المرأة وصلاة الجماعة
حين كانت المجتمعات البشرية تعيش صراعات وحـروباً تعتمد على قوة العضلات، والمواجهة المباشرة بالسلاح الأبيض، كان كثرة الرجال المقاتلين هو مورد القوة والهيبة لكل قبيلة ومجتمع، بينما كانت المرأة لنعومة جسمها وضعف قوتها البدنية لا تخدم معادلتهم في كسب الحرب والقتال، بل على العكس من ذلك فإن حمايتها من أن تقع في أسر العدو، كان يشكل عبئاً على جبهة المعركة.وهذا هو سبب رئيس لتفضيل الرجل على المرأة في تلك المجتمعات السابقة، لأن معيار القوة هو العضلات المفتولة والأجسام الخشنة.
أما حين ترتقي المجتمعات البشرية، وتخوض الصراع فيما بينها على مختلف الأصعدة العلمية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، فإن المعوّل لن يكون حينئذٍ على مجرد القوة البدنية التي يمتاز بها الرجل، وهنا تظهر إمكانات المرأة وقدراتها في منافسة الرجل ضمن سائر الميادين والمجالات.
وهذا ما جاء الإسلام ليبشر به، وليدّشن عهداً جديداً في تاريخ البشرية، تأخذ فيه المرأة موقعها الإنساني، ودورها الفاعل في الحياة، من خلال تفجير طاقاتها الفكرية، وقدراتها النفسية.
فالمرأة كالرجل مخزون هائل من القدرات والطاقات، يجب أن تتاح لها الفرصة، وتُشرع أمامها الأبواب لتثبت كفاءتها وتسهم في بناء مجتمعها.
ميدان القيم وساحات العمل:
الذكورة والأنوثة ليست كسباً إختيارياً، وإنما هي تكوين إلهي، فالإنسان لا يختار جنسه، هل يكون ذكراً أو أنثى؟ وإنما يخلقه الله كذلك، فلا فخر له بذكورته أو أنوثته، كما لا يحط انتماؤه لأيهما من قدره.
إن الفضل والفخر هو في كسب الصفات الاختيارية، التي ينالها الإنسان بإرادته وسعيه وجدّه واجتهاده، بغض النظر عن لونه وعرقه وجنسه. وهذا ما يقرره الإسلام ويؤكده بنصوص واضحة صريحة مطلقة لا تقييد فيها ولا تحديد.
وعلى ضوء ذلك يجب رفض أي فكرة للتمييز بين أبناء البشر، على أساس العنصر أو الجنس، خارج إطار قيم التفاضل الكسبية.
فالقرآن الكريم يتحدث عن معادلة التفاضل في إطار قيمة التقوى، حيث يقول تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[1] فالأتقى رجلاً كان أو امرأة هو الأفضل عند الله، ولا يمكن لمسلم أن يعتبر الرجل غير التقي أفضل من المرأة التقية لذكورته، ولا أن يفضّل الرجل الأقل تقوىً باعتباره رجلاً على المرأة الأكثر درجة في التقى.
كما يتحدث القرآن الكريم عن قيمة العلم كإطار للتفاضل بين بني البشر بشكل مطلق يقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[2] ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[3] وهنا لا يمكن أن يقبل عاقل بتفضيل الرجل الجاهل على المرأة العالمة، ولا الرجل الأدنى مستوى في العلم على المرأة الأرفع منه في درجات العلم.
كذلك فإن العمل الصالح هو الآخر معيار ومقياس في منطق القرآن لقيمة الإنسان، وتحديد درجته ومستواه، يقول تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾[4]
ويتساوى في درجات هذا المعيار الرجل والمرأة، يقول تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى﴾[5] ، فالأكثر عملاً أعظم درجة ذكراً كان أو أنثى.
لذلك يقدّم القرآن المرأة الصالحة كمثل ونموذج للمؤمنين رجالاً ونساءً يقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ﴾[6]
وكما قال الشاعر العربي:
ولو كنّ النساء كمثل هذي
لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
من هنا يُشرع الإسلام أبواب التنافس ويفتح ميادين السباق على جميع الأصعدة أمام الرجل والمرأة، ليتسايرا وليتسابقا على درب الفضيلة والصلاح.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[7] .
ففي الآية الكريمة إقرار لتكافئ الفرص بين الرجل والمرأة، في كسب صفات التقدم، وميزات التفوق، حيث احتوت الآية الكريمة على ذكر عشر صفات، بعضها فكرية اعتقاديه كالإسلام والإيمان، وبعضها مناقبية أخلاقية كالصدق والصبر، وبعضها ممارسات عملية كالصوم والصدقة. وفي جميعها توازي المرأة الرجل وتسايره، وقد تسبقه وتتفوق عليه.
