تحدّي التربية في عصر الانفتاح الرقمي

 

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم، الآية: 6].

لا أحد يهتم بأحد في هذه الحياة قدر اهتمام الوالدين بالأولاد، حيث يصبحون الشغل الشاغل في حياة الوالدين، فهم مركز الانشداد والتفاعل العاطفي، وحاجتهم وراحتهم لها الأولوية على كلّ شيء عند الوالدين، فيؤثرونهم على نفسيهما.

لقد أودع الله في قلب الوالدين عاطفة الأمومة والأبوة، لتكون ينبوعًا من الحب والعطف والحنان يتدفق على الأولاد بشكل غريزي.

والأولاد امتداد لذات الإنسان، وهم جزء حقيقي منه، فحبّه لهم من حبّه لذاته، لذلك يخاطب أمير المؤمنين علي ولده الحسن في وصيته له بقوله: «وَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئًا لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي»[1] .

وكما يهتم الإنسان بحماية ذاته ودفع الأخطار عنها، كذلك يهمّه حماية أبنائه، وتجنيبهم المخاطر، بل قد يُعرّض نفسه للخطر من أجل حمايتهم.

من هنا جاءت الآية الكريمة لتضع وقاية الأهل، وفي طليعتهم الأولاد، في سياق وقاية الذات.

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم، الآية: 6].

إنها تلفت الإنسان إلى الوقاية من المخاطر التي غالبًا ما يُغفل عنها، وهي الأخطار الروحية والسلوكية التي تسبب الشقاء للإنسان في الدنيا، والعذاب في نار الآخرة.

الاهتمام باستقامة الأبناء

إنّ الآية الكريمة تشير إلى ضرورة الاهتمام بالبعد الآخر من رعاية الأبناء، حيث تتركز جهود الوالدين غالبًا على الاهتمام برعاية الأبناء ماديًا، بتوفير احتياجات حياتهم المعيشية وصحتهم الجسمية، وتلك مسؤولية يلزم القيام بها تجاه الأبناء، لكنّ هناك مسؤولية أخرى هي التربية الروحية والسلوكية.

إنّ التفكير في استقامة الأبناء روحيًا وسلوكيًا وحماية صحتهم النفسية، هو من أهم الواجبات والمسؤوليات في تربيتهم. وهو الهمّ الذي حمله الأنبياء والأولياء، كما تحدّث عنهم القرآن الكريم.

يقول تعالى: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [سورة البقرة، الآية: 132].

وينقل القرآن الكريم من وصايا لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [سورة لقمان، الآية: 17].

ويقول تعالى: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي [سورة الأحقاف، الآية: 15].

ويقول تعالى عن أم مريم بنت عمران: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [سورة آل عمران، الآية: 36].

المهمة الخطيرة الشاقّة

إنّ اللجوء إلى الله تعالى ودعاءه من أجل إنجاز هذه المسؤولية، يدلّ على إدراك الأنبياء والأولياء لخطورتها وصعوبتها، حتى إنّ أحد أعظم الأنبياء وهو النبي نوح ، لم تسعفه الظروف للنجاح في القيام بها تجاه ولده الذي تمرّد عليه، وغرق في الطوفان مع الكافرين.

يقول تعالى: ﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ‎*‏ قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [سورة هود، الآيتان: 42-43].

لذلك تشير أكثر من رواية إلى أنّ بعض صحابة النبي وأصحاب الأئمة ، توقفوا عند الآية الكريمة: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا، ليستوضحوا حدود هذه المسؤولية الخطيرة الصعبة.

ورد عن الإمام جعفر الصادق : «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً، جَلَسَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْكِي، وَقَالَ: أَنَا عَجَزْتُ عَنْ نَفْسِي كُلِّفْتُ أَهْلِي؟ فَقَالَ رَسُولُ الله : حَسْبُكَ أَنْ تَأْمُرَهُمْ بِمَا تَأْمُرُ بِهِ نَفْسَكَ، وَتَنْهَاهُمْ عَمَّا تَنْهَى عَنْهُ نَفْسَكَ»[2] .

وعن زيد بن أسلم قَالَ: تَلا رَسُول الله هَذِه الْآيَة ﴿قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، كَيفَ نقي أهلنا نَارًا؟ قَالَ : «تَأْمُرُونَهُمْ بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ، وتَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا يَكرَهُ اللهُ»[3] .

وعن أبي بصير فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً قُلْتُ كَيْفَ أَقِيهِمْ؟ قَالَ [الإمام جعفر الصادق ]: «تَأْمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَ اللهُ، وَتَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللهُ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ كُنْتَ قَدْ وَقَيْتَهُمْ، وَإِنْ عَصَوْكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ»[4] .

