قيمة الأمومة في سيرة الزهراء
يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴿١﴾ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴿٢﴾ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [سورة الكوثر، الآيات: 1-3].
من أهم تجلّيات فضل وعظمة سيدة نساء العاملين فاطمة الزهراء
، دور الأمومة الذي قامت به، وأدّته بامتياز عظيم، حيث قدّمت للأمة أفضل القيادات والكفاءات، المتمثلة في سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين، وبطلة كربلاء عقيلة الهاشميين زينب، وأختها أم كلثوم، واختارها الله تعالى لتكون أم العترة النبوية الطاهرة، وانحصرت ذرية رسول الله
في نسلها المبارك.
وأولاد النبي، على المشهور، سبعة، ثلاثة ذكورٍ، هم: القَاسِم، وعبدالله، وإبراهيم، وأربع إناثٍ، هنَّ: زَيْنَب، ورُقيَّة، وأم كُلْثُوم، وفَاطِمة.
تُوفِّي أولادُه الذُّكور صِغارًا، أمَّا البنات فكَبُرنَ وتزوَّجنَ، ثمَّ لحِقنَ بالرَّفيق الأَعْلى في حياتِه، عدا (فاطمة الزَّهراء).
وكان له من الأحفاد غير أبناء الزهراء ثلاثة، توفي اثنان منهما في صغرهما، وهما علي من ابنته زينب، وعبدالله من ابنته رقية، وبقيت حفيدة واحدة من ابنته زينب هي أُمامة بنت أبي العاص، التي تزوجها علي بعد فاطمة الزهراء ولم تنجب.
فامتداد ذريته ونسله
عبر أولاد فاطمة الزهراء
.
وقد ورد عن رسول الله
: «إِنَّ اللهَ جَعَلَ ذُرِّيَّةَ كُلِّ نَبِيٍّ فِي صُلْبِهِ وَجَعَلَ ذُرِّيَّتِي فِي صُلْبِ عَلِيِّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ»[1] .
المصداق الأظهر للكوثر
فهي المصداق الأظهر لكثرة الخير الذي وعد الله تعالى به رسوله، في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾.
والكوثر اسم في اللغة للخير الكثير، ويوصف صاحب الخير الكثير بكوثر[2] .
وإذا كانت السورة قد نزلت في أجواء الكلمات التي أثارها بعض سفهاء قريش في حديثهم عن النبي
، بأنه أبتر لا ذرية له من الذكور، فقد يكون الحديث عن الخير الكثير إشارة إلى الذرية الكثيرة التي للنبي
من ابنته فاطمة، فإنّ من وَلَد الزهراء
لا يطلق عليه أنه أبتر، بل هو ممتد في الزمن بامتداد أولادها، وقد قال الشاعر المصري أحمد شوقي:
ما تَمَنّى غَيرُها نَسلًا وَمَن يَلِدِ الزَهراءَ يَزهَد في سِواها[3]
وهذا ما ذكره مفسِّرو الشيعة، أنّ الكوثر هنا إشارة إلى كثرة الذرية، وهي من فاطمة
، كمصداق أظهر لكثرة الخير.
وأشار إلى ذلك بعض مفسّري السنة، منهم الفخر الرازي (توفي 604هـ)، في التفسير الكبير، ضمن عرضه للأقوال في معنى ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، قال: (وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْكَوْثَرُ أَوْلَادُهُ قَالُوا: لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى مَنْ عَابَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَدَمِ الْأَوْلَادِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُعْطِيهِ نَسْلًا يَبْقَوْنَ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ، فَانْظُرْ كَمْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، ثُمَّ الْعَالَمُ مُمْتَلِئٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ يُعْبَأُ بِهِ، ثُمَّ انْظُرْ كَمْ كَانَ فِيهِمْ مِنَ الْأَكَابِرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَالْبَاقِرِ وَالصَّادِقِ وَالْكَاظِمِ وَالرِّضَا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالنَّفْسُ الزَّكِيَّةُ وَأَمْثَالُهُمْ)[4] .
ومما ثبت من الحديث عن رسول الله
عند المسلمين السنة والشيعة، أنّ آخر قائد وإمام للأمة وهو المهدي، من ولدها
، كما جاء عنه
: «الْمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ»، أخرجه الألباني في صحيح أبي داود برقم: 4284.
