صلاة الجماعة وتجاوز العصبيات
صلاة الجماعة ليست مجرّد عبادة شكلية أو عمل طقوسي دون أي مردود اجتماعي، وإنما هي شعيرة ذات رسالة، تريد أن تكرّس قيمًا إسلامية في المجتمع، ولها ذلك البعد المربي، حيث تربي المجتمع على تعاليم الإسلام وأخلاقه وقيمه، وهذا أمر يمكن ملاحظته من خلال تأمل الأحكام التفصيلية لصلاة الجماعة في مجموعها العامّ.ومن القيم التي تغرسها صلاة الجماعة في المجتمع مسألة القيادة الاجتماعية، والالتفاف حول الرمز، حيث أن الشرع الإسلامي يضع لإمام الجماعة ـ وصلاة الجماعة هي نموذج للحالة الاجتماعية في الإسلام ـ شروطًا ومواصفات لا يقدّمه الناس ليؤمّهم إلا بعد تحققها فيه.
ومن النصوص التي تؤكّد على هذا المعنى ما ورد في حديث عن رسول الله أنه قال: «إن سرّكم أن تزكوَ صلاتكم فقدموا خياركم»[1] .
وورد عن الإمام الباقر أنه قال: «لا تصلِّ إلاَّ خلف من تثق بدينه»[2] .
وجاء عن سعد بن إسماعيل عن أبيه قال: قلتُ للإمام علي بن موسى الرضا : «رجل يقارف الذنوب، وهو عارف بهذا الأمر، أصلي خلفه؟ قال : لا»[3] .
ونُقِلَ عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «إن إمامك شفيعك إلى الله، فلا تجعل شفيعك سفيهًا ولا فاسقًا»[4] .
والشرائط التي يذكرها الفقهاء في إمام الجماعة كثيرة ومعروفة، منها: البلوغ والعقل والإسلام والإيمان وغيرها.
ولكن أبرز شرطين قد يبتلى بهما المكلّف ويحتاج إلى التأكد من توفر إمام الجماعة عليهما هما:
الشرط الأول: العدالة
والمقصود بالعدالة: الاستقامة على جادّة الشرع، وذلك بعمل الواجبات وترك المحرّمات. وبمعنى آخر: الاستقامة السلوكية.
والمسلمون في مذاهبهم يختلفون في اشتراط العدالة في إمام الجماعة، على ثلاثة آراء:
- وجوب تحقّق العدالة في إمام الجماعة في أي صلاة، دون تفريق بين الفرائض اليومية والجمعة والعيدين. وهو رأي الإمامية.
- وجوب تحققها في الفرائض اليومية فقط، ويتغاضى عن هذا الشرط في صلاة الجمعة والعيدين. وهو رأي الحنابلة.
- عدم اشتراطها في إمام الجماعة، فتصح الصلاة وراء كل بَرِّ وفاجر في أي صلاة، وهو رأي بقية المذاهب الإسلامية، أخذاً بما رواه الدارقطني عن رسول الله أنه قال: «صلوا خلف من قال لا إله إلا الله».
وتفريق الحنابلة بين الجمعة والعيدين وبين بقية الفرائض في اشتراط عدالة الإمام، راجع إلى أن صلاة الجمعة والعيدين تعتبران شعيرة عامة للأمّة كلها، وغالبًا ما يتولاّها الحاكم في ذلك الوقت (خلفاء بني أمية وبني العباس)، فإذا اشترط الفقهاء العدالة في الجمعة والعيدين فلن تصح الصلاة خلف أولئك الحكّام في ذلك الوقت، وحينئذٍ تسقط هذه الشعيرة، أو يحصل حرج في أمر إقامتها.
لذلك لم يشترط الحنابلة في هاتين الصلاتين العدالة. قال ابن قدامة في المغني: \\\"فأما الجمع والأعياد فإنها تصلى خلف كل برّ وفاجر... قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) وهو يعلم أن بني العباس سيلونها، ولأن هذه الصلاة من شعائر الإسلام الظاهري، وتليها الأئمة دون غيرهم، فتركها خلفهم يفضي إلى تركها بالكلية\\\"[5] .
تحصيل العدالة:
وقد أجمع فقهاء الشيعة الإمامية على اشتراط العدالة في إمام الجماعة في جميع الفرائض، وقصدوا بالعدالة ما ذكرناه من تعريف لها، وأشاروا إلى أن أي سبيل يحصل من خلاله الاطمئنان للمصلي بعدالة الإمام يكفي لتحقق الشرط،كالمعاشرة الشخصية، والمعرفة المباشرة، وشهادة عادلين، والشياع المفيد للاطمئنان.