وإذا كان هؤلاء الأصحاب أدركوا خطورة تحدّي التربية في تلك الأزمنة، فإنها في هذا العصر أكثر وأشدّ خطورة. وذلك لأنّ السيطرة على الأجواء التي يعيش فيها الأبناء تمثّل صعوبة بالغة.

حماية الأبناء في الفضاء الرقمي

ولأنّ العالم يحتفي بدءًا من اليوم بالأسبوع العالمي للدراية الإعلامية والمعلوماتية، الذي تبنته الأمم المتحدة، سنويًا من 24 إلى 31 أكتوبر، ويستهدف تعزيز كفاءات الناس في البحث عن المعلومات، وتلقيها بشكل آمن، يتجاوز مخاطر التضليل والتزييف والابتزاز والاغواء.

لذلك سنركز الحديث حول حماية الأبناء في الفضاء الرقمي، وهو موضوع يشغل كلّ المجتمعات في هذا العصر، ذلك أنّ الفضاء الرقمي هو العالم الذي ينشدّ وينجذب إليه كلّ الأبناء والبنات، ويقضون في رحابه جزءًا كبيرًا من وقتهم اليومي، يتفاعلون مع برامج الألعاب الإلكترونية المختلفة، ويتواصلون مع مختلف الشبكات والمواقع الافتراضية، وذلك ما يتيح الفرصة للتأثير على أفكارهم وسلوكهم، وتشكيل شخصياتهم من خلال هذه البرامج والمواقع.

ومن الطبيعي أن تستغلّ بعض الجهات السيئة والشريرة هذه الفرصة لخدمة أغراضها، ولجني أكبر قدر من المكاسب والأرباح.

فهناك برامج تدفع المراهقين إلى الانتحار وإيذاء النفس وإيذاء الآخرين، وقد رفعت عائلات فرنسية دعوى قضائية ضد تطبيق «تيك توك»، متهمة المنصة بتعريض أطفالها المراهقين لمحتوى ضار أدى إلى انتحار اثنين منهم في سنّ الخامسة عشرة، بحسب محاميهم.

وتزعم الدعوى القضائية أنّ خوارزمية «تيك توك» عرَّضت المراهقين السبعة لمقاطع فيديو تروِّج للانتحار، وإيذاء النفس، واضطرابات الأكل، وفق ما قالته المحامية لور بوترون مارميون لقناة «فرنس إنفو»[5] .

وقبل أسبوعين عاش المجتمع المصري صدمة عنيفة، فقد كشفت التحقيقات في جريمة مقتل طفل مصري في مدينة الإسماعيلية على يد زميله وتمزيق جثته بوحشية عن الدافع الرئيسي وراء الجريمة.

فالطفل المتهم وعمره ثلاث عشرة سنة، اعترف بأنه استوحى طريقة القتل من إحدى الألعاب الإلكترونية المنتشرة على الإنترنت، التي تحاكي مشاهد العنف والدماء بشكل واقعي مرعب، حتى غابت لديه الحدود بين الحقيقة والخيال، وبين اللعبة والواقع[6] .

الألعاب الإلكترونية أدوات برمجة نفسية

وحسبما يقول مختصون أمنيون وإلكترونيون فإنّ بعض الألعاب الإلكترونية اليوم لم تعد مجرّد وسيلة للتسلية، بل تحولت إلى أدوات برمجة نفسية وتطبيع للعنف، وتغذية خفية لسلوك عدواني وجريمة كاملة الأركان.

وأشار الدكتور محمد محسن رمضان، رئيس وحدة الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني بمركز العرب للأبحاث والدراسات لـ "العربية.نت": إلى أنّ الألعاب الرقمية الحديثة لم تعد مجرّد "بيكسلات ملونة"، بل منظومات متكاملة من التحفيز السلوكي (Behavioral Conditioning) التي تعمل على إعادة تشكيل إدراك اللاعب، واستثارة مراكز المكافأة والعنف داخل الدماغ، موضحًا أنّ كثيرًا من الألعاب تعتمد على نظام القتل مقابل النقاط، والمكافأة عند تنفيذ مهام عنيفة، مما يُكوّن مع الوقت ارتباطًا شرطيًا بين "العنف" و"النجاح"، فينمو لدى الطفل شعورٌ بأنّ القسوة هي الوسيلة الطبيعية للتغلب، ومع غياب التوجيه الأسري، تتحول هذه "المحاكاة الافتراضية" إلى سلوك واقعي.