الأمومة في سيرة الزهراء
وهكذا فإنّ أمومة الزهراء
للذرية الطاهرة هو تجلٍّ من تجلّيات فضلها وعظمتها، لذلك سنتحدّث عن قيمة الأمومة في سيرتها
.
دخلت الزهراء
الحياة الزوجية باقترانها بعلي في السنة الثانية للهجرة، وفارقت الحياة في السنة الحادية عشرة، فمدّة حياتها الزوجية تقارب التسع سنوات.
أنجبت خلالها خمسة من الأولاد: الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم والمحسن السقط، بمعدّل مولود كلّ سنتين تقريبًا، وكانت الظروف التي عاشتها الزهراء
، وأنجبت خلالها، ظروفًا مليئةً بالصعوبات والتحديات، حيث الحروب والغزوات، وتأسيس المجتمع الإسلامي الجديد، والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي كانت على كاهل أبيها رسول الله
، وسنده وعونه زوجها أمير المؤمنين علي، فكانت حياتها في قلب تلك المشاكل والأحداث.
وتحدّثنا الروايات التاريخية عن الظروف الاقتصادية الصعبة التي عاشتها الأسرة النبوية، في تلك المرحلة، ففي بعض الأيام لم يكن الطعام متوفرًا في بيت فاطمة لإطعام أبنائها، وكانت مهام إدارة المنزل وشؤون تربية الأبناء تتطلب وجود خادمة تساعدها، فلما طلبت من أبيها رسول الله
اعتذر إليها بحاجات المسلمين وأولويتها عنده، وفيما بعد حين توفرت الإمكانية، أصبحت لها خادمة.
أعلى مهمة وأرقى وظيفة
لا شك أنّ دور الأموة يحمّل المرأة أعباءً ليست يسيرة، تتمثل في مشقة الحمل والولادة والحضانة.
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه المشقة، بأنها (وَهَنٌ عَلَى وَهْنٍ)، وكُرْهٍ مع كُرْهٍ. يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ [سورة لقمان، الآية: 14].
والوهن هو الضعف وقلة الطاقة، فهي تتحمّل ثقل الجنين في أحشائها، وتتحمّل امتصاصه لطاقة جسمها لغذائه من خلال دمها.
ويقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [سورة الأحقاف، الآية: 15].
والكُره تعبير عن آثار التعب والجهد الجسدي الشّاق على نفس المرأة، في مرحلة الحمل وحال الولادة، فبالإضافة إلى عناء الحمل، هناك مشقة الولادة. وبعد الولادة تتحمل الأم أعباء الرضاعة والحضانة والتربية، وتتكلف بذلك سهر الليل وبذل الجهد الكبير، في مواجهة احتياجات الطفل المتعددة.
إلّا أنّ الله تعالى هيّأ المرأة وأعدّها نفسيًا لتحمّل هذه الأعباء، بأن أودع في أعماقها نزعة الأمومة، وملأ قلبها بمشاعر العطف والحنان، ففي قلب المرأة مخزون هائل من العاطفة والحب، يعينها على القيام بدور الأمومة.
فأول نظرة تلقيها على مولودها الجديد، تزيل عنها كلّ عناء الحمل ومشقة الولادة، وتتعلق روحها بوليدها، وتنتعش أحاسيسها، وتتجدد الحيوية في وجودها. وتصبح كلّ حركة من طفلها، أو بسمة ترتسم على محيّاه، مصدر أنسٍ وسعادة لها.
إنّ الأولاد هم معقد الأمل في حياة المرأة والامتداد لوجودها، وعبرهم تكون مشاركتها الرئيسة في استمرار النسل البشري وإعمار الكون والحياة.
وحين تربّيهم تربية صالحة، ويأخذون مواقع قيادية في مجتمعهم، يكونون فخرًا وعزًّا لها، تتفيأ ظلال بِرِّهم، وتنال عظيم الأجر والمثوبة من الله سبحانه.
إنّ الأمومة هي أعلى مهمة وأرقى وظيفة في المجتمع البشري، لأنها ترتبط بإنتاج الإنسان نفسه وصنع شخصيته، وذلك إنجاز لا يدانيه أيّ إنجاز.