قال اليزدي في العروة الوثقى ووافقه السيد السيستاني ما يلي: \\\"بل يكفي الاطمئنان إذا حصل من شهادة عدل واحد، وكذلك إذا حصل من اقتداء عدلين به، أو من اقتداء جماعة مجهولين به\\\"[6] .
ونشير هنا إلى أن العدالة لا تعني العصمة، فقد يصدر من الإنسان ذنب ويصر عليه، ويفتقد العدالة، لكنه إذا تاب عادت إليه عدالته. يقول المرجع السيد السيستاني: \\\"ترتفع العدالة بمجرد وقوع المعصية وتعود بالتوبة والندم\\\"[7] .
وبجب القول أيضاً أن اختلاف الرأي لا يصح أن يعتبر خللاً في العدالة أو مسقطاً لها، فإذا كان هناك اختلاف في رأي فكري، أو موقف سياسي، أو شأن اجتماعي، فلا يعني ذلك أن يشكك أحد الطرفين في عدالة الآخر، إلا إذا ثبت له حصول مخالفة لأحكام الشرع من دون مبرر مقبول.
أما اختلاف التشخيص للظروف والموضوعات، واختلاف الانتماء للمرجعيات والتجمعات، فهذا راجع لاختلاف الاجتهادات والقناعات.
ورائع جداً موقف الفقيه المحدّث الشيخ يوسف البحراني صاحب (الحدائق الناضرة) توفي سنة 1186هـ، والذي كان على خلاف شديد مع العلامة الشيخ محمد باقر الشهير بالوحيد البهبهاني، في موضوع الأصوليين والإخباريين، فالشيخ البحراني زعيم مدرسة المحدثين الإخباريين، والوحيد البهبهاني، زعيم المدرسة الأصولية، وكان يردّ آراء الشيخ يوسف بعنف، ووصل به الأمر إلى أن أفتى ببطلان الصلاة خلف الشيخ يوسف البحراني، لكن الشيخ يوسف أفتى بصحة الصلاة خلف الوحيد[8] .
الشرط الثاني: صحة القراءة
إمام الجماعة يتحمّل عن المأموم في صلاة الجماعة القراءة في الركعتين الأولى والثانية، لذلك يشترط الفقهاء في إمام الجماعة أن يكون صحيح القراءة.
والمقصود بصحّة القراءة: إخراج الحروف من مخارجها، وعدم إبدال حرف بآخر، أو نحو ذلك، حتى اللحن في الإعراب. ولا يشترط في إمام الجماعة أن يجيد تطبيق جميع التحسينات التي تدرس في علم التجويد مثلاً.
وهذا الشرط مطلوب في الائتمام في الركعة الأولى والثانية فقط، لذلك لو كان المصلي في بلد غير عربي ـ مثلاً ـ وكان إمام الجماعة لا يجيد القراءة ونطق الحروف بالعربية الصحيحة، يستطيع هذا المصلي أن ينتظر إلى أن ينتهي الإمام من القراءة في الركعة الثانية ويأتم به، فذلك أفضل من أن يخسر ثواب الجماعة، خصوصًا إذا كان عدد المصلين كبيرًا فإن الثواب يكون أكثر. جاء في العروة الوثقى بتعليقة السيد السيستاني: \\\"لا بأس بالاقتداء بمن لا يحسن القراءة في غير المحل الذي يتحملها الإمام عن المأموم كالركعتين الأخيرتين، وكالركعة الثانية إذا التحق به في الركوع\\\"[9] . وجاء في مسألة أخرى: \\\"يجوز الاقتداء بمن لا يتمكن من كمال الإفصاح بالحروف أو كمال التأدية، إذا كان متمكناً من القدر الواجب فيها وإن كان المأموم أفصح منه\\\"[10] .
التعقيدات الاجتماعية:
والمسألة ـ في إمامة الجماعة ـ لو اقتصرت على الحدود الشرعية فلن تكون إقامتها بتلك الصعوبة التي نجدها في الممارسة الاجتماعية لإقامة هذه الشعيرة، حيث نجد أن أغلب أوساط المجتمعات الشيعية تبالغ في هذه المسألة، حيث لم تعد مسألةَ تحقّق العدالة بحدودها الشرعية وطرق تحصيلها التي يذكرها الفقهاء، فالبعض يتصورون شرط أن يكون إمام الجماعة من طلبة العلوم الدينية.
