الإمام شرف الدين رائد الإصلاح والتقريب
من أجل أن يفجّر الإنسان طاقاته وقدراته لابد أن ينفتح مضمار السباق بين الناس، وأن تنعكس آثار تفاوت مستوياتهم على حياتهم، ليكون ذلك دافعاً للتسابق والتنافس، فحين يحظى العالم بموقع متقدم، يتحفّز الناس لطلب العلم، وحين يتنعم الثري بثروته، يندفع الآخرون للمزيد من السعي والكسب، ليرتقوا بمستوى حياتهم.ولو عاش الناس في مستوى واحد، دون تفاوت، لانعدمت الحوافز وضعفت الدوافع نحو السباق والجد والاجتهاد.
وتشير بعض آيات القرآن الكريم إلى هذه الحكمة في التفاوت بين الناس في مستويات حياتهم، كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾[1]
فحكمة التفاوت ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ﴾ هو الامتحان ﴿لِّيَبْلُوَكُمْ﴾ من أجل تفجير الطاقات والقدرات التي منحها الله تعالى للإنسان ﴿فِي مَا آتَاكُمْ﴾.
وفي آية أخرى يؤكد القرآن الكريم على أن حركة الإنسان وفاعليته هي التي تحدد درجته ومستواه في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾[2]
إن الإيمان قيمة كبرى تمنح صاحبها الفضل والرفعة، وكذلك العلم، لكن آفاق الإيمان وآفاق العلم واسعة رحبة، يتسابق المؤمنون والعلماء في أجوائها وأرجائها، فتتفاوت درجات رفعتهم وتحليقهم، حسب مستوى اجتهاد وعطاء كل منهم. يقول تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[3]
وتنكير ﴿دَرَجَات﴾ إشارة إلى تعددها وتنوعها، فبعضها أعلى من بعض، وبعضها أفضل من بعض، فالإيمان درجات، والعلم درجات، يقول تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾[4]
ومع عظيم درجة النبوة والرسالة، إلاّ أن الأنبياء والرسل ليسوا جميعاً في مرتبة واحدة، بل يتفاوتون في الفضل، يقول تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾[5]
إن التأكيد على حقيقة التفاضل وتفاوت الدرجات، إنما هو بغرض ترتيب الأثر على ذلك، فالأعلى درجة والأفضل كفاءة، يجب أن يحظى باحترام أكبر، وأن يُتعامل معه بما يليق بمقامه ومكانته، للاستفادة منه، وليكون نموذجاً وقدوة.
من هنا جاءت النصوص الدينية الداعية إلى تقدير العلماء، كما تحدث الفقهاء عن أولوية تقديم الأعلم في التقليد والأخذ بالفتاوى الشرعية، وعن الأولى في التقديم لصلاة الجماعة.
إن تقدير التفوق والتقدم سمة حضارية تأخذ بها المجتمعات الواعية، أما حين لا يميز المجتمع بين المستويات المختلفة، فإن الكفاءة العلمية أو القدرة العملية لا تأخذ موقعها المناسب، وقد يحظى الأقل مستوى في العلم أو العمل بالمكانة الأفضل، لسبب أو لآخر.
وبينما تتلقف المجتمعات المتقدمة الأفكار الإبداعية البناءة، وتشجّع الكفاءات الطامحة، تواجه المجتمعات المتخلفة كل فكر جديد بالتحفظات والشكوك، وتزرع العراقيل والعقبات في طريق رواد الإصلاح والتغيير. وغالباً ما لا يعرف الناس في هذه المجتمعات قدر العاملين المصلحين إلا بعد فوات الأوان، فإذا مات العالم المصلح، أقيمت المهرجانات لتأبينه، وتحدث الشعراء والخطباء عن عظيم فضله.
شرف الدين شخصية رسالية
والإمام السيد عبدالحسين شرف الدين (1290-1377هـ) هو واحد من أبرز العلماء المصلحين في هذا العصر، عاش إلى جانبه في زمانه ومكانه كثير من العلماء، لكن شخصيته المتميزة صنعت له موقعية تتجاوز عصره وموطنه، رغم ما واجهه من معاناة في محيطه الاجتماعي الذي لم يعرف قدره باكراً، ولم يدرك أهمية أفكاره ومشاريعه الإصلاحية، وكان يريده مجرد عالم دين كسائر العلماء التقليديين، الذين لا يتبنون مشروعاً، ولا يتحملون مسؤولية تجاه الواقع السياسي والاجتماعي.
