التيارات الإجتماعية والتنافس الإيجابي

الشيخ حسن الصفار *
التنافس حالة إيجابية لدى الإنسان، فهي التي تدفعه باتجاه تفجير طاقاته وقدراته، كما أنها التي تبعث النشاط والتطور في المجتمع حيث تتحرك قواه نحو التقدم، وتتسابق على إحراز التفوق.


التنافس لغة: تفاعل من نَفِسَ، و«تنافَسَ القوم في كذا: تسابقوا فيه وتباروا دون أن يُلحق بعضهم الضرر ببعض.

... والتنافُس: نزعة فطرية تدعو إلى بذل الجهد في سبيل التشبُّه بالعظماء واللُحوق بهم»[1] .

وهي مشتقّة من: نَفِسَ عليه إذا شح به عليه. تقول: نَفِسَ بالمال على فلان: شَحَّ به عليه. وقد تكون مشتقّة من النِّفَاسة، وهي الشيء الغالي القيمة والثمن، بمعنى التسابق لكسب الفضل قبل الغير.

والتنافس حالة يعيشها الإنسان الفرد فيما بينه وبقية أفراد محيطه، كما هي حالة تعيشها الجماعات والتيارات الاجتماعية.

ففي كل مجتمع بشري تتكون وتظهر تيارات وتجمعات إما بناءً على اختلافٍ في المبادئ والأفكار، بحيث تتبنّى كل جماعة فكرًا ومبادئ تختلف فيها مع الجماعة والتيار الآخر، وإما للاختلاف في المواقف والمصالح، بحيث تكون لكل مجموعة مصلحة معينة تسعى لها في مقابل جماعة أخرى تنافسها لكسب هذه المصلحة. وإما بناءً على التمايزات العرقية أو القومية أو القبلية أو التبعية لبعض الزعامات البارزة وتكون لهذه التيارات فاعلية عند المنعطفات التي يمر بها المجتمع، وخاصة عندما يرتقي وضع المجتمع، لأنَّ تشكُّل التجمعات يعني حالة متقدّمة في واقع المجتمع.

التعدّدية حالة إيجابية

بعض المجتمعات الراكدة قد تنظر إلى نشوء وتشكّل تيارات اجتماعية نظرة سلبية، وتصوّر الأمر وكأنه انقسام يؤدي إلى الفرقة والتشتت، بينما إذا أمعن الإنسان النظر فإنه يرى أنها حالة إيجابية، وليست سلبية، لأنها تعتبر نوعًا من التقدّم الاجتماعي.

وأي تقدّم لابدَّ وأن تنتج عنه بعض المضاعفات السلبية، وهنا يأتي دور القوى الواعية في المجتمع في السيطرة على هذه المضاعفات والحدّ منها.

أما المظاهر الإيجابية لتعددية التيارات الاجتماعية فأبرزها ما يلي:

1. إذكاء حالة التنافس لتطوير المجتمع
كل فئة إذا شعرت بوجود فئة أخرى تحاول أن تكون لها مساحة أوسع من الكسب والتأييد الجماهيري، فإنها ستجدّ وتنشط بكل ما تستطيع من أجل أن تكون الأكثر والأوسع نفوذًا وتأثيرًا، وتشحذ من أجل ذلك ما عندها من طاقات وكفاءات، وهذا لصالح التقدّم الاجتماعي المستفيد من الخدمة التي تقدّمها هذه الجماعة والجماعة الأخرى المنافسة لها.

وهذا بخلاف ما لو كان المجتمع يخضع لجماعة وتيار واحد، حيث لن يكون هناك تنافس، كما أنه سينعكس على نفس الجماعة، لأنها ستتجمّد ولن تسعى لتطوير نفسها.

ولذلك فإن وجود أكثر من تيار وجماعة تعمل في الشأن الاجتماعي العام يذكي حالة التنافس ويسرّع حركة التطوير في المجتمع.

2. معالجة نقاط الضعف
لابدّ وأن يكون عند كل طرف أو تيار يعمل في الشأن الاجتماعي نقاط قوّة، ويقابلها نقاط ضعف، وعندما تتعدّد التيارات الفاعلة في المجتمع ويكون بينها حالة من التنافس ربما تستغل بعض هذه التيارات نقاط الضعف عند التيارات الأخرى، فيضطر كل طرف أن يعالج نقاط ضعفه وأن يسدّ الثغرات، وبالتالي سيكون هذا دافعًا للتكامل والتطوّر عند كل جهة من الجهات، أما إذا لم يكن هناك طرف منافس تبقى الثغرات والسلبيات دون أن يكون هناك تحفيز لمعالجتها.