لذلك جاء عن رسول الله
: «الجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الأُمَّهَاتِ»[5] ، وإذا كان سند هذا الحديث ضعيفًا، فقد ورد معناه في حديث صحيح، حيث استشاره
رجل في الجهاد، فَقَالَ
: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ
: «الْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا»[6] .
العزوف عن الإنجاب
في ظلّ هيمنة الحضارة الغربية المادية، تم الترويج لثقافة العزوف عن الإنجاب، وإضعاف دور الأمومة في الوسط النسائي بمختلف الأساليب والوسائل، فقد أشاعوا فكرة تنظيم النسل على المستوى العالمي، ومن أوائل المنظّرين لها عالم الاقتصاد البريطاني (توماس روبرت مالتوس) الذي حاول أن يبرهن في مقالته المشهورة في مبادئ علم السكان، أنّ نمو السكان في العالم يتزايد أسرع من تزايد الطعام المتوفر لهم، وبناءً على ذلك ينصح الشباب من الرجال والنساء بتأجيل الزواج لتقليل الولادات، وينصح المتزوجين بالاكتفاء بأقلّ عدد من الأولاد خوفًا من الانفجار السكاني.
وفي الردّ على هذه النظرية، أثبت العلماء والخبراء، أنّ في الطبيعة ثروات هائلة، وأنّ المشكلة تكمن في فشل وضعف برامج التنمية والسياسات الاقتصادية، وفي سوء توزيع الموارد بين بني البشر، وأنّ نسبة الاستفادة من الثروات المودعة في الكون والحياة، لا تزال محدودة قياسًا إلى القدرات والإمكانات الطبيعية الهائلة.
ولكن تبنّت كثير من الدول خلال الستينيات من القرن العشرين برامج حكومية لتنظيم النسل. وسعوا إلى فرضه على الدول النامية، والخاضعة لنفوذهم.
وقد استخدمت بعض الدول الغربية أساليب ملتوية ولا إنسانية لفرض هذه السياسة.
وانكشفت أخيرًا بعض فضائح هذه السياسات، وفي هذا السياق قدّمت رئيسة وزراء الدنمارك في 27 أغسطس 2025م، اعتذارًا رسميًا للنساء المتضرّرات من حملة تحديد نسل قسري شهدتها مقاطعة غرينلاند في ستينيات القرن الماضي.
فبين عامي 1960 و1970، زرعت أجهزة منع الحمل المعروفة باللولب في أرحام آلاف النساء والفتيات من السكان الأصليين في غرينلاند، وغالبًا من دون موافقتهن.
وخلص تحقيق رسمي في بداية هذا الشهر إلى أنّ ما لا يقلّ عن أربعة آلاف امرأة وفتاة خضعن لعمليات ضمن حملة تحديد النسل حتى عام 1970، أي ما يعادل نحو نصف سكان غرينلاند من النساء في ذلك الوقت.
وفحصت لجنة التحقيق أكثر من 300 حالة لفتيات لم تتجاوز أعمار بعضهن 12 عامًا، خضعن لتلك العلميات دون موافقتهن أو علمهن.
ورأى المؤرّخ في جامعة كوبنهاغن، سورين رود، في حديث لـ بي بي سي عام 2022، تزامنًا مع انطلاق التحقيق، أنّ الهدف من زرع اللولب كان ماليًا، بعد تزايد عدد السكان في غرينلاند وما تبعه من ارتفاع تكلفة الرعاية الصحية.
وأضاف أنّ جزءًا من الدافع لتحديد النسل كان "استعماريًا"، قائلًَا: "كان هناك اهتمام واضح بمحاولة الحدّ من النمو السكاني، لأنّ ذلك سيقلّل من تحدّيات توفير خدمات الإسكان والرعاية"[7] .
