التربية على محبة الناس
من دلائل عظمة الإسلام وصدق دعوته تربيته أبناءه على محبة الناس، مهما اختلفوا في أديانهم وأعراقهم وتوجهاتهم، وهذا النهج الإسلامي يتجلى في كثير من المظاهر، نذكر منها ثلاثة:
الأول: النظرة الإنسانية
يعطي الإسلام أبناءه رؤية وثقافة تجعلهم ينظرون إلى كل الناس نظرة احترام، ويعاملونهم على أساس المودّة ومحبّة الخير للجميع، بغضّ النظر عن انتماءاتهم وأديانهم، وهذا واضح في آيات القرآن الكريم، الذي نص على كرامة الإنسان، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾[1] ، وهذه الآية عامّة في دلالتها على تكريم الإنسان كإنسان دون النظر إلى انتمائه ولونه ولغته ودينه.
ورود عن رسول الله ص انه قال: «الخلق عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله»[2] .
إن هذه الرؤية الدينية المتقدّمة في نظرتها للإنسان قد تشوشها وتشوهها بعض النظريات الخاطئة ومحاولات التحريف الذي يطال الديانات، باتجاه الازدراء للآخرين واحتقارهم والنظر إليهم بدونية، كبعض الآراء التي تنظر للمرأة باحتقار وتنسب إلى الدين، أو الازدراء بمن ينتمي إلى دين ومذهب مخالف وينسب ذلك إلى الدين، إن هذه التوجهات تخالف روح وتعاليم الإسلام الذي ينظر للإنسان باحترام وتكريم.
الثاني: منع الإساءة والعدوان
إذ لا يجوز في شريعة الإسلام الاعتداء على أحد مهما كان لونه ودينه ومذهبه إلاّ إذا كان معتدياً ففي هذه الحالة يشرّع للمسلم الدفاع عن نفسه لردّ العدوان، يقول تعالى: ﴿فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[3] ، ويقول تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾[4] ، ويقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾[5] .
وقد جاء في الحديث عن رسول الله 2 أنه قال في تعريفه للمسلم: «المسلم من سلم الناس من يده و لسانه»[6] ، فالحديث صريح بأن المسلم الحقيقي من لا يعتدي على الآخرين بأي اعتداء معنوي بتجريح أو إهانة، أو اعتداء مادي من ضرب ونهب.
وقد ورد عن النبي 2 أنه قال: «من آذى ذميًا فقد آذاني»[7] .
الثالث: الإحسان إلى الناس
هناك تشجيع ودفع من الإسلام ليكون المسلم محسنًا وبارًّا بأفراد المجتمع البشري، مهما كانت دياناتهم ومذاهبهم وهوياتهم، يقول تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[8] ، والحديث الشريف المروي عن رسول الله 2 واضح في دلالته على هذا المعنى، حيث يقول 2: «الخلق عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله »، حيث عبّر الحديث أن الخلق جميعًا هم عيال الله. ولم يحصر ذلك في المسلمين والمؤمنين.
وورد عن الإمام الصادق
أنه قال:« سئل رسول الله 
: عن أحب الناس إلى إلية؟فقال: أنفعهم للناس»[9] . وعنه 2 أنه قال: «رأس العقل بعد الدين التودّد إلى الناس، واصطناع الخير إلى كل بر وفاجر»[10] .
