هـ الموافق 19 سبتمبر 2025م.

[1]  الخلائق: جمع الخليقة وهي الطبيعة، والمراد هنا الملكات النفسانية الراسخة، أي خير الصفات النافعة في الدنيا والآخرة.
[2]  الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص107، ح1.
[3]  الطبرسي، مكارم الأخلاق، ص23.
[4]  كرات طينية مدورة مجففة يرمى بها.
[5]  الشيخ المجلسي، بحار الأنوار، ج42، ص157.
[6]  نهج البلاغة، من كلام له في النهي عن غيبة الناس، رقم: 140.
[7]  الأصول الستة عشر، قم، دار الحديث للطباعة والنشر، ط1، 1423هـ، ص200، ح21.
[8]  أبو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ح 5862.
[9]  صحيح البخاري، باب الضرب بالجريد والنعال، ح6777.
[10]  صحيح مسلم، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، ح283.
[11]  صحيح البخاري، بَابُ إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ، ح1936.