3. استيعاب طاقات المجتمع
كل تيار من التيارات يحاول قدر طاقته أن يستقطب من المجتمع شريحة أكبر من المؤيدين، ومن الطبيعي أن لا يستطيع استيعاب الجميع ضمن تياره، لذلك فإن وجود تيار آخر يحوي مساحة أخرى من الجمهور يساعد على أن تكون جميع قوى المجتمع فاعلة في تياراته المختلفة، لا أن تكون بعض القوى فاعلة، بينما تظل الأخرى معطّلة دون أن تجد من يحتضنها ومن يتبنّاها.

العلاقة بين التيارات الاجتماعية

العلاقة بين التيارات الاجتماعية تختلف في طبيعتها من مجتمع لآخر، ويمكن تحديدها بثلاثة أشكال، هي:

1. علاقة النزاع والخصومة
في بعض الأحيان تكون العلاقة بين التيارات علاقة نزاع وخصومة، بمختلف أشكال المنازعة والخصام، وقد تصل إلى حالة من الاحتراب والمقاتلة، كما نرى ذلك في بعض البلدان حيث تتقاتل الجماعات والأحزاب والفصائل.

وفي أحيان أخرى قد لا يصل الأمر إلى مستوى التقاتل، ولكن تكثر فيما بينها حالة الفتن الاجتماعية والتشهير الإعلامي والتصعيد الكلامي والتشنّج في العلاقة.

2. علاقة التباعد والقطيعة
وفي هذه الصورة تكون كل جماعة منطوية على نفسها ومهتمة بشأنها الخاص، وتتبع كل جماعة في علاقتها بالجماعة الأخرى سياسة المتاركة. وهذه الصورة ربما تكون أقل خطرًا من الصورة الأولى، ولكنها في كثير من الأحيان تتطور إلى أن تكون مقدّمة للحالة الأولى.

3. علاقة التعاون والتكامل
حيث يكون هناك نوع من التواصل والتعاون والتنسيق بين هذه التيارات والجماعات داخل المجتمع، بحيث تتكامل الجهود لمعالجة قضايا المجتمع، ويكون هناك تقاسم في الأدوار وهذه هي الصورة المثلى التي ينبغي الوصول إليها.

كيف يتحدّد شكل العلاقة بين التيارات؟

إن تحديد شكل العلاقة بين الجماعات والتيارات الفاعلة في أي مجتمع يعتمد على عاملين أساسيين، هما:

1. مستوى الوعي عند قيادات التيارات
حينما يكون هناك نضج ووعي عند قيادات التيارات يكون لها دور في توجيه أتباعها وجماهيرها ومسيرة الحالة في المجتمع إلى أن تكون العلاقة بين التيارات علاقة إيجابية، وبالعكس من ذلك إذا انعدم الوعي والنضج، وسادت حالة الأنانية والتوسّل بالوسائل الملتوية من كل فئة تجاه الفئات الأخرى، أو الأسوأ من ذلك أن تسود حالة تشيع فيها النوايا السيئة بإلغاء كل طرف للأطراف الأخرى، فهنا لا تكون العلاقة بين هذه الجماعات والتيارات علاقة إيجابية.

ومسألة النضج والوعي لدى القيادات له علاقة بمسألة التجربة والخبرة في العمل الاجتماعي، فإذا كانت التيارات لا تزال في طور النشء والحداثة في التجربة فإن هذا ينعكس على الأسلوب المتبع في العلاقة والتداخل فيما بينها، بحيث قد تصل في بعض الأحيان إلى حالة النزاع والخصومة والصدام.

ومن أبرز الأمثلة على هذه النقطة التجربة اللبنانية، حيث أن التيارات اللبنانية بعدما جرّبوا الحرب الأهلية وصلوا إلى حدّ من النضج والوعي السياسي إلى أن الحل الأمثل هو التعاون والحوار والتواصل فيما بينهم كجماعات وأحزاب وقوى.

2. مستوى البيئة الثقافي والسياسي
التيارات والجماعات هي جزء من المجتمع الذي تعيش فيه، وتتأثر بالحالة السياسية والثقافية السائدة في المجتمع، فإذا كانت تعيش في جوّ يسوده النظام والقانون وحرّية الرأي والعمل فهذا الوضع السياسي يجعل تلك التيارات والتجمّعات تسير علاقاتها في الاتجاه الطبيعي والقانوني.

كما هو الحال الآن في الغرب، فهناك جماعات وأحزاب وحركات سياسية وثقافية واجتماعية ضمن جوّ سياسي عام يقنن ويرشّد العلاقة فيما بين هذه التكتّلات.

أما إذا كان الوضع السياسي لا يتيح فرصة لوجود جماعات، ولا يعترف بوجود قوى أهلية تعمل في المجتمع، وليس هناك حالة من حرّية العمل الثقافي والسياسي والاجتماعي، هذه الحالة تنعكس غالباً سلبياً على واقع الساحة الاجتماعية وعلاقات التيارات مع بعضها.