لم يقبل شرف الدين لنفسه بما يحمل من وعي رسالي وهمة عالية، أن يقتصر دوره على ممارسة المهام التقليدية المحدودة التي كان يقوم بها غالب علماء الدين في مجتمعاتهم، بل شمّر عن ساعد جدّه، وأطلق العنان لطموحه، من أجل إصلاح واقع مجتمعه، وخدمة قضية وطنه، والإسهام في معالجة قضايا الأمة الكبرى.
وكان عليه أن يدفع ثمن هذا التطلع والطموح، حيث واجهته الزعامات المتنفذة في مجتمعه، بإثارة الإشكاليات في وجهه، وافتعال المشاكل في طريقه.
فحين سعى لإنشاء مؤسسات دينية اجتماعية لينطلق منها في عمله وحركته، استقبلته معارضة عنيفة من تلك القوى المحلية، جاء في ترجمته مايلي:
(وكلما أرتفع مدماك للتقرب إلى الله، اتسعت مع المتنفذين شقة الخلاف، وكأن إقامة حسينية، أو تأسيس مسجد، مجال لتدمير كل الأسس التي يقوم عليها نفوذهم، وكأن النفوذ لا يمكن أن يقام إلاّ على انعدام الأخلاق وفقدان الروحية في النفوس.
أسس المسجد فعارضوه، استقطع أرضاً من أراضي الدولة بموافقة السلطان محمد رشاد فعارضوه، أسس مدرسة الزهراء فعارضوه، وفي مدرسة الزهراء نجحوا في خنقها بعد عمل سنة فيها، وأسس جمعية البر والإحسان فعارضوه، وقد استعانوا على معارضته بالدولة، أثاروا الدولة العثمانية، ومن ثم الفرنسية، وبعدها الحكومة الوطنية.
وكان هو يتحين الفرص لتحقيق ما يصبو إليه، وبهذا يقول: كنت مع المتزعمين كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس تقحم، وقد منينا منهم بخبط وشماس، وتلون واعتراض، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة، أتربص سانحة الفرصة، وأتتبع رائد النجح، حتى شممت مخائل الرجاء، بسخط الوالي العثماني عليهم، وإنشغالهم عنا بأنفسهم، منصرفين إلى تدارك أمرهم معه في بيروت، فانتهزنا تغيبهم فرصة لإشادة الجامع.
ولكن هذا الجامع الذي بدأ العمل به في غياب المتزعمين توقف فيه العمل بعد أن دخلت فرنسا، ورتب المتزعمون أمرهم معها، وصار الأمر إلى المحاكم، حتى تبرع أحد المؤمنين بدار له في البلد، واشترى الإمام داراً أخرى بجانبها، وهدم الدارين وأقام المسجد القائم حالياً في وسط البلد القديمة.
أما المسجد الذي كان قد شرع بتشييده، والذي أراده على غرار مسجد الجزار في عكا، لا تزال أسسه تحت رمال ملعب الثانوية الجعفرية.
وعند انتشار العملية التبشيرية في صور، وبروز مظاهر الانحراف في جيلها الجديد، ومن منطلق سلطان العلم لتربية الناشئة، ورفع المستوى الاجتماعي، أنشأ المدرسة الجعفرية سنة 1938-1939م الدراسية، مدرسة ابتدائية مجانية، واستمرت كذلك إلى أن بدأت ترتقي إلى ثانوية، وتزداد متطلباتها المادية، ولم تعد الحقوق تفي بالحاجة، وألحق بالمدرسة نادي الإمام الصادق.
ولكن المتزعمين أنفسهم، إذ أعجزهم إيقاف حركة المدرسة، أقاموا مدرسة مقابلها، ولكنها لم تستمر، ولا يمكن لمسجد ضرار أن يستمر، فتوقفت، فصادر الإمام مبناها، وعندها افتتح مدرسة الزهراء، ولكن المتزعمين استصدروا أمراً بإقفالها وختمها بالشمع الأحمر، فأخلى منزله للمدرسة، ولكنها لم تستمر لأن الدولة لم تمنحها رخصة[6] .
هذا مشهد واحد من مشاهد كثيرة لمعاناة الإمام شرف الدين ضمن مجتمعه المحلي في مسيرة حركته وإصلاحه.
هموم الأمة والرسالة
عالم الدين ليس كأي موظف يقوم بدوره في حدود اختصاصه الوظيفي، ولا صاحب هواية يسيطر عليه عشقه لها، بل هو رائد مسؤول عن مصالح الدين والأمة، بحكم اطلاعه على شريعة الله، ومعرفته بالتكاليف الإلهية، يقول تعالى: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً﴾[7]
من هنا لا يمكن لعالم الدين حين يتحمل مسؤوليته أن يكون متفرجاً على واقع الأمة، وأن يتعايش مع الفساد والتخلف الاجتماعي، بل لا بد له من تكريس جهده وحياته للقيام بدور التبليغ والإصلاح.
