نحو مبادرات لخدمة المجتمع
في أعماق نفس الإنسان نوازع وميول كثيرة، بعضها باتجاه الشر، وأغلبها باتجاه الخير،يقول تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ` فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[1] .وأي نازع وميل في نفس الإنسان يحتاج إلى اكتشاف وتنمية ورعاية. فنجد أن بعض الناس تنبثق مواهبهم الفنية أو الأدبية، أو العلمية، أو غيرها، وهي في الأصل استعدادات موجودة في عمق الإنسان، لكن هناك من يكتشفها وهناك من يهملها.
فمثلاً الاندفاع إلى خدمة الناس والقيام بعمل الخير موجود في أعماق نفس كل إنسان، لكن بعض الناس يكتشفون هذا النازع فينمونه ويستجيبون له، فيصبحون كما عبّر عنهم الحديث الشريف مفاتيح للخير، عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله : «إنَّ من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشرّ، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه »،وعن سهل بن سعد (رضي الله عنه) أن رسول الله قال: (إن هذا الخير خزائن، لتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويل لعبد جعله الله مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير)[2] ، وجاء في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين : «وأجرِ للناس على يديَّ الخير»[3] .
تنمية نوازع الخير:
الاتجاه إلى فعل الخير حالة فطرية في نفس الإنسان، لكن تنمية هذه الحالة تحتاج إلى عوامل وأسباب، منها:
1. توثيق الصلة بالله:
فالإنسان كلما كان متصلاً بالله راجيًا لثوابه ورضاه، خائفًا من عذابه وعقابه كان ذلك دافعًا له لعمل الخير وخدمة الناس، حيث يرجو بذلك نيل الثواب.
2. الوعي الاجتماعي:
امتلاك الوعي يجعل الإنسان أكثر اندفاعًا نحو عمل الخير، لأن الوعي يرشد الإنسان إلى أن إقدامه على العمل الخيري ينفعه شخصيًّا كما ينفع المجتمع الذي هو عضو فيه، وبالتالي ينعكس تقدّم المجتمع عليه وعلى أبنائه.
3. الأجواء الدافعة:
هناك أجواء تدفع الإنسان لعمل الخير وتشجّع هذه النوازع في نفسه، كما إذا وفّقه الله لرفقة أهل الخير، حيث يكون ذلك دافعًا له أن يحاكيهم ويماثلهم.
4. التشجيع الاجتماعي:
المجتمع الذي يشجّع على الخير يكثر فيه المقبلون على عمل الخير، بينما المجتمع الذي يثبّط ويعرقل الساعين للأعمال الخيرية تقل فيه الفعاليات الخيرية.
إننا نجد في تاريخنا الإسلامي وفي تاريخ البشرية، وفي حاضرنا كيف أن أناسًا يوفقهم الله تعالى لعمل الخير وخدمة الناس، ونجد آخرين يبخلون ولا يقدمون خدمة لأبناء مجتمعهم.
إن الإنسان إذا نمّى حب عمل الخير في نفسه يحسّ بلذّة وارتياح، ويشعر بالسعادة والغبطة كلما أنجز شيئًا وقدّم خدمة للآخرين، كما يشعر باللذّة مَن يربح في تجارته، أو يحقق شيئاً من مصالحه ورغباته.
وهذا الشعور بالفرح والسعادة هو ما يشجّعه على الاستمرار في عمل الخير ويدفعه باتجاهه.
لكن البعض من الناس يُسلب الشعور بلذة عمل الخير، بل يثقل عليه القيام بذلك.
ولتقريب هذه الفكرة يمكن تشبيه هذا الشعور بِمَن يملك حسًّا وذوقًا أدبيًا، حيث يطرب ويتفاعل لسماعه القصيدة الشعرية، لأنه يتذوّق الأدب، بينما لو سمع القصيدة مَن لا معرفة له بالأدب، ولا ذوق أدبيًّا لديه فإنه لن يتفاعل مع أجواء القصيدة بل قد يراها مضيعة للوقت.
وكذلك بالنسبة للفن التشكيلي، فالبعض قد يدخل معرضًا للفن التشكيلي فيتصفّح اللوحات المعروضة متأملاً متفاعلاً أمام كل لوحة، وعلى العكس من ذلك قد يمرّ شخص آخر على هذه اللوحات مرور الكرام، لأنه لا يملك الاهتمام والذوق الفنّي.
