صلاة الجماعة وقيم الإتباع والإقتداء
قضية الإتباع و الإقتداء من القضايا الهامة في المجتمعات البشرية، حيث يشعر كل إنسان بحداثة تجربته في هذه الحياة، وبمحدودية إمكانياته تجاه متطلباتها وتحدياتها، فيبحث عمن يطمئن إلى كفاءته و صلاحه ليستعين بخبرته وتجربته، وعادة ما تبرز في كل مجتمع شخصيات متميزة في قدراتها أو موقعيتها الاجتماعية، فتجتذب لها الأتباع وتأخذ في محيطها دور القدوة والزعامة.ويتعاظم هذا الدور والتأثير كلما توفرت للشخصية مقومات القيادة، وما يطلق عليه مصطلح الكرزمة.
وعلى الصعيد الديني فإن الإسلام يدعو إلى الإلتفاف حول القادة الصالحين، والاقتداء بالصادقين المخلصين.
لكن الإقتداء والإتباع إذا لم يصحبه وعي وبصيرة، قد يصبح سبباً للضياع والإنحراف على مستوى الشخص والمجتمع.
فلا بد أولاً من حسن الاختيار للقدوة، حتى لا يضل الإنسان أو ينخدع بمن لا يستحق هذا المقام.
ولا بد ثانياً من اليقظة والوعي في حال الاقتداء والإتباع، حتى لا يكون إتباعاً أعمى، واقتداءً دون معرفة وتفكير. فمن تقتدي به وتتبعه من البشر ما لم يكن معصوماً فإنه عرضة للخطأ والانحراف، كما أن بإمكانك أن تسهم في رفع مستوى أداء من تقتدي به وتتبعه، عندما تستثير عقلك، وتبذل شيئاً من طاقتك.
إن الإقتداء لا يعني تعطيل الفكر، ولا الذوبان وإلغاء الشخصية، بل يعني استفادة الإنسان من الخبرات والميزات الإيجابية لدى القدوة، كما يعني تضافر وحشد الطاقة الاجتماعية باتجاه خدمة المصلحة العليا للمجتمع.
ونقرأ في النصوص الدينية الكثير من التعاليم والتوجيهات التي تُعنى بمعالجة موضوع القيادة والاقتداء، بدءاً من تبيين صفات القادة الصادقين، والتحذير من إتباع غير الصالحين، وصولاً إلى تحديد قيم وضوابط الإتباع الواعي.
إختيار القدوة:
إن على الإنسان أن يختار قدوة على أساس المقاييس الصحيحة، وبتحكيم عقله، فقد وهب الله تعالى للإنسان عقلاً ليهتدي به، وليرجع إليه في اتخاذ مواقفه وقراراته.
واختيار القدوة هو من أهم القرارات التي لا ينبغي أن يتخذها الإنسان اعتباطاً، وبالخضوع للتأثيرات العاطفية والمحسوبيات الاجتماعية، وإنما بالاسترشاد بالعقل.
لقد سأل العالم الأديب ابن السكيت الكوفي الإمام علي الرضا : ما الحجة على الخلق اليوم؟ فأجاب الإمام : «العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه، والكاذب على الله فيكذبه»[1] .
إن كثيراً من الناس يكون سبب انحرافهم وضلالهم سيرهم خلف زعامات وجهات غير صالحة، وكما ينقل القرآن الكريم عن هؤلاء الأتباع تبريرهم يوم القيامة لانحرافهم بذلك، يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾[2] . وقد لا تكون المسألة دائماً مسألة ضلال وانحراف بالمعنى المصطلح، وإنما قد تكون مسألة تخلف وتجميد للطاقات، حين يتبع الإنسان زعامة غير فاعلة تثبّط عزيمته، وتشلّ فاعليته، وتجمّد قدراته بأفكارها السلبية.
الاقتداء بوعي:
وحين يثق الإنسان بمن إختاره قدوة له فإن عليه أن لا يُغمض عينيه ويلغي عقله، بل يكون اقتداؤه وإتباعه على بصيرة ووعي، يقول تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾[3] .
فالرسول على بصيرة من دعوته، ومن إتبعه أيضاً على بصيرة.