وإذا كان الإسلام قد أسقط عن المرأة بعض التكاليف والواجبات كقتال الأعداء ما لم تستدع الضرورة مشاركتها، وكوجوب الحضور في صلاة الجمعة، فإن رفع التكليف عنها مراعاة لظروفها الجسمية والعائلية، وحين تجد نفسها قادرة على المشاركة فيها فإن الإسلام لا يمنعها من ذلك. كما هو مقرر في فتاوى الفقهاء.
صلاة الجماعة:
للمسجد موقعية رائدة في الاجتماع الإسلامي، ففيه تقام صلاة الجماعة، وتلقى خطب الوعظ والإرشاد، ويلتقي المسلمون ببعضهم، ويتشاورون في أمورهم، إنه ليس محراب عبادة فقط، بل مدرسة هداية وعلم، وساحة تواصل واجتماع.
ومن المتسالم عليه بين المسلمين فضل الصلاة في المساجد، وأفضلية صلاة الجماعة، ومن الثابت تاريخياً أن المرأة في العهود الإسلامية الأولى، بدءاً من تأسيس المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، كانت تشارك في الحضور إلى المسجد، وتشترك في صلاة الجماعة، وتصغي إلى خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وإرشاداته.
وتحدث الفقه الإسلامي عن أحكام مشاركة المرأة في صلاة الجماعة، حيث أجاز الفقهاء من السنة والشيعة صحة إمامة المرأة لمثلها من النساء، عدا فقهاء المذهب المالكي، جاء في الموسوعة الفقهية: (أما إمامة المرأة للنساء فجائزة عند جمهور الفقهاء – وهم الحنفية والشافعية والحنابلة – واستدل الجمهور لجواز إمامة المرأة للنساء بحديث أم ورقة (إن النبي صلى الله عليه وآله أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها) ... أما المالكية فلا تجوز إمامة المرأة عندهم مطلقاً ولو لمثلها في فرض أو نفل) [8]
كما استند فقهاء الشيعة إلى روايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، دالة على جواز إمامة المرأة للنساء كموثق سماعة قال: «سألت أبا عبد الله –الصادق- عليه السلام عن المرأة تؤم النساء؟ فقال: لا بأس به »وصحيح علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن المرأة تؤم النساء ما حد رفع صوتها بالقراءة والتكبير فقال: قدر ما تُسمع »ونحوهما غيرهما [9]
ولا تصح إمامة المرأة للرجال عند فقهاء السنة والشيعة وقد استدل فقهاء السنة بحديثين لمنع ذلك أحدهما ما رواه جابر: «لا تؤمن امرأة رجلاً» أخرجه ابن ماجه، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف[10] .
والثاني ما ورد من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله قال: «أخروهن من حيث أخرهن الله» صححه ابن حجر في فتح الباري[11] .
أما فقهاء الشيعة فلم يرد عندهم نص صحيح في المنع من ائتمام الرجل بالمرأة، لكنهم استندوا (للإجماع، والسيرة خلفاً عن سلف، ولصحة دعوى القطع من مذاق الشرع بعدم جوازه أيضاً)[12] .
وانفرد –فيما أعلم- الشيخ يوسف الصانعي (أحد الفقهاء المعاصرين في قم) بالقول بجواز ذلك معتبراً أن تساوي الإمام والمأموم في الذكورية إذا كان المأموم رجلاً مجرد احتياط استحبابي[13] .
ولا يعترض أحد من الفقهاء على مشاركة المرأة في صلاة الجماعة بإمامة الرجل، بل تضمنت أبحاث الفقه وكتب الفتاوى تفاصيل الأحكام المرتبطة باشتراكها في صلاة الجماعة.
الحضور إلى المسجد:
انطلاقاً من ضرورة الحفاظ على أجواء العفاف في الاجتماع الإسلامي، وصيانة لستر المرأة، وعدم تعرضها لمواقع الفتنة، يحرص علماء الإسلام وفقهاء الشريعة على التقليل من حالات الاختلاط، واللقاء بين الرجال والنساء، وخفضها إلى أدنى حد ممكن ضمن حالات الضرورة والحاجة.
ومع أن السيرة النبوية الشريفة لا تؤيد هذا المنحى من الحرص الشديد على الفصل بين الرجال والنساء، إلا أن هذا الاتجاه أصبح هو السائد بين علماء المسلمين وفقهائهم.
ففي المجتمع الإسلامي على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، كانت مشاركة المرأة واضحة مكثفة في المجالات المختلفة، حيث تحضر المسجد، وتخرج إلى المعارك، وتلتقي مع الرجال في الكثير من المشاهد والموارد فيما يرتبط بالشأن الديني والاجتماعي، مع الحفاظ على أحكام الستر وأجواء العفاف، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: قال أبي: قال علي عليه السلام: «كنّ النساء يصلّين مع النبي صلى الله عليه وآله وكنّ يؤمرن أن لا يرفعن رؤوسهن قبل الرجال لضيق الأزر»[14] .