كما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
: «ابذلْ معروفك للناس كافّة، فإن فضيلة المعروف لا يعدلها عند الله شيء»[11] .وقال رجل عند الإمام الحسين بن علي
: «إن المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع» فقال الإمام الحسين : «ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر تصيب البر والفاجر»[12] .ومما ورد في ذلك عن الرسول
قوله: «اصطنع الخير إلى من هو أهله وإلى مَنْ هو غير أهله، فإن لم تصب من هو أهله فأنت أهله»[13] .وهناك حادثة يرويها أحد أصحاب الإمام الصادق
هو معلى بن خنيس قال: «خرجت مع الإمام ليلاً ومعه جراب من خبز، فأتينا ظلة بني ساعدة، فإذا نحن بقوم نيام، فجعل الإمام الصادق يدسّ الرغيف والرغيفين عند رأس كل واحد منهم حتّى أتى على آخرهم، ثم انصرفنا، وقلت: جعلتُ فداك يعرف هؤلاء الحق؟ فقال : لو عرفوه لواسيناهم بالدقّة (الملح)»[14] .وفي رواية عن مصادف (من تلامذة الإمام الصادق
قال: كنتُ مع أبي عبد الله بين مكّة والمدينة فمررنا على رجل في أصل شجرة وقد ألقى بنفسه، فقال: «مِلْ بنا إلى هذا الرجل فإني أخاف أن يكون قد أصابه العطش», فملنا إليه فإذا برجل من الفراشين طويل الشعر, فسأله: «أعطشان أنت؟»، فقال: نعم، فقال لي: «انزل يا مصادف فاسقِهِ»، فنزلتُ وسقيته ثم ركبت وسرنا، فقلتُ: هذا نصراني، أفتتصدّق على نصراني؟! فقال : «نعم، إذا كان في مثل هذا الحال»[15] .من هذه النصوص الشريفة وغيرها نستنتج أن نهج الإسلام هو التربية على محبّة الناس، كل الناس.
ولهذا فإن مما اتفق عليه فقهاء المسلمين جميعًا جواز الوقف لخدمة غير المسلمين، كأن يوقف أحد المسلمين وقفًا ليصرف على فقراء اليهود أو النصارى، أو على تعليم أولادهم أو على علاج مرضاهم، وغير ذلك من المنافع العامّة لهم.
ولا يقتصر جواز الوقف على غير المسلم المسالم بل يجوز حتّى على الحربي كما هو رأي بعض الفقهاء كالسيد اليزدي في ملحقات العروة الوثقى.
نهج التعصّب:
هذه الرؤية الإسلامية للتعامل مع الآخر، نستنطقها من نصوصه الشريفة ، ولكن مما يؤسف له أن هذه الرؤية والتربية الإسلامية السامية لا نجد لها رواجًا في بعض أوساط المجتمع الإسلامي، بل على العكس من ذلك أصبحنا نسمع بين فينة وأخرى تلك الصيحات التي تدعو إلى نشر الأحقاد والضغائن والكراهية بين بني البشر، وبدل أن تنتشر في أوساط المسلمين ثقافة المحبّة والتسامح سادت في بعض أوساطهم ثقافة التحريض على كراهية الآخرين، فنسمع بعض الأحيان في خطب الجمعة دعوات على كل اليهود والنصارى بالهلاك والدمار، مع أن الإسلام لا يعادي أصحاب دين بأجمعهم، وإنما يعادي التصرفات والسلوكيات العدائية تجاه المسلمين.
فليس من الأنصاف أن نربّي جمهور المسلمين على كراهية غير المسلم بسبب بعض المواقف التي تتبناها جهات من المنتمين لهذه الديانات. ومن جهة أخرى كيف يعطي المسلمون صورة مشرقة عن هذا الدين للآخرين، إذا كانوا يعلنون للآخر الكراهية والحقد والدعاء عليه بالشر.
المسلمون ينشرون الأحقاد فيما بينهم:
وهذه التعبئة لم تقتصر على غير المسلم، بل انجرّ الأمر إلى المخالف في المذهب، فهناك تعبئة وتحريض على الكراهية بين المسلمين مع بعضهم البعض، عبر مختلف الوسائل، كالفتاوى وخطب الجمعة والمنشورات، وفي بعض مناهج التعليم.
ولذلك أصبح المسلمون فيما بينهم يعيشون جوًّا تسوده الضغائن والأحقاد وذلك بسبب التعبئة الطائفية والمذهبية التي يمارسها كل طرف تجاه الآخر.
