أهل البيت (ع) والرأي الآخر
في إطار مواصلة سماحة الشيخ لإلقاء محاضراته المتميزة في موسم محرم الحرام لعام 1424هـ بحسينية العوامي بالقطيف، ألقى سماحته محاضرته السادسة (ليلة الأحد السادس من شهر محرم الحرام) تحت عنوان: أهل البيت والرأي الآخر. وقد تضمنت المحاضرة تمهيداً وأربعة محاور:تمهيد..
قبل شروع سماحته في المحاور الأربعة مهّد لموضوعه بمقدمة تحدث فيها عن أن الأمة الإسلامية مجتمعٌ بشري إنساني ليست بدعاً من الأمم وبالتالي وقوع الاختلاف بين مذاهب هذه الأمة ومدارسها المختلفة أمرٌ وارد، وأعزى هذا الاختلاف لسببين:
السبب الأول: تفاوت الآراء والأفكار بسبب تفاوت مستوى المعرفة.
السبب الثاني: وجود مصالح مادية ضمن الظرف السياسي أدى إلى نشوء آراء مختلفة مخالفة للآراء الصائبة.
ثم طرح سماحته هذا التساؤل، وهو: مع وجود هذه الاختلافات كيف ينبغي أن تتعامل الأمة فيما بينها؟
وأكد على أمرين مهمين:
الأمر الأول: وجود إرشاد وتوجيه من الدين.
وقال سماحته: إن هذا الأمر موجود، والمتتبع لآيات القرآن الحكيم، والسنة المطهرة يجد ذلك واضحاً. فمن القرآن الحكيم يقول تعالى: و﴿لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾، ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾. ومن السنة المطهرة: «ففي صحيح البخاري أن رسول الله في يوم النحر خطب المسلمين قائلاً: أيها الناس ما يومكم هذا؟ قالوا: يومٌ حرام. ما بلدكم هذا؟ قالوا: بلد حرام. ما شهر هذا؟ قالوا: شهرٌ حرام. ثم قال : فإن حرمة دمائكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)).»
الأمر الثاني: وجود نماذج عملية تطبيقية تُري الأمة كيف تتعامل مع هذه الحالة.
وأكد سماحته أن سيرة أهل البيت هي النموذج الأصيل الذي تحتاج إليه الأمة في زمنها الماضي والحاضر والمستقبل. كما أكد أن سيرتهم مهمة ليس فقط لشيعتهم وإنما لجميع المسلمين لأنهم يُمثلون رأي الإسلام الأصيل.
المحور الأول: التأصيل والثبات في الرأي والموقف.
أشار سماحة الشيخ إلى أن الرأي قد يتحول إلى عصبة يتكتل حولها مجموعة من الناس، فيتعصبون لرأيهم، وأحياناً يتنازل الإنسان عن الرأي نتيجة الضغوط المختلفة.
أما أهل البيت فهم يُمثلون الرأي الصحيح، الذي يُجسد شرع الله وأمره، وهنا لا مجال للمساومة والتنازل مهما كان موقف الرأي الآخر قوياً نتيجة امتلاكه عوامل القوة.
وأشار سماحته إلى أن ما يطرحه أهل البيت لا يُمكن قياسه بسائر الآراء، وذلك لأن الآخرين إنما يطرحون آراءهم اجتهاداً وبالتالي احتمالية الخطأ واردة.
أما أهل البيت فهم ليسوا مجتهدين، وإنما هم يُبلّغون عن رسول الله فهم معصومون. ولا مجال للخطأ في آرائهم.
وتعرض سماحته لمناقشة موضوع: ما إذا كان الرسول يجتهد أم لا؟
وقال: إن أتباع أهل البيت وبعض علماء السنة كابن حزم ينفون الاجتهاد لرسول الله، وإنما هو يُبلّغ عن الله، وآيات القرآن الحكيم واضحة: ﴿إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴾، ﴿وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى﴾. أما الكثير من علماء السنة فيقولون باجتهاد الرسول وأنه قد وقع منه الاجتهاد.
المهم هنا: أن آراء أهل البيت إنما تحكي عن آراء الرسول الذي يحكي عن رأي الله تعالى، ولذا يقول الشاعر:
ووالي أناساً قولهم وحديثهم روى جدنا عن جبرئيل عن الباري
وروايات أهل البيت تؤكد هذا الأمر، «جاء رجل إلى الإمام الصادق فسأله، وبعد أن أجابه الإمام ، قال الرجل: أرأيت يا ابن رسول الله لو كان هكذا! فنهره الإمام عن ذلك، وقال : ((ما أجيبك بع عن رسول الله ، إنا لسنا ممن أرأيت في شيء)).»
«وقال الإمام الباقر : ((إنا لو حدّثنا برأينا لهلكنا وضللنا كما هلك وضلَّ غيرنا، ولكنها آثار رسول الله عندنا توارثناها كابراً عن كابر)).»
ويكفي من الأحاديث، حديث الثقلين، إذ يقول : «إني مخلّفٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، وقد أخبرني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض».