وفي صحيح مسلم عن فاطمة بنت قيس: سمعت نداء المنادي، منادي رسول الله ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، فصليت مع رسول الله ، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم ...(1)
ونجد أن مناسك الحج تفرض حالة طبيعية من الاختلاط بين النساء والرجال، كما في الطواف والسعي ورمي الجمار وسائر المناسك والأعمال.
لكن اتجاه المبالغة في الحرص على العفاف وستر المرأة الذي ساد في أوساط العلماء، مستنداً إلى بعض النصوص الواردة، أنتج توجهاً متحفظاً تجاه خروج المرأة من بيتها، ومشاركتها في الحياة الاجتماعية العامة.
وبالطبع فإن البيئة التي يعيشها الفقيه، والثقافة التي يحملها، تترك أثراً على آرائه الفقهية وترجيحاته لما يراه مصلحة دينية، ولا يعني ذلك التشكيك في نزاهة الفقيه أو مصداقية استنباطه، وإنما يعني التأثير الواقعي للقناعات التي يؤمن بها على المستوى الثقافي.
لذا نجد الرأي السائد لدى الفقهاء عدم تشجيع المرأة على حضور المساجد ، وقد عبروا عن ذلك بقولهم: (الأفضل للنساء الصلاة في بيوتهن)[15] وقولهم: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد)[16] .
ويبدو من كلام السيد الطباطبائي (1161هـ - 1231هـ) في رياض المسائل أن هذا الرأي لم يكن القول به سائداً بين الفقهاء، وأن المفتين به قلة وهذا نص عبارته:
(ثم إن إطلاق العبارة (ويستحب صلاة الفريضة في المسجد) كغيرها من الفتوى والرواية يقتضي عدم الفرق في استحباب المكتوبة في المسجد بين ما لو كان المصلي رجلاً أو امرأة.
وفي الفقيه: وروي أن خير مساجد النساء البيوت، وصلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في صفّتها، وصلاتها في صفّتها أفضل من صلاتها في صحن دارها، وصلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها على سطح بيتها.
ولم أقف على مفتٍ بها من الأصحاب عدا قليل. ولكن في الذخيرة نسبها إلى الأصحاب، فقال: وأما النساء فذكر الأصحاب أن المستحب لهن أن لا يحضرن المساجد، لكون ذلك أقرب إلى الاستتار المطلوب منهن)[17] .
وقد استند الفقهاء في رأيهم هذا إلى بعض الروايات، مرجحين لها على ما هو ثابت من سيرة المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله من مشاركة النساء في الصلاة في المسجد جماعة، وإقرار الرسول لذلك، بل أجاب الشيخ النراقي على هذا التعارض بقوله:
(ولا ينافيه تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضورهن المسجد والصلاة معه جماعة لأن التقرير لا يفيد الأفضلية. مع أنه لا يعارض القول إذ لعله لإدراك فضيلة جماعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي هي أفضل الفضائل)[18] .
لكن حضور النساء صلاة الجماعة في عهده صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مقتصراً على مسجده، والصلاة خلفه، فقد جاء في صحيحة أبي بصير عن أحدهما –الباقر أو الصادق عليهما السلام- في حديث قال: «أن بني عبد الاشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلوا ركعتين إلى بيت المقدس، فقيل لهم: إن نبيكم صرف إلى الكعبة، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين، فلذلك سمي مسجدهم مسجد القبلتين»[19] .
فالرواية صريحة في حضور النساء للصلاة في المسجد بإمامة غير رسول الله ، مما يلغي احتمال الخصوصية التي أشار إليها الشيخ النراقي.
تحرير المسألة:
فضل صلاة الجماعة وثوابها لا يختص بالرجل، بل يشمل المرأة بنفس الدرجة من الثواب إذا كانت إقامة الجماعة في المكان الذي تتواجد فيه المرأة. وهذا ما لا يناقش فيه أحد من فقهاء المسلمين.
وخروج المرأة للصلاة في المسجد والمشاركة في صلاة الجماعة أمر جائز صحيح لا يعارضه أحد من الفقهاء.
لكن محل الخلاف هو في أفضلية خروج المرأة إلى المسجد على صلاتها في المنزل كما هو الحال بالنسبة للرجل، حيث قال كثير من الفقهاء بأفضلية صلاتها في المنزل، وربما عبّر بعضهم عن ذلك بكراهة صلاتها في المسجد، والكراهة هنا بمعنى قلة الثواب. وبذلك تختلف عن الرجل.
لكن فقهاء آخرين لا يرون فرقاً بين الرجل والمرأة في هذه المسألة، فكما يحضّ الإسلام الرجل على قصد المساجد للصلاة فيها، والمشاركة في صلاة الجماعة، كذلك يشمل المرأة هذا الحضّ والتشجيع، وتكون صلاتها في المسجد منفردة أو في الجماعة، أفضل من صلاتها في البيت تماماً كالرجل، مع حفاظها على سترها وعفافها.