انخفاض معدّل الخصوبة العالمي
وقد اتضح لشعوب العالم خطأ المبالغة في ثقافة تحديد النسل والسياسات المنبثقة منها، وبدأ العالم يجني ثمارًا مرّةً لها، حيث انخفض معدل الخصوبة العالمي وتباطأت معدلات المواليد في العديد من دول العالم، وأصبح تقلّص عدد السكان مصدر قلق لكثير من الدول الغربية التي تعاني من شيخوخة أبنائها، وتضاعف عدد المعمّرين مع قلة المواليد، وانخفاض نسبة الشباب في مجتمعاتهم. كاليابان وكوريا الجنوبية وبورتوريكو والبرتغال وإيطاليا وغيرها.
وصار يطلق على إيطاليا، ثالث أكبر دولة في منطقة اليورو لقب "بلد أسرّة الأطفال الفارغة". حتى إنّ إيلون ماسك غرّد قائلًا: "إيطاليا تختفي!"[8] .
وتسللت إلى مجتمعاتنا الإسلامية ثقافة لإقناع المرأة من خلال تضخيم النزعة الأنانية الذاتية في نفسها، بأنّ قلة الإنجاب يحفظ للمرأة جمالها ورونقها، ويجعلها أكثر تفرّغًا للعمل وكسب المال، والتمتع بالملذات والرغبات.
إنّ نسبة الخصوبة في منطقة الخليج متراجعة بشكل يثير القلق، إذ يبلغ معدل الخصوبة الإجمالي لمنطقة دول مجلس التعاون الخليجي 1.8 في عام 2022، وهو أقلّ من 2.0، وهو المعدّل العالمي لمستوى الإحلال اللازم للحفاظ على ثبات عدد السكان. وبحسب موقع «مارمور» الإحصائي، فإنه من المتوقع أن ينخفض معدّل الخصوبة الإجمالي إلى 1.15 بحلول عام 2060، مما سيؤدي إلى انخفاض كبير في عدد السكان بدول مجلس التعاون.
العودة لتشجيع الإنجاب في الغرب
إنّ بعض دول العالم اليوم اضطرت لتشجيع الإنجاب، وتقديم الحوافز للأسر لزيادة المواليد.
فبعد سنوات من اعتماد سياسة الطفل الواحد التي فرضتها الصين بين عامي 1980 و2015م، تواجه الصين حاليًا مشكلة في تراجع عدد السكان بالبلاد.
وترتب على هذا الأمر اتخاذ قرارات جديدة من شأنها الحث على الزواج في سن مناسبة والإنجاب.
وبهذا الصدد قال يو شيويه جون نائب رئيس اللجنة الوطنية للصحة في الصين إنّ اللجنة ستركز جهودها بشكل أكبر على الدعوة إلى الزواج والإنجاب في "أعمار مناسبة"، في الوقت الذي تكافح فيه السلطات لتعزيز معدل المواليد المتناقص الذي يتسبب في انكماش عدد سكان البلاد.
وأوضح أنّ اللجنة ستدعو أيضًا إلى تحمّل مسؤوليات الأبوة بشكل مشترك لتوجيه الشباب نحو "وجهات نظر إيجابية بشأن الزواج والإنجاب والأسرة"، حسبما ذكرت صحيفة جلوبال تايمز المدعومة من الدولة.
يأتي هذا في الوقت الذي تحاول فيه بكين تحفيز المزيد من النساء على إنجاب الأطفال بعد انخفاض عدد سكان البلاد للعام الثاني على التوالي في 2023 وتراجع المواليد لمستوى قياسي[9] .
وفي اليابان أطلقت وكالات حكومية حملات جديدة للتركيز على هذه المشكلة تحديدًا، مثل توسيع مرافق رعاية الأطفال، وتقديم إعانات الإسكان للأهل، وفي بعض البلدات، دفع الأموال للأزواج لإنجاب الأطفال[10] .
وفي عام 2013، قرّر المسؤولون في بلدية إحدى مناطق فنلندا، أن يتخذوا خطوات جادة للتصدي لظاهرة تراجع معدلات المواليد والانكماش السكاني بهذه البلدة.
ووضعت البلدية خطة حوافز أطلقت عليها "منحة المولود"، التي تمنح بموجبها لكلّ ساكن 10 آلاف يورو عن كلّ مولود جديد[11] .
وأطلقت حكومات بعض الدول الأوروبية مجموعة من السياسات التي تشجع مواطنيها على الإنجاب، وتتضمّن تقديم مزايا مالية وإعفاءات ضريبية لمن ينجب عددًا أكبر من الأطفال.