إن التفاعل مع عمل الخير من هذا النوع، فبعض الناس يشعر بلذّة إذا خدم إنسانًا أو أقام مشروعًا، بينما البعض الآخر لا يكترث بمثل هذه الأمور ولا يتفاعل معها.
والمبادرة لعمل الخير تتجلى في المظاهر التالية:
الدعوة إلى الخير:
يستطيع الإنسان أن يكون باعثاً نحو عمل الخير ومشجعاً عليه، وذلك بدعوة الآخرين ودفعهم إلى القيام بما تتطلبه حاجات المجتمع.
وكم من كلمة طيبة كانت سبباً لخير كثير وانجازات كبيرة؟ يقول تعالى: ﴿ألم ترَ كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون﴾[4] .
وقد ورد في الحديث عنه : «الدال على الخير كفاعله»[5] ، وعنه : «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله»[6] ، بالطبع فإن تشجيع الآخرين على عمل الخير، لا يأتي من فراغ ولا يقوم به كل أحد، بل إنما يتبناه من يحمل تطلعات الخير، ويهتم بقضايا المجتمع، ويكون ذهنه منشغلاً بخدمة الناس، فتنطلق الدعوة إلى الخير من أعماق قلبه، بصدق واهتمام، مصحوبة بجهد ذهني لعرضها على شكل مشروع عملي قابل للتطبيق والتنفيذ.
لقد كان المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي رحمه الله أروع نموذج عرفته في مجال الدعوة إلى الخير. فلا يكاد يلتقي به شخص إلا ويطرح عليه مشروعاً يتناسب مع وضعه وبيئته، إما تأليف كتاب، أو إنشاء مسجد، أو إقامة مؤسسة، أو تبني حركة باتجاه خدمة دينية أو اجتماعية.
وسبحان الله كان ذهنه وقاداً وكأنه مخزن أفكار ومشاريع، وكان يبذل جهداً في إقناع من يخاطبه فرداً أو مجموعة، بالتصدي لعمل خير، عبر ذكر النصوص الدينية، واستعراض الحقائق والأرقام، واستحضار القصص والشواهد.
وقد رأيت وقرأت عن كثيرين من العاملين الذين تفاعلوا مع تشجيعه ودعوته، وتحققت على أيديهم انجازات وخدمات كبيرة في مختلف ميادين خدمة الإسلام والمسلمين.
السعي والمطالبة:
هناك أمور كثيرة يحتاجها الناس يمكن أن تقوم بها الدولة، أو الجهات المتصدية لأمور الدين والمجتمع، ولكن تنفيذها بحاجة إلى من يطرح الاقتراح ويطلب ويتابع التنفيذ.
إن الجهات المعنية قد لا تعرف بعض حاجات المجتمع وقضاياهم، وقد يكون هناك تقصير لدى بعض الأجهزة التنفيذية، وحين يتصدى بعض المواطنين لابلاغ المسؤولين، وتبيين الحاجات والنواقص، فإن قسماً منها على الأقل ستتم معالجته. وقد لاحظنا شواهد مختلفة على ذلك. وبحمد الله فإن الوصول إلى المسؤلين والتخاطب معهم أمر ميسور في بلادنا.
ولوسائل الإعلام المحلية دور إيجابي على هذا الصعيد، حيث تنشر تحقيقات عن بعض المشاكل والنواقص التي يعانيها المواطنون في هذا المجال أو ذاك، مما يلفت نظر المسؤلين، ويكشف تقصير بعض الأجهزة والموظفين، فيتم التدارك والمعالجة.
وبعض القضايا والحاجات ترتبط بالجهات الأهلية كالمؤسسات الاجتماعية، ورجال الأعمال، وعلماء الدين، فإذا كان هناك من يلفت نظرهم ويقترح عليهم، ويقدم لهم المشاريع والبرامج، فإن في معظمهم خيراً كثيراً واستجابة طيبة.
وعلينا عندما نتحرّك في مثل هذه الأمور أن نحرّك الآخرين معنا حتى يكثر المطالبون، وتنتشر مثل هذه الحالة الإيجابية في المجتمع.
ومما يؤسف له أن نسمع الكثيرين في المجتمع ممن يشتكون من بعض المظاهر السلبية، أو من نقص في بعض الإمكانات، أو من سوء خدمة المواطنين في بعض الدوائر، ومع ذلك لا تجد من يتحرّك من أجل الإصلاح والتغيير.
إن التحرّك في هذه الأمور ذات الشأن العامّ من مصاديق دعاء الإمام زين العابدين : «وأجرِ للناس على يديَّ الخير».