ذلك أن أي قائد أو قدوة لم يمنحه الله تعالى العصمة، فهو معرض للخطأ والانحراف، وهو بحاجة إلى إنضاج رأيه، وتعزيز قدراته بآراء وقدرات من حوله، مما يستلزم حركة عقولهم وتفعيل أدوارهم إلى جانبه.
إن من أهم مشاكل القيادة في المجتمعات المتخلفة، إلقاء العبء عليها وانتظار المعاجز منها مع تقاعس من حولها، كما ينقل القرآن الكريم عن منطق قوم نبي الله موسى : ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾[4] وقد تكون الهيمنة المفرطة للقيادة سبباً في جمود القاعدة ومصادرة دورها.
كما أن الأسوأ هو الاستسلام لتوجهات الزعامة دون أي تقويم أو تفكير، مما قد يوقع الإنسان والمجتمع في كوارث الأخطاء والانحرافات.
إن القرآن الكريم يذم النصارى لأنهم قلدوا زعاماتهم الدينية تقليداً أعمى، واتبعوهم إتباعا مطلقاً دون أية ضوابط من دين أو عقل، فكأنهم بذلك يؤلهونهم من دون الله. يقول تعالى: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾[5]
«قال عدي بن حاتم: قلت لرسول الله : إنا لسنا نعبدهم. قال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ قال: قلت: بلى. قال : فتلك عبادتهم»[6] .
وصلاة الجماعة باعتبارها تمثّل مظهراً من مظاهر الاجتماع الإسلامي، حيث يقف الجمع خلف إمام يؤدي بهم الصلاة، ضمن حالة من الانتظام والانضباط، فإننا نستطيع أن نقرأ في أحكام صلاة الجماعة تجليات القيم والمبادئ التي يضعها الإسلام للاقتداء الصحيح والإتباع الواعي، على المستوى الاجتماعي العام. حتى أطلق بعض الفقهاء المسلمين على إمامة الجماعة مصطلح الإمامة الصغرى.
جاء في الموسوعة الفقهية: أما الإمامة الصغرى (وهي إمامة الصلاة) فهي ارتباط صلاة المصلي بمصل آخر بشروط بيّنها الشرع. فالإمام لم يصر إماماً إلا إذا ربط المقتدي صلاته بصلاته، وهذا الارتباط هو حقيقة الإمامة، وهو غاية الاقتداء[7] .
من أحكام الائتمام:
ذكرت الكتب الفقهية تفاصيل مسائل صلاة الجماعة وأحكام الائتمام، ونذكر فيما يلي أهم تلك الأحكام:
1. لا يعتبر في الجماعة قصد القربة إلى الله تعالى بها، ويكفي أن تكون صلاته بنية التقرب إلى الله، أما أداؤه الصلاة جماعة، فيصح حتى لو كان يستهدف من ذلك غرضاً دنيوياً مباحاً مثل الفرار من الشك، أو تعب القراءة، أو تعليم الآخرين طريقة الصلاة، أو غير ذلك، فالجماعة صحيحة وتترتب عليها كل الأحكام المتعلقة بصلاة الجماعة، أما ثواب صلاة الجماعة فيكون على أساس نية القربة.
2. إختيار الإمام لصلاة الجماعة يجب أن يتم وفق ضوابط وشروط، فلا يصح الإئتمام بمن لا تتوفر فيه المواصفات المطلوبة، وتلك الشروط هي الإيمان والعقل وطهارة المولد، والرجولة إذا كان المأموم رجلاً، وتصح إمامة المرأة للمرأة، والعدالة فلا تصح الصلاة خلف الفاسق، وأن يكون الإمام صحيح القراءة، وأن لا يكون ممن جرى عليه الحدّ الشرعي.
3. لا يجوز الاقتداء بالمأموم فيشترط أن لا يكون إمامه مأموماً لغيره.
4. لا ينبغي للإنسان أن يتقدم لإمامة قوم في الصلاة إلا برضاهم، ويكره له أن يؤمهم إذا كانوا كارهين لإمامته، وإن كان جامعاً لشرائط إمامة الجماعة. فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى أن يؤم الرجل قوماً إلا بإذنهم[8] . وورد في حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «أن ممن لا يقبل الله لهم صلاة: إمام قوم يصلي بهم وهم له كارهون»[9] . وجاء في سنن الترمذي عن أنس بن مالك أنه قال:« لعن رسول الله ثلاثة: رجل أمّ قوماً وهم له كارهون...»[10] .