نعم هناك من علماء الدين من لا يدركون هذه المسؤولية، أو يغفلون عن تحملها، لنقص في المعرفة والوعي، أو لضعف في الإرادة والهمة، أو ركوناً إلى الراحة والدعة.
وقد تختلف القراءة للظروف والتشخيص للواقع من عالم لآخر، كما تتنوع القدرات والاهتمامات بين العلماء، مما ينتج تنوع الأدوار والمشاريع، حيث يهتم بعض العلماء بتنمية الحالة العلمية، وبعض آخر بالإصلاح الاجتماعي، بينما يتصدى بعض العلماء للشأن السياسي، وذلك أمر طبيعي ومطلوب يؤدي إلى التكامل وسدّ الثغرات. وما ليس مقبولاً هو الركود وعدم تحمل المسؤولية، والاقتصار على المهام التقليدية المحدودة التي يمكن أن يقوم بها حتى غير عالم الدين.
وقد ينبري بعض العلماء من ذوي الهمة العالية والكفاءات المتعددة للقيام بأكثر من دور في الأبعاد المختلفة، كما هي شخصية الإمام شرف الدين.
الإصلاح الاجتماعي
فعلى الصعيد الاجتماعي تصدى الإمام شرف الدين لمعالجة مشاكل مجتمعه المحلي في مدينة صور وما حولها، فأسس مسجداً وحسينية، لنشر الثقافة والتوجيه الديني، وأهتم بالتعليم الأكاديمي، فأنشأ المدرسة الجعفرية التي بدأت بالمرحلة الابتدائية، وكان التعليم مجانياً لأبناء البلد، حيث كان يبعث إبنه السيد جعفر إلى مناطق المغتربين اللبنانيين في مختلف أنحاء العالم لطلب دعمهم ومساعدتهم لتمويل هذا المشروع التربوي التعليمي، والذي تجاوز المرحلة الابتدائية إلى مستوى الثانوية، و تخرج من هذه المدرسة جيل متعلم شكل طليعة النهوض لمجتمعه، حيث حرص الإمام شرف الدين على ضبط المسار التربوي التعليمي في المدرسة، كما يقول عن ذلك رحمه الله:
(كان أبناء هذه المدرسة في دوراتها المختلفة يبرزون في ميادين الامتحانات العامة، ويسجلون لمدرستهم أعلى نسب النجاح على نحو يلفت إليهم النظر، ويثير فضول الممتحنين وأشباههم فيسألونهم عن مدرستهم المجلّية السبّاقة. ولا نحيل ذلك على غيب، فمن شاء فليرجع إلى السجلات الرسمّية في مظانها من وزارة المعارف، ليضع عينه ويده على حسّ مشهود)[8] .
وإلى جانب المدرسة الجعفرية، أنشأ مدرسة الزهراء للبنات، إلا أنها أقفلت بقرار من الحكومة آنذاك.
كما أقام مؤسسات أخرى ثقافية واجتماعية مثل: نادي الإمام الصادق، وجمعية نشر العلم، والجمعية الخيرية الجعفرية، وجمعية البر والإحسان.
وإدراكاً منه لأهمية المنبر الحسيني والشعائر الحسينية في المجتمع الشيعي، فقد (حاول أن يصلح ما يتخللها من قصور، ويخلّصها عما علق بها من شوائب، لقد فرض على الخطباء في عاشوراء رقابة عسيرة تولاها بنفسه، فمنعهم من أن يسترسلوا في التهويش والتهويل، وسرد الروايات الكاذبة المضرة، وكثيراً ما كان يتدخل فيبادر بإعطاء الملاحظات عند اللزوم، وعمد إلى تربية جيل جديد من الخطباء انتقاهم من الشباب المثقف والضليع باللغة العربية، ثم أخضعهم لرقابته، ووجههم إلى كيفية القراءة ونوعيتها وكميتها، كل ذلك بغية تلافي الأخطاء التي قد تسيء إلى فهم النص، والابتعاد عن التهويل والتضخيم في سرد الحادثة، حيث أصبح ذلك مملا عند الخاصة والعامة على السواء، وقد وضع من أجل هذا مؤلفاً خاصاً هو المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة)[9]
النضال السياسي
بحكم موقعيته الدينية القيادية، ووعيه العميق الشامل، لم يكن حيادياً تجاه الأحداث والأوضاع السياسية في بلده لبنان وعلى مستوى المنطقة، بل كان صاحب موقف فاعل مؤثر على صعيد الحدث السياسي، يظهر ذلك من مراسلاته مع رؤساء الجمهورية اللبنانية في عصره، التي كان يجهر فيها لهم برأيه وموقفه، ويستحثهم على الإخلاص للشعب والدفاع عن مصالحه. كرسالته إلى الرئيس حبيب باشا السعد بتاريخ 3/5/1347هـ، ورسالته إلى الرئيس بشارة الخوري إثر اعتداء الصهاينة على الجنوب اللبناني عام 1948م، ورسالته له أيضاً احتجاجاً على إثر تجريد حملة عسكرية على عشائر الهرمل في أيلول 1949م.