قد يقول البعض بأن هذه المساعي قليلاً ما تجدي، ولكننا في ثقافتنا الدينية نجد أن مجرّد السعي للخير فيه ثواب وأجر.
وأذكر هنا كنموذج أن موسوعة غينس للأرقام القياسية لعام 2003م تحدثت عن امرأة هندية نشرت لها الصحف في بلادها 334 رسالة في سنة واحدة، للمطالبة بمعالجة مشاكل وقضايا ترتبط بالشأن العام، وقد نشرت السيدة (مادهواغراوال) وهي ربة منزل رسائلها في 23 صحيفة هندية مشهورة، ويصل رصيدها من الرسائل المنشورة طيلة السنوات الماضية إلى نحو خمسة آلاف رسالة.
ونجد في كثير من الأحيان عندما يكتب أحد الصحفيين في الجرائد المحلية عن حاجة إنسان مريض أو فقير ويعرض مشكلته، ما هي إلا أيام حتى يتصل أحد المحسنين بالجريدة ويتبرّع بحل مشكلة هذا المحتاج.
إن اهتمام بعض الكتّاب ببعض المشاكل الاجتماعية يؤدي في كثير من الأحيان إلى حلها، وهذا دليل قوي على أن أعمال الخير في بعض مواردها قد لا تحتاج إلى أكثر من المطالبة والمتابعة سواء مع الجهات الرسمية أو الأهلية.
المبادرة إلى عمل الخير:
كل مجتمع يحتاج إلى مبادرات جادّة لعمل الخير، وقد تحدّث القرآن الكريم في آيات كثيرة عن فضل المسارعة إلى فعل الخير، يقول تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾[7] ، وورد عن الإمام علي بن أبي طالب قوله: «عليكم بأعمال الخير فتبادروها ولا يكن غيركم أحقّ بها منكم»[8] .
ومن المؤسف أن نرى الشعوب الأخرى غير الإسلامية تبادر إلى تأسيس مختلف أعمال الخير في مجتمعاتها وعلى مستوى العالم، بينما تنخفض هذه الحالة في مجتمعاتنا الإسلامية ، نشرت جريدة الحياة تقريراً عن معهد هدسون للازدهار العالمي بعنوان: «مؤشر التبرعات الخيرية عبر العالم» يتحدث هذا التقرير عن الشعب الأمريكي والتبرعات الخيرية من الأمريكيين، فيشير إلى أن السجلات المدونة تضمنت التبرع بمبلغ 71 مليار دولار للقضايا العالمية من قبل المنظمات الخيرية الأمريكية والمؤسسات الدينية والجامعات والشركات.
ويشير التقرير إلى أن قسمًا من هذه التبرعات هي من المهاجرين الذي هاجروا إلى أمريكا من بلدان أخرى، حيث يبعثون بالأموال إلى مناطقهم، وتبلغ 47 مليار دولار، في حين تصل تبرعات الأمريكيين إلى المناطق الأخرى 24 مليار دولار.
ويتحدث التقرير عن أن نصف الراشدين الأمريكيين تقريبًا يؤدون عملاً تطوعيًّا، بينما لو عملنا إحصاءً في مجتمعاتنا سنجد أن نسبة العاملين في المجال التطوعي تشكل نسبة بسيطة جدًّا لا تكاد تذكر.
ومما يذكره التقرير أن المنظمات الأمريكية الخاصة والتطوعية وحدها قدّمت مبلغ 9.7 مليار دولار إلى الأقطار النامية. وأنه خلال العقد الماضي زادت المؤسسات الخيرية في أمريكا بنسبة 77 %، وزاد العطاء من الناس لهذه المؤسسات بنسبة 100 %[9] .
إن كل واحد منّا مطالب بأن يكون جزءًا من عمل تطوعي في المجتمع، ولا يصحّ لأحد أن يقبل لنفسه أن يكون متفرّجًا على حاجات المجتمع وأوضاعه، وأن يطالب نفسه بدور وأن يكون جزءًا من أي مؤسسة خيرية اجتماعية، ففي ذلك كبير الثواب والأجر عند الله سبحانه وتعالى، وذلك هو السبيل لتقدّم المجتمع.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المبادرين إلى أعمال الخير، وأن نكون من أهل الخير، وأن ينمّي في نفوسنا نوازع الخير. اللهم كثّر أهل الخير ووفق العاملين للخير وارزقهم الثواب والأجر الجزيل.
والحمد لله رب العالمين.