ومعنى (لن يفترقا) ليس المعنى أنهما مادياً لن يتفرقا. وإنما ذلك معنوياً، بمعنى أنه لا يكون لأهل البيت رأيٌ أو موقفٌ مخالفٌ للقرآن، وكذلك القرآن لا يحتوي على موقفٍ أو رأيٍ مخالفٍ لأهل البيت .
فرأي أهل البيت رأيٌ أصيل وثابت، ولا يُمكن التنازل عنه مهما كان الظرف. ولكن مع وجود الآراء المخالفة لأهل البيت كيف كان تعامل أهل البيت ؟
هنا انتقل سماحته للمحور الثاني.
المحور الثاني: الحفاظ على وحدة الأمة.
أكد سماحة الشيخ أن الله تعالى يريد لهذه الأمة أن تكون واحدة حتى مع وجود الاتجاهات المخالفة والخاطئة، لأنه ينبغي أن يكون كيان الأمة شامخاً في قبال الأمم الأخرى.
وقال سماحته: إن أهل البيت اتخذوا اتجاهين في التأكيد على وحدة الأمة:
الاتجاه الأول: معنوياً.
أهل البيت كانوا يرون الحكم بإسلام جميع أبناء الأمة، ولذا لم يُكفروا أحداً ممن تشهّد الشهادتين. «يقول الإمام الصادق : الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله، والتصديق برسول الله، وبه حقنت الدماء وجرت المواريث والمناكح».
وفقهاء الشيعة على مر العصور كانت سيرتهم هكذا تبتعد عن التكفير إلا ما شدَّ منهم.
الاتجاه الثاني: عملياً.
سيرة أهل البيت كانت تطبيقاً لذلك، والأمثلة والشواهد من مذهب أهل البيت كثيرة، منها: إن أتباع أهل البيت يحكمون بطهارة جميع المسلمين وحلّية ذبائحهم، وأسواقهم محكومة بقاعدة سوق المسلمين فما فيها محكومٌ بالطهارة.
وأكثر من ذلك: إذا تحوّل أحدٌ إلى مذهب أهل البيت فإن عبادته السابقة صحيحة إلا إذا لم تتطابق مع مذهبه الذي تحوّل منه. وأيضاً التناكح بين المسلمين صحيح، فهذا الإمام الحسن يتزوج من جعدة بنت الأشعث. وغيره من الأئمة كذلك.
وأهل البيت تنازلوا عن حقوقهم حفاظاً على وحدة الأمة، لكنهم لم يتنازلوا عن آرائهم لأنها الأصوب، فالوحدة لا تعني أن يتنازل الإنسان عن الرأي الذي يتمسك به، وإنما تعني أن لا يعيش الإنسان حالة الصراع والخصومة والعزلة مع الآخرين.
المحور الثالث: أخلاقيات التعامل عند أهل البيت .
أكد سماحة الشيخ أن أهل البيت في تعاملهم مع الآخرين كانوا امتداداً لسيرة رسول الله فهو كما وصفه القرآن الحكيم: ﴿وإنك لعلى خلقٍ عظيم﴾. وأهل البيت جسدوا ذلك في سيرتهم، فتراهم يغدقون عطاءهم على جميع المسلمين دون فرزٍ للحالة المذهبية لأن أخلاقهم ومعاشرتهم الحسنة تقتضي أن يكون تعاملهم كذلك.
المحور الرابع: التعبئة ضد الظلم.
وختاماً أكد سماحة الشيخ على أن أخلاق أهل البيت العامة ضد السب والشتم واللعن، فهذا الإمام علي يخاطب أصحابه بقوله: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين». إضافةٍ إلى أن القرآن لا يربي المسلمين على هذه الأخلاقيات.
ولكن تجاه الظلم والظالمين المسألة تختلف، فلا يصح السكوت على الظلم. من هنا نفهم بعض الروايات الواردة عن أهل البيت وفيها تعبئة ضدَّ أحد فذلك لأنه ظالماً.
وسيرة أهل البيت شاهداً على ذلك، فنراهم مع المخالفين لهم الذين لم يتعرضوا لأهل البيت بظلمٍ يتعاملون بأخلاقهم الحسنة العظيمة، فهذا الإمام مالك يقول: كنت أدخل على الإمام جعفر بن محمد فيقدّم لي متكأه. وهذا أبو حنيفة يقول: لو لا السنتان لهلك النعمان.
وكذلك مع عمر بن عبد العزيز لا يوجد هناك روايات ومواقف ضده. بل كانت علاقته مع الإمام الباقر سليمة.
لكن أهل البيت تجاه الظلم يتخذون مواقف أخرى فهم يرفضون الظلم بأي شكلٍ من الأشكال، ليس الظلم الواقع عليهم فحسب، وإنما أي ظلم يقع على الناس. ولكن التاريخ يحكي لنا كم من الآلام والظلم قاسى أهل البيت ، ولذا فإن ظالميهم يستحقون اللعن والتعبئة ضدهم، وهذا الأمر طبيعي جداً، فهذا الشيخ ابن تيمية حينما يُسأل عن رأيه في قتلة الإمام الحسين ، تراه يُجيب: وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله أو رضي بقتله، فهم ملعونون، وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.