وفي أكثر من موقف سياسي يشهر الإمام شرف الدين سلاح الحشد الجماهيري، للضغط على القوى السياسية، ولتوعية الناس بواقعهم ودفعهم للمطالبة بحقوقهم، كالاجتماع الحاشد الذي عقده في صور في شهر ذي القعدة 1360هـ/ كانون الأول 1941م، وبعث على إثره رسالة للرئيس أحمد الأسعد، تضمنت مطالب المجتمعين، التي حددها بالنقاط التالية:
أولاً: الحقوق المشروعة في الوظائف، بمختلف الدرجات، في مختلف الدوائر والمؤسسات، والظلامة أوضح من الشمس، إذ لم ينل جبل عامل عشر حقه، بينما تتمتع بعض المناطق والفئات بحقوقها كاملة، ويتمتع بعضها الآخر بحقوقه وحقوق غيره.
ثانياً: إرواء جبل عامل أرضاً وبشراً من الليطاني الذي تهدر مياهه في البحر بينما يحترق الناس عطشاً، وتبور أرضهم سغبا.
ثالثاً: تعميم المدارس الرسمية، فإن سائر القرى العاملية محرومة منها، أما القصبات فإن فيها مسمّى مدارس، ولا تزال الكتاتيب تقوم مقام الحكومة بتعليم الناشئة كأننا في القرون الغابرة.
رابعاً: تعبيد الطرقات، فإن القرى معزولة عن الطرق العامة، فضلاً عن الطرق الرئيسية، بحيث أن المريض يموت قبل أن يصل إلى المدينة، والحامل تسقط حملها، فضلاً عن العزلة التامة التي يعانيها سكان القرى.
خامساً: اعتماد أطباء يسدون الفراغ الصحي الفتاك، ويتلافون ما يمكن تلافيه، من الأمراض المستوطنة كالملاريا والتيفوئيد والتراخوما.
سادساً: إصلاح المحاكم الشرعية، وإسناد القضاء إلى عدول العلماء ليلوا الحكم بما أنزل الله.
ومن المشاهد التاريخية لدوره السياسي دعوته إلى مؤتمر وادي الحجير عام 1338هـ / 1920م لمواجهة فتنة عين ابل التي حصلت بين المسلمين والمسيحيين، فبادر شرف الدين للدعوة لمؤتمر ضم مجموعة من العلماء والأعيان والوجهاء والثائرين، واتفقوا على وثيقة وقعت من الجميع، وأقام السيد اليمين على الجميع، لحفظ الأمن، وإقرار الهدوء، والحرص على سلامة المسيحيين بوجه خاص، واستدعى السيد رؤوس الثوار ليوقفوا نشاطهم ويكفوا عمّا هم فيه، مهدداً لهم بالعقوبة والمصادرة.
وكان مما قاله شرف الدين في ذلك المؤتمر:
(ألا وإن النصارى إخوانكم في الله وفي الوطن وفي المصير، فأحبوا لهم ما تحبونه لأنفسكم، وحافظوا على أرواحهم وأموالهم، كما تحافظون على أرواحكم وأموالكم، وبذلك تحبطون المؤامرة، وتخمدون الفتنة، وتطبقون تعاليم دينكم وسنة نبيكم).
أما موقفه الرافض للاحتلال الفرنسي، ودعوته للجهاد ضده، فهو موقف مشهود، كاد أن يدفع حياته ثمناً له، حيث حكم الاحتلال عليه بالإعدام، ووجهوا جيشاً لمحاصرته في بلدة (شحور) وحرقوا داره، بعد أن احتلوا داره في صور، ونهبوا مكتبته وفيها نفائس المؤلفات المطبوعة والمخطوطة، وأنقذه الله منهم حيث تسلل إلى الشام ولحقت به عائلته، وظل مطارداً متنقلاً بين الشام ومصر وفلسطين مدة من الزمن.