وهو أمر قد يحث العلماء عليه في حدود مسألة إمام المسجد الراتب، عند تعيينه ليكون إمامًا دائمًا فيه حيث ينبغي أن يكون من علماء الدين، وذلك من باب أنه سيكون له دور أكثر من إمامة الجماعة، كأن يمارس دور التثقيف الديني والاجتماعي، بالإضافة إلى وجود روايات تؤكّد أفضلية الائتمام بالأكثر علمًا وورعًا، ولكن هذه الروايات ناظرة إلى مسألة التراتب والأفضلية في إمامة الجماعة، وليس إلى تحققها، فهي تتحقق وتصح بإمامة من عُرِفَ بعدالته.
ولكن في غير هذا الموضع يشجّع العلماء على إقامة الجماعة، بالحدود الممكنة، وليس شرطًا أن يكون الإمام من العلماء. فإذا لم يكن في المنطقة عالم ديني، فلا ينبغي أن تتعطل هذه الشعيرة، وإذا حان وقت الصلاة وهناك جمع من المؤمنين وليس فيهم عالم دين، فلماذا لا يقدّمون من يثقون به وتتوفر فيه الشروط؟
والبعض قد يبالغ أكثر، فلا يكفي في نظره أن يكون إمام الجماعة من طلبة العلوم الدينية، بل لابدَّ أن يكون مجازًا من قبل المرجع، وهذا شرط غريب، حيث لم يرد حوله نص أو فتوى فقهية، فالمرجع لا يعيّن أئمة الجماعة في المساجد أو في أماكن العمل والتجمّعات العامّة.
وتشتدّ المبالغة عند البعض فيشترطون أن يكون إمام الجماعة مقلِّدًا لنفس المرجع الذي يقلِّدونه، وربما يشترطون أن يكون من نفس الانتماء والتوجّه الذي ينتمون إليه.
إن هذا التشدّد في مسألة إقامة الجماعة له انعكاساته السلبية على مجتمعنا، ويمكن تصويرها في ناحيتين:
1. التشتت والتمزّق الاجتماعي
فعندما نبالغ في مواصفات إمام الجماعة إلى الحدّ الذي يصل بنا إلى ألاَّ نصلي إلا خلف من يؤيدنا في توجهاتنا الفكرية والعملية، فهذا سيخلق جوًّا تصبح فيه المساجد مفروزة، كل مسجد هو لجماعة وفئة معينة، وبهذا تتكرس العصبيات والتصنيفات المرجعية والفئوية، وتتحوّل الجماعة من تجمّع عبادي يقصد منه الوحدة والتآلف إلى مصدر من مصادر تفتت المجتمع وتشتته.
2. انحسار إقامة الجماعة
مع هذه الشروط التي توضع للإمام دون مستند شرعي، ستنحصر إقامة الجماعة في بعض المساجد، وهذه ظاهرة غير جيّدة، إذ من المفترض أن لا يبقى مسجد بدون صلاة جماعة، وأن لا يكون المسجد المكان الوحيد الذي تقام فيه الجماعة، بل تستغل أماكن التجمّع، كالعمل والمدارس، والرحلات الجماعية والأسرية، فتقام فيها الجماعة، خصوصًا البيئات التربوية كالمدرسة، فمن المفترض أن تكون مكانًا ملائمًا لتعويد الطلاب على إقامة الجماعة فيما بينهم، وأن يكون المعلمون قدوة لطلابهم في الالتزام بذلك، حيث يختار المعلمون أحدهم ليتقدّم ويؤمهم.
ومن المناسب إنه في حال صلاة الأب في المنزل أن يتقدّم ويقيم الجماعة بأفراد أسرته.
