التبشير برحمة الله

 

يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ‎ *‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا [سورة النساء، الآيتان: 27-28].

يعيش الإنسان في هذه الحياة معركة ضارية شديدة داخل نفسه، بين نوازع الخير ونوازع الشر، وكلاهما ضارب الجذور في أعماق وجوده.

يقول تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [سورة الشمس، الآيتان: 7-8].

وإذا كانت الفطرة والضمير والعقل ترشد الإنسان نحو الخير، وتشجّعه عليه، فإن الشهوات والأهواء تدفع الإنسان نحو الشر، وتسوقه إليه.

سأل زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَيُّ سُلْطَانٍ أَغْلَبُ وَأَقْوَى؟ قَالَ : «اَلْهَوَى»[1] .

سلطة الأهواء والشهوات

ويعلم الله تعالى مدى سلطة الأهواء والشهوات، وتأثيرها على الإنسان غالبًا، إلّا من استطاع أن يقارعها بقوة الوعي والإرادة، وقليل ما هم. وذلك هو مكمن الضعف الخطير في شخصية الإنسان.

يقول تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا [سورة النساء، الآية:28] ورغم أنّ الإنسان يدركه الضعف أمام كثيرٍ من تحدّيات الحياة، إلّا أنّ هذه الجملة جاءت في سياق الحديث عن تأثير الشهوات والأهواء على الإنسان. مما يُرجّح الإشارة إلى ضعف الإنسان أمام إغراءات الأهواء والشهوات.

يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا *‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا [سورة النساء، الآيتان: 27-28].

فلعلم الله تعالى بضعف الإنسان أمام شهواته وأهوائه، ولأنه تعالى يريد الرحمة بالإنسان، فإنه يفتح له دائمًا أبواب التوبة والتراجع عن الذنب والخطأ، والإعراض عن المحرضين لاتباع الشهوات.

الدين رؤية واقعية لطبيعة الإنسان

إنّ الدين ينطلق من نظرة واقعية موضوعية للإنسان، وأنه غالبًا ما يضعف أمام شهواته وأهوائه، فيدعوه لليقظة والحذر من الاستجابة للشهوات والأهواء، لكنه يأخذ بيده للنهوض كلّما عثر، وينتشله من السقوط كلّما وقع.

جاء عن رسول الله : «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»[2] .

وحتى حين يتحدّث الله تعالى عن المتقين أهل الجنة، وعن صفاتهم الإيمانية والأخلاقية، فإنه يستحضر طبيعتهم البشرية، ووقوعهم أحيانًا في المعصية والذنب، ﴿إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ، لكنّ ميزتهم التراجع عن الخطأ، والتوبة من المعاصي، ﴿ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ.

يقول تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ‎*‏ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‎*‏ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‎*‏ أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [سورة آل عمران، الآيات: 133-136].

استعادة المخطئ إلى جادة الصلاح

إنّ النصوص الدينية الكثيرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، التي تتحدث عن سعة رحمة الله تعالى، وقبوله التوبة من المذنبين والتراجع عن المعصية من العاصين، إنما تعني التركيز على عنصر الجذب والاستقطاب لمن وقع في الخطأ والذنب، واستعادته إلى جادة الخير والصلاح.

وهي تعني أنّ على المتصدّين للتوجيه الديني أن يهتموا بإبراز هذا الجانب من الثقافة الدينية، والتبشير برحمة الله تعالى.

صحيح أنّ هناك إلى جانب التبشير برحمة الله، الإنذار والتحذير من سخط الله وعذابه، لكنّ جانب التبشير أكثر حضورًا وكثافة في النصوص الدينية، بل التبشير هو الوظيفة الأولى للأنبياء، وبعدها تأتي وظيفة الإنذار، كما جاء في كثير من آيات القرآن الكريم.

يقول تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [سورة البقرة، الآية: 213].

ويقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سورة سبأ، الآية: 28].

ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [سورة الأحزاب، الآية: 45].

والتبشير من البشارة، وهي الإخبار بخبر سار يفرح ويبسط بشرة الوجه.

والإنذار: هو التخويف من حدوث ما يضرّ للاحتراز منه.

والأنبياء يخبرون الناس بما يفرحهم ويسرّهم من سعة رحمة الله، وما أعدّه لعباده من سعادة في الدنيا ونعيم وثواب في الآخرة، إن هم استجابوا لدعوته وسلكوا طريق الخير. ويخوّفونهم ويحذّرونهم من الشّقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة، إذا أعرضوا عن الله وسلكوا طريق الشّر.

يد الإنقاذ الإلهي

وحتى لو انزلق الإنسان إلى طريق الشّر، فإنّ الله تعالى لا يدعه يغرق في لجة الشّر، بل يمدّ له يد الإنقاذ وخشبة الخلاص، إلى آخر لحظة من اللحظات.

يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [سورة الزمر، الآية: 53].

ورد عن الإمام جعفر الصادق قال: «قَالَ رَسُولُ اللهِ ‌ مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَهُ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ السَّنَةَ لَكَثِيرَةٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَهُ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ الشَّهْرَ لَكَثِيرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِجُمْعَةٍ قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَهُ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ الْجُمْعَةَ لَكَثِيرٌ مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَهُ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ يَوْمًا لَكَثِيرٌ، مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُعَايِنَ قَبِلَ اللهُ تَوْبَتَهُ»[3] .