الحوار والتقريب بين المذاهب
اهتمامه بالإصلاح الاجتماعي في محيطه، وتصديه لكبريات القضايا السياسية في وطنه، لم يشغله عن الاضطلاع بالدور المسؤول على مستوى قضايا الأمة، وقد رأى أن من أشد التحديات التي تواجه الأمة، هي حالة التمزق والخلاف المذهبي، الذي أخذ منحى خطيرا، بالتباعد بين أرباب المذاهب، وتبادل التعبئة والتحريض على الكراهية بين أتباعها، حتى وصل الأمر إلى إصدار فتاوى التكفير والحكم بالقتال وسفك الدماء، كفتوى الشيخ نوح الحنفي، التي عرضها وناقشها الإمام شرف الدين في كتابه (الفصول المهمة)، والتي أبيد على أثرها أربعون ألفاً من الشيعة في حلب الشام، وانتهبت أموالهم، وبسبب هذه الفتوى هاجم الأمير ملحم بن الأمير حيدر جبل عامل سنة 1147هـ، فانتهك الحرمات، واستباح المحرمات يوم وقعة أنصار، وقتل وسلب وخرب ونهب وأسر ألفاً وأربعمائة من الشيعة، كما ذكر الإمام شرف الدين.
لقد أدرك الإمام شرف الدين أن التباعد والقطيعة يفسح المجال لسوء الظنون، ولتهريج المغرضين، واتهامات الحاقدين، ويعطي الفرصة للجهات الأجنبية المعادية، والقوى المصلحية الانتهازية في الداخل، لإيقاد شرور الفتن الطائفية والخلافات المذهبية.
فصدع برسالة الوحدة والتقريب عبر الحوار العلمي الموضوعي، الذي يكشف لكل طرف رأي الطرف الآخر على حقيقته، ويؤكد على المرجعية الواحدة لمذاهب الأمة وهي الكتاب والسنة، فالخلاف هو على صعيد الفهم لمداليل آيات الكتاب العزيز، أو مدى ثبوت النص الوارد من السنة النبوية وتحديد دلالته.
كما إهتم الإمام شرف الدين بالتأكيد على جامعية الإسلام لأبنائه على اختلاف مذاهبهم، فهم يشتركون في أصول الدين وأركان الإسلام، وإنما يختلفون في بعض جزئياتها وتفاصيلها.
وأرسى شرف الدين بكتبه القيمة في الحوار المذهبي، كالمراجعات والفصول المهمة ومسائل فقهية وغيرها معالم مدرسة متميزة في الحوار والتقريب، تعتمد الحجة والبرهان، واحترام الرأي الآخر، واكتشاف المشتركات، والتماس العذر في مواقع الخلاف، والحفاظ على وحدة الأمة، والتعاون لحماية مصالح الدين والمجتمع.
بقي أن نشير إلى مبادرته في التواصل مع علماء المذاهب الإسلامية حيث سافر إلى مصر والتقى بشيوخ الأزهر وتحاور معهم، كما زار فلسطين ودمشق وأقام بهما مدة من الزمن, وصنع علاقة وثيقة مع العلماء هناك.
العطاء العلمي
همومه الإسلامية الكبرى، واهتماماته المعرفية، حركت قلمه ليسطر أروع المؤلفات الخالدة، التي تركت أثراً كبيراً في أوساط الأمة، وأعيد طبع بعضها كالمراجعات عشرات المرات، وترجم بعضها إلى الكثير من اللغات، وأصبحت بحق مراجع معتمدة في البحوث التي تناولتها.
ومن أهم كتبه: المراجعات، النص والاجتهاد، الفصول المهمة في تأليف الأمة، أجوبة مسائل موسى جار الله، أبو هريرة، إلى المجمع العلمي العربي بدمشق، مسائل فقهية، المجالس الفاخرة في مآتم الطاهرة, فلسفة الميثاق والولاية، كلمة حول الرؤية، الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء، بغية الراغبين في سلسلة آل شرف الدين. وبحوث أخرى نشرتها بعض المجلات، وكتب مخطوطة أتلفتها الحوادث التي واجهها في حياته.
حقاً إن الإمام شرف الدين شخصية نموذجية لعالم الدين الرسالي، ومدرسة أصيلة في التغيير والإصلاح، وتجربة ثرية في الحوار والتقريب, تغمده الله تعالى بواسع رحمته واسكنه الفسيح من جنته، ووفق العلماء العاملين وأبناء الأمة الواعين لتكريس نهجه، وتطوير تجربته.
والحمد لله رب العالمين.