ومما يساعد على انتشار هذه الثقافة والممارسة ما يمكن أن يقوم به أئمة الجماعة بأن يعيّن كل إمام نائبًا له فيما لو حصل له ظرف طارئ. أو أن يبادر المصلون عند غياب الإمام إلى تقديم من يثقون به من بينهم، فما يحصل في معظم المساجد من انفراط عقد الجماعة عند غياب الإمام، وادائهم الصلاة فرادى، هو ظاهرة سلبية خاطئة، فهل يخلو الجمع من شخص موثوق؟
ومناسب أن نذكر هنا موقف العالم الكبير الشيخ جعفر النجفي المشهور بكاشف الغطاء (توفي سنة 1227هـ) حيث أبطأ يوماً عن الذهاب إلى المسجد لصلاة الظهر، فجعل الناس يصلون فرادى، فلما دخل المسجد جعل يوبخهم ويقول: أما فيكم من تصلون خلفه؟ ثم رأى أحد التجار الأخيار يصلي، فقال: دعونا نأتم بهذا العبد الصالح فائتم به هو والجماعة، فخجل التاجر خجلاً شديداً، ولا يمكنه قطع الصلاة، ولما فرغ من الصلاة تأخر خجلا، فقال له الشيخ: لا بد أن تؤمنا في صلاة العصر أيضاً، فأمتنع، فأصر عليه، فقال التاجر: هذا لا يمكن، قال الشيخ: إذاً فافتد نفسك بمال تدفعه للفقراء، فدفع مائتي شامي أو أزيد وفرقها على الفقراء، وأعفاه من الإمامة لصلاة العصر[11] .
النزاعات الشخصية والفئوية:
إن ما نعيشه من تعقيدات اجتماعية بخصوص صلاة الجماعة ناشئ من الجهل والنزاعات التي هي في أغلبها شخصية بين الأفراد أو الجهات الدينية الموجودة، ولا أصل لها من الناحية الشرعية، فليس هناك ما يمنع من الصلاة بين الأخباريين والأصوليين ـ مثلاً ـ، أو مِن صلاة مَن يقلد مرجعًا خلف من يقلِّد مرجعًا آخر، فهذه التعقيدات والاشتراطات غير المبرّرة حوّلت صلاة الجماعة من مظهر من مظاهر الوحدة والتلاقي بين المؤمنين إلى مظهر من مظاهر التحزّب والتعصّب بين أبناء المجتمع الواحد، وكذلك حوّلت الجماعة من مظهر عبادي يجزي الله سبحانه عليه الثواب الجزيل إلى سبب لأن تحرم شريحة كبيرة من هذا الثواب، وفي هذه النقطة يقول السيد كاظم اليزدي في «العروة الوثقى»: «وهي (أي صلاة الجماعة) من المستحبات الأكيدة في جميع الفرائض، خصوصًا اليومية منها، وخصوصًا في الأدائية، ولاسيما في الصبح والعشاءين، وخصوصًا لجار المسجد أو من يسمع النداء، وقد ورد في فضلها وذم تاركها من ضروب التأكيدات ما كاد يلحقها بالواجبات.
إلى أن يقول:
وإذا كان المأمومون أكثر كان الأجر أزيد، ولا يجوز تركها رغبة عنها أو استخفافًا بها، فمقتضى الإيمان عدم الترك من غير عذر، لاسيما مع الاستمرار عليه، فإنه ـ كما ورد ـ لا يمنع الشيطان من شيء من العبادات منعها، ويعرض عليهم الشبهات من جهة العدالة ونحوها، حيث لا يمكنهم إنكارها لأن فضلها من ضروريات الدين»[12] .
ومن المظاهر المؤسفة أن تجد في بعض الحالات انقساماً في صلاة الجماعة بين المؤمنين انطلاقاً من هذه العصبيات الفئوية، ففي بعض قوافل الحجيج، قد تقام أكثر من صلاة جماعة، وغالباً ما لا يأتم إمام جماعة بإمام جماعة آخر. وفي بعض المساجد والعتبات المقدسة قد تقام أكثر من صلاة جماعة في أرجاء المكان الواحد من أبناء المذهب الواحد، وكما كتب الشيخ علي الكوراني معلقاً على ذلك في كتابه فلسفة الصلاة: (ومن طريف ما يناسب أن نختم به هذا البحث ما علقة أحد الزملاء الفضلاء وقد نظرنا إلى ساحات مشهد مقدس من مشاهد الأئمة المعصومين ، وقد تكاثرت فيها الجماعات للصلاة. قال: إذا كان الله عزّ وجل إنما ضاعف ثواب الصلاة جماعة أضعافاً كثيرة لأن فيها اجتماع المسلمين ووحدة كلمتهم... فأي ثواب في هذه الجماعات التي هي مظهر واضح للفرقة وتشتت الكلمة؟[13]
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى الخير والصلاح، وأن يمنحنا البصيرة في دينه والعمل بأحكامه، وأن يجعلنا من الصالحين المصلحين.
والحمد لله رب العالمين.