إنك تضعف أمام شهواتك وأهوائك وترتكب الذنوب والمعاصي، لكن عليك أن تستعيد وعيك، ولا يريد الله منك أكثر من أن تعترف بخطئك، وتطلب منه العفو، فما أوسع رحمة الله، وما أعظم عفوه، وما أعجب تلكؤ الإنسان عن طلب العفو والمغفرة.

تأملوا هذا الحديث الذي يرويه الإمام الصادق عن جدّه رسول الله : «طُوبَى لِمَنْ وُجِدَ فِي صَحِيفَةِ عَمَلِهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، تَحْتَ كُلِّ ذَنْبٍ أَسْتَغْفِرُ اَللهَ»[4] .

وفي رواية أخرى عن الإمام جعفر الصادق : «مَا مِنْ عَبْدٍ أَذْنَبَ ذَنْباً، فَقَامَ فَتَطَهَّرَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَاِسْتَغْفَرَ اللهَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ، وَكَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَقْبَلَهُ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً»[5] .

ماذا لو أعلنت حكومة عن استعدادها لإسقاط المخالفات المستوجبة للعقوبات والغرامات على المواطنين، بشرط تقديم طلب بإسقاطها فقط من قبل أيّ مواطن، هل سيتخلف عاقل عن تقديم مثل هذا الطلب لإسقاط ما يثقل كاهله من غرامات وعقوبات؟

أليس عجيبًا أن يتلكأ الإنسان ويتباطأ في التوبة إلى الله من ذنوبه وأخطائه؟

الترحيب والاهتمام بالتائب

بل إنّ الله تعالى يولي التائب من عباده عناية واهتمامًا، حيث يبذل له محبّته، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة، الآية: 222].

جاء عن الإمام محمد الباقر : «إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وَزَادَهُ، فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ، فَوَجَدَهَا، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ حِينَ وَجَدَهَا»[6] .

وعن أمير المؤمنين علي : «مَنْ تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ وَأُمِرَتْ جَوَارِحُهُ أَنْ تَسْتُرَ عَلَيْهِ وَبِقَاعُ اَلْأَرْضِ أَنْ تَكْتُمَ عَلَيْهِ وَأُنْسِيَتِ الْحَفَظَةُ مَا كَانَتْ تَكْتُبُ عَلَيْهِ»[7] .

ونظرًا لخصوصية مرحلة الشباب والمراهقة، حيث تشتدّ ضغوط الشهوات والأهواء على الشاب والفتاة، فإنّ هناك درجة أعلى من الترحيب والاهتمام الإلهي بتوبة الشاب والفتاة، كم ورد عن رسول الله : «مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَابٍّ تَائِبٍ»[8] .

بشرى المذنبين

علينا أن نثق برحمة الله، وأن نسارع إلى التوبة من أيّ خطأ نقع فيه، وأن نبشّر الآخرين ممن أخطأوا أو أذنبوا برحمة الله.

ونشير هنا إلى كتاب لأحد أعلام القرن الثاني عشر من منطقتنا القطيف، من قرية الجارودية، وهو العلامة الشيخ ناصر بن محمد الجارودي (توفي 1164هـ)، وعنوانه (بشرى المذنبين وإنذار الصديقين)[9]  وهو عنوان مستوحى من إحدى الروايات، عن رسول الله : «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، لِدَاوُدَ : يَا دَاوُدُ، بَشِّرِ الْمُذْنِبِينَ، وَأَنْذِرِ الصِّدِّيقِينَ، قَالَ: كَيْفَ أُبَشِّرُ الْمُذْنِبِينَ وَأُنْذِرُ الصِّدِّيقِينَ؟ قَالَ: يَا دَاوُدُ، بَشِّرِ الْمُذْنِبِينَ أَنِّي أَقْبَلُ التَّوْبَةَ وَأَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ، وَأَنْذِرِ الصِّدِّيقِينَ أَلَّا يُعْجَبُوا بِأَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَنْصِبُهُ لِلْحِسَابِ إِلَّا هَلَكَ»[10] .

وقد حشد المؤلف في هذا الكتاب نصوصًا كثيرة من الآيات والأحاديث التي تحفّز الإنسان للتوبة، وتبشّره بنتائجها العظيمة في الدنيا والآخرة، مع شروح وتحقيقات ضافية.

ما أحوج ساحتنا الدينية في هذا العصر إلى تكثيف إنتاج ثقافة التبشير بالرحمة الإلهية، لجذب واستقطاب أبناء هذا الزمن الذين تشتدّ عليهم ضغوط الشهوات والإغراءات، والداعية الواعي للدين هو من يستجيب لهذه الحاجة، كما ورد عن أمير المؤمنين علي : «الْفَقِيه كُلُّ الْفَقِيه مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ - ولَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللهِ، ولَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللهِ».

 

خطبة الجمعة 4 ربيع الآخر 1447هـ الموافق 26 سبتمبر 2025م.

[1]  الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4، 382، ح5833.
[2]  الشيخ الألباني، صحيح الترمذي، ح2499.
[3]  الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص330، ح2.
[4]  الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص69، ح14.
[5]  وسائل الشيعة، ج16، ص79، ح3.
[6]  الكافي، ج2، ص435، ح8.
[7]  الشيخ المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص28
[8]  الشيخ المتقي الهندي، كنز العمال، ح10233.
[9]  صدر الكتاب بطبعته الأولى من المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف، سنة 1375هـ، وصدرت طبعته الثانية سنة 1416هـ بتحقيق الشيخ مهدي العوازم.
[10]  الكافي، ج2، 314، ح8.