وأشارت صحيفة "لابانجورديا" الإسبانية إلى أنّ بعض الدول الأوروبية من روسيا شرقًا وحتى بولندا غربًا إلى صربيا جنوبًا، أصبحت تشجع على زيادة النسل وتستهدف من ذلك مواجهة التراجع الديموجرافي الكبير في منطقة من المتوقع أن تواجه العديد من بلدانها خلال العقود المقبلة تراجعًا غير مسبوق في عدد السكان لم تشهده منذ مطلع القرن العشرين[12] .
الأمومة أولوية في حياة المرأة
في الوقت الذي تشهد فيه المجتمعات الغربية ملامح عودة إلى تشجيع الإنجاب، بعد اتضاح خطأ ثقافة المبالغة في تحديد النسل، نجد رواجًا لهذه الثقافة التي تسللت إلى مجتمعاتنا الإسلامية، حتى في بلدان متقدمة الثراء كالدول الخليجية.
علينا أن نعود إلى ثقافتنا الإسلامية الأصيلة المنسجمة مع الفطرة، والمتوافقة مع القيم الإنسانية، للحث على التزاوج والتناسل، حيث ورد عن رسول الله
: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي أُباهي بِكُمُ الْأُمَمَ»[13] .
وعنه
: «أَكْثِرُوا الْوَلَدَ أُكَاثِرْ بِكُمُ الْأُمَمَ غَدًا»[14] .
وعنه
: «إِنَّ الْوَلَدَ الصَّالِحَ رَيْحَانَةٌ مِنْ رَيَاحِينِ الْجَنَّةِ»[15] .
وهذا لا يعني عدم أخذ بعض الظروف الصحية والاجتماعية والاقتصادية للمرأة والأسرة بعين الاعتبار، فقد تقتضي تنظيم وتحديد النسل، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون سياسة عامة، ولا ثقافة سائدة في المجتمع.
وعلينا أن نؤكد على قيمة دور الأمومة كأولوية في حياة المرأة، لا تصادم أدوارها الأخرى، ولا تكون أقلّ أهمية منها.
إنّ بإمكان المرأة أن تجمع بين مختلف المهام في حياتها، حين تنجح في تنظيم وقتها وترتيب أولوياتها، واستنفار الكامن من قدراتها وطاقاتها، ونجد في مجتمعاتنا الحاضرة بحمد الله نماذج رائعة في تحقيق مثل هذا النجاح.
وينبغي سنّ القوانين والتشريعات واتخاذ الإجراءات التي تمكّن المرأة من القيام بدور الأمومة إلى جانب أدوارها الوظيفية الأخرى، كالإجازات الكافية في حال الولادة، ووجود فرص العمل بدوام نصفي، وغير بعيد عن سكن المرأة العائلي، وتوفر دور حضانة، وتقديم الدعم المالي للأسرة عند زيادة الأولاد.
وفي إحياء ذكرى الزهراء
، علينا أن نسلّط الأضواء على دورها في الأمومة، وكيف اهتمت بتربية أبنائها، مع صعوبة الظروف والأوضاع التي عاشتها، وكيف صنعت منهم بتربيتها نماذج خالدة في سماء العظمة والطهارة، كالسبطين الحسن والحسين، سيّدي شباب أهل الجنة، وأيقونة العظمة والبطولة عقيلة الهاشميين زينب، وأختها أم كلثوم.
إلى جانب قيامها بمهامها وأدوارها الأخرى في تحمّل مسؤوليتها الدينية والاجتماعية، وإسهامها في خدمة الرسالة، والدفاع عن المبدأ.
كانت الزهراء تعيش هَمَّ تربية أبنائها ورعايتهم إلى آخر لحظة من لحظات حياتها، فقد أوصت زوجها عليًّا
بقولها
: «يَا اِبْنَ عَمِّ: أُوصِيكِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدِي بِابْنَةِ أُخْتِي أُمَامَةَ فَإِنَّهَا تَكُونُ لِوُلْدِي مِثْلِي، فَإِنَّ الرِّجَالَ لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ»[16] .