وأضاف أنّ بعض الألعاب أو مقاطع البث داخلها تحتوي على رسائل مموهة وتحدّيات موجهة، مثل تحريض الأطفال على خوض "تحدّيات الموت" أو إيذاء الذات، وتصوير عمليات قتل أو عنف بأسلوب المغامرة والبطولة، وإدخال الأطفال في غرف محادثة سرية تضم أشخاصًا بالغين مجهولي الهوية يتلاعبون بعقولهم، موضحًا أنّ تلك الألعاب تشمل بثّ محتوى يتسلل عبر الألعاب المجانية التي تبدو بريئة لكنها تحتوي على خوارزميات توصية (Recommendation Algorithms) تقود الطفل تدريجيًا نحو محتوى مظلم.

إنّ هذه الألعاب أصبحت "مدارس سلوك" خطيرة، تُبرمج الأطفال على العنف، حيث تبدأ الجريمة بـ "لعبة"، وتنتهي بـ "كارثة"[7] .

وقد أصبح الإدمان على الأجهزة الالكترونية مرضًا تتناوله الأبحاث الاجتماعية ودراسات الصحة النفسية.

وقد أفاد حوالي 80% من الأطفال في 25 دولة، بأنهم يشعرون بخطر التعرّض للاعتداء الجنسي، أو الاستغلال عبر الإنترنت[8] .

مبادرة سعودية رائدة

وقد أطلقت بلادنا المملكة العربية السعودية مبادرة رائدة لحماية الطفل في الفضاء السيبراني، اعتمدها بالإجماع مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بداية شهر يوليو 2025م[9] .

وقد ألزمت هيئة تنظيم الإعلام في السعودية منصة ألعاب "روبلوكس" الشهيرة بإيقاف المحادثات الصوتية والكتابية، وحجب أكثر من 300 ألف لعبة ضمن فئة "ألعاب التجمعات الاجتماعية"، بجانب التشديد على رقابة محتوى المنصة من أجل تعزيز السلامة الرقمية وحماية الخصوصية، وتوفير تجربة أكثر أمانًا للمستخدمين.

تُعدّ "روبلوكس" واحدة من أكثر منصات الألعاب شهرة، إذ تقدّم بيئة افتراضية تفاعلية تجمع ملايين المستخدمين، غير أنها حملت جملة مخاطر تهدّد سلامة الأطفال الذين يشكلون في الواقع نحو 40% من المستخدمين، ما يجعلها تتحول لبيئة رقمية غير آمنة بالنسبة لهذه الفئة[10] .

وروبلوكس (Roblox) التي يتجاوز عدد مستخدميها حول العالم 100 مليون شخص يوميًا، هي لعبة متوافرة على أجهزة "أندرويد" و"آي أو إس" والحاسوب الآلي و"الأكس بوكس ون"، ومصممة للأطفال والمراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و18 عامًا.

الاستنفار الجادّ لحماية الأبناء

إنّ مواجهة هذا التحدّي تستلزم الاستنفار الجادّ لحماية أبنائنا من هذه المخاطر الهائلة، وكما أنّ الدولة تتخذ الإجراءات اللازمة على هذا الصعيد، فعلى الأسرة أن تهتم أكثر بالتوجه لأبنائها، وتخصيص أكبر قدر من الوقت للعلاقة معهم، لتقليل وقت ارتباطهم بالعالم الافتراضي.

كما يجب مراقبة الأبناء بحكمة، ومعرفة نوعية المواقع والبرامج التي يتابعونها، وإقناعهم بالابتعاد عن الضار منها.

ومن الأهمية بمكان توجيه الأبناء إلى البرامج التفاعلية العملية، كالرياضة والرسم، والقراءة، والعلاقات مع الزملاء والأصدقاء المناسبين.

 

خطبة الجمعة 2 جمادى الأولى 1447هـ الموافق 24 أكتوبر 2025م.

[1]  نهج البلاغة، من وصية له للحسن بن علي ، رقم: 31.
[2]  الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص62، ح1.
[3]  الإمام جلال الدين السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ج8، ص225.
[4]  الكافي، ج5، ص62، ح2.
[5]  صحيفة الشرق الأوسط، عائلات فرنسية تقاضي «تيك توك» بسبب محتوى أدى إلى انتحار مراهقَين، 4 نوفمبر 2024 م ـ 03 جمادى الأولى 1446هـ.
[6]  العربية.نت https://ara.tv/4doer.
[7]  العربية نت، https://ara.tv/4doer.
[8]  https://www.un.org/ar/global-issues/child-and-youth-safety-online.
[9]  https://www.spa.gov.sa/N2354109.
[10]  https://ara.tv/gzjax.