بل نجد أن المسألة انجرّت لتصل إلى تعبئة وتعبئة مضادّة بين أصحاب المذهب الواحد، حين تتقاسمه التوجهات والتيارات المختلفة، والشواهد على ذلك كثيرة، و آخرها ما حدث في باكستان في مدينة كراتشي، حين تجمّع ما يقرب من 50.000 من جماعة اسمها (تحريك السنّة) ـ وهي على الطريقة البريلوية ـ في حديقة عامّة للاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، فاقتحم الجموع شاب انتحاري يبدو أنة من التوجه الذي يرى أن مثل هذه المظاهر من البدع، فقتل في هذه الحادثة 57 وأكثر من 100 جريح، وكان من بين المصابين زعيم الجماعة مولانا عباس قادري(12/4/2006م).[16]
ونجد في الأوساط الشيعية تجري بعض الحالات من التعبئة ضد الآخر المخالف في الرأي والانتماء المرجعي، حيث تتحرك في هذا المجال الفتاوى التعبوية والمنشورات المحرّضة والخطاب المنبري المنفّر، مما يشنّج العلاقة بين أفراد المجتمع، وقد يصل الحال لأن تفسد العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة بسبب هذا الخطاب التحريضي.
التحريض الطائفي في مناهج التعليم:
هذا التحريض على الكراهية يوجد أوضاعًا سلبية في مجتمع المسلمين، خصوصًا عندما يوجّه للصغار، ويكون ضمن مناهج التعليم للمراحل التعليمية المبكّرة، فننشئ أطفالنا تنشئة عنصرية طائفية.
إن هذه المناهج التحريضية مدانة، خصوصًا عندما تحتوي على عبارات التكفير والتبديع و الاتهام بالشرك والضلال، فهذا يخرج لنا جيلاً معبأ طائفيًا يملأه الحقد والكراهية للطرف الآخر.
والأدهى من ذلك أن يمارس بعض معلمي المواد الدينية عملية التبشير المذهبي في المجتمعات التي تختلف معهم مذهبيًّا، أو أن يقوموا بالتحريض على الكراهية فيما بين الطلاّب في المجتمعات المتداخلة مذهبيًّا.
إن هذه التربية تنعكس على علاقة المواطنين مع بعضهم البعض بسبب انتماءاتهم المتعددة، فنجد الطلاب والطالبات في الجامعات والكليات يحذرون من أن يقيموا علاقات طبيعية مع بعضهم بسبب هذه التربية.
الجمهور ضحايا التعبئة الطائفية:
إن أجهزة التعليم والمؤسسات الدينية والأهالي في تربيتهم لهذا الجيل يتحمّلون مسؤولية كبيرة، لذلك على الذين يملكون مواقع خطابية وإعلامية أن يتنبهوا وألاّ يقعوا في مسألة التحريض الطائفي والمذهبي، فعندما يمارس الخطيب دور المدافع عن العقيدة ويعبئ جمهوره ضد الطرف الآخر والطائفة الأخرى، فإن هذا الجمهور هو من يصبح ضحية هذه التعبئة.
فالشاب والشابّة يتواجدون في مناطق الاحتكاك مع هذه الأطراف، سواء في الجامعة أو أماكن العمل، فحينما يسيء أحدهم للآخر تفسد العلاقة ويعيشون حالة من الاحتقان والتشنّج الطائفي، بينما لا يتحمّل ذلك الخطيب الذي عبأ وحرّض أي مسؤولية أو تبعة.
يجب على المجتمع كله أن يعارض أي تحريض وتعبئة طائفية، سواء في وسط السنة أو الشيعة، فذلك لا يخدم إلا العدوّ الذي يتربّص بنا الدوائر.
نسأل الله أن يوحّد كلمة المسلمين، وأن يجعلنا وإياكم من الصالحين المصلحين.
والحمد لله رب العالمين.