وإذا كانت تسود في المجتمع ثقافة تسامح واحترام للرأي الآخر فإنها تساعد على ترشيد العلاقة بين التيارات، أما إذا كانت الثقافة السائدة ثقافة إقصاء وإلغاء وخاصة ضمن العناوين الدينية، وهذا مما ابتليت به ساحتنا الدينية، فنجد من يعتبر نفسه فيها وكأنه يمثّل الله والشرع في الأرض، وبالتالي فإن أي طرف يختلف معه فكأنه يختلف مع الله والشرع والحق، ويستحق كل تهم الضلال والابتداع والشرك والمروق من الدين، إن المجتمع الذي يعيش هذه الحالة من الثقافة لا تترشّد فيه العلاقة بين تياراته، لأن هذه التيارات تتنفّس من هذا الهواء الملوّث بهذه الأفكار الإلغائية العدوانية، وبالتالي فإن أبناء هذه التيارات يتأثرون في علاقاتهم مع بعضهم البعض بهذا الجوّ السائد.

التيارات الاجتماعية وترشيد العلاقة

ظهرت وتظهر بعض التيارات والجماعات في مجتمعنا المحلي، إما بعناوين مرجعية أو ثقافية، وهذه حالة إيجابية في المجتمع، لأن المجتمع الراكد لا تظهر فيه تيارات، بينما المجتمع الذي تشغله الفاعلية والحراك الاجتماعي والثقافي تتعدّد تياراته وتوجهاته.

ومجتمعنا الآن يعيش هذه المرحلة، فهناك تيارات تعبّر عن نفسها بأشكال مختلفة من التعبير، ومن المفترض أن ترشّد العلاقة بين مختلف هذه التيارات والتوجّهات، وأن توجّه باتجاه التنافس الإيجابي لخدمة المجتمع، تطبيقًا لقوله تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[2] .

وعندما نريد أن نطبّق هذه الآية على واقعنا اليوم من المفترض أن نسعى لأن يكون هناك تنافس إيجابي في خدمة المجتمع، ضمن نطاق الجمعيات الخيرية، أو الأندية الرياضية، أو المنتديات الثقافية، وكذلك إقامة الشعائر الدينية، وضمن مختلف الأطر والأنشطة كالانتخابات البلدية وانتخابات غرفة التجارة وسائر المجالات.

ولتوجيه هذا التنافس في الاتجاه الإيجابي لابدّ من توفر أربع صفات، هي:

1. الاعتراف والاحترام المتبادل
إن مشكلة كثير من المجتمعات أنه قد تكون هناك قوّة أو تيار سائد، وتغلب عليه صفة التقليدية والتعصّب، فلا يعترف بانبثاق تيار جديد ونشوء قوّة جديدة، بل لا يرى أن لها الحق في الظهور على الساحة والتحرّك فيها.

وهذا تطرّف وتعصّب، فللجميع الحق في العمل ولا يحق لجماعة أو فئة أو فرد أن يمنع الآخرين من ذلك.

2. التزام الوسائل المشروعة للتنافس الإيجابي
من الطبيعي أن تسعى كل مجموعة أو طرف لكسب أكبر قدر من الجمهور وساحة أوسع للعمل، ولكن من المهم أن تكون الوسائل المستخدمة للكسب وسائل مشروعة، ومن المفترض أن تبتعد هذه الوسائل عن أسلوب التشهير والاتهام والتشكيك في النوايا والأهداف.

3. الانفتاح والتواصل
مما يؤسف له أن تكون في المجتمع تيارات وجماعات فاعلة ولا يكون بينها أي نوع من التواصل والانفتاح.

وعندما ينعدم التواصل تكثر الشائعات بين كل فريق تجاه الآخر، وهذا بسبب حالة القطيعة وعدم الاتصال المباشر.

وبخصوص هذه النقطة كثيرًا ما تتوتّر العلاقات بين التيارات المختلفة بسبب ما قد يحدث من مواقف فردية.

إذ غالبًا ما يكون لكل جماعة مجموعة من الأتباع، وقد يتصرّف بعضهم أو أحد الأفراد منهم تصرفًا خاطئًا تجاه جماعة مقابلة، ويُحمل هذا التصرف على الجماعة ككل، وغالبًا ما تتطور الأمور إلى حالة من الصراع والتصادم.

4. التعاون والتكامل
وهو المستوى الأرقى في العلاقة بين التيارات، فهذه التيارات والجماعات تعمل في مجتمع واحد، فمن المفترض أن يرتفع مستوى العلاقة بينها إلى نوع من التنسيق والتكامل، بحيث تحاول كل جهة أن تستفيد من الجهة الأخرى بما يرتقي بمستوى العمل.

نسأل الله أن يوفقنا وإياكم للالتزام بمكارم الأخلاق، وأن يجمع كلمة مجتمعنا وأمتنا على الخير والحق.

والحمد لله رب العالمين.
[1]  المعجم الوسيط، مادة: نفس.
[2]  سورة المطففين آية: 26.