5. لا يشترط التطابق بين صلاة المأموم وصلاة الإمام، فيجوز إقتداء من يصلي إحدى الصلوات اليومية بمن يصلي الأخرى، وإن اختلفا بالجهر والاخفات، والأداء والقضاء، والقصر والتمام. فيجوز إقتداء مصلي المغرب بمصلي العشاء، ومصلي الظهر بمصلي العصر، والمسافر بالحاضر والعكس صحيح أيضاً.
6. لا يتحمل الإمام عن المأموم شيئاً من أفعال الصلاة وأقوالها، غير القراءة في الأوليين، إذا إئتم به فيهما فتجزيه قراءته.
7. الإمام يقود حركة أداء أعمال الصلاة، ويجب على المأموم متابعته، فلا يجوز أن يسبق الإمام أو يتقدم عليه في أي من أفعال الصلاة، أما الأقوال وأذكار الصلاة فلا تجب فيها المتابعة، فيجوز للمأموم أن يأتي بذكر الركوع أو السجود أو التشهد قبل تلفظ الإمام به، عدا تكبيرة الإحرام فلا بد أن تكون بعد الإمام.
8. إذا حصل خطأ من الإمام في الصلاة سهواً، بزيادة شيء أو نقصه، فإن، المأموم لا يتبع الإمام في خطئه. وإذا بدأ الإمام الصلاة باعتقاد دخول الوقت والمأموم لا يعتقد ذلك لا يجوز له الدخول معه في الصلاة إلا بعد أن يطمئن من دخول وقت الصلاة.
9. إذا نسي الإمام شيئاً من واجبات الصلاة نبهه المأموم ليتداركه، بأن يرفع صوته له بالتكبير أو الذكر أو بأي إشارة مناسبة، وإن لم يمكن ذلك، أو تجاوز الإمام محل التدارك، فإن كان المنسي ركناً من الصلاة، أو قراءة يتحملها الإمام عنه، انفرد المأموم بصلاته.
10. إذا علم المأموم بطلان صلاة الإمام من جهة من الجهات، ككونه على غير وضوء أو متجهاً لغير القبلة اشتباهاً منه في تحديدها، أو تاركاً لركن من الصلاة، أو نحو ذلك، لا يجوز له الاقتداء به، وإن كان الإمام معتقداً صحتها من جهة الجهل أو السهو أو نحو ذلك.
بصائر وتأملات:
هذه الأحكام الشرعية لها أدلتها التي استنبطها منها الفقهاء، وحين نتأمل في بعض مدلولات هذه الأحكام تربوياً واجتماعياً، فهو ليس من باب تحديد علل لهذه الأحكام، وإنما هو نوع من التبصّر في الاستشهاد بها كنموذج تطبيقي لقيم ومبادئ الإقتداء الواعي، والإتباع الصحيح.
ففي صلاة الجماعة لا يأتم الإنسان إلا بمن تتوفر فيه مؤهلات الإمامة، وكذلك على الإنسان أن يختار القدوة له في حياته، والقيادة الاجتماعية التي يتبعها في حركته ونشاطه، على أسس سليمة، ووفق الضوابط الصحيحة.
ووجود قدوة للإنسان لا يعني إلغاء كل خصوصيات الإنسان وذوبانه، دون مراعاة للفوارق الموضوعية التي ربما تكون موجودة بينه وبين من يقتدي به، فالاقتداء في التوجه العام لا يلغي الخصوصيات، ونحن نجد في صلاة الجماعة إمكانية الاختلاف بين الإمام والمأموم في الفريضة التي يؤديها كل منهما، فقد يصلي أحدهما الظهر والآخر العصر، وقد يصلي أحدهما قصراً بركعتين فقط والآخر يتم صلاته أربع ركعات.
والقيادة ليست بديلاً عمن تقودهم وإنما هي إدارة لنشاطهم وتوجيه لفاعليتهم، وما نجده في بعض المجتمعات من إلقاء العبء على كاهل القادة، لا ينتج إلا الضياع والتخلف، بينما المطلوب أن يقوم كل فرد بدوره في إطار المسار الذي ترسمه القيادة وتقود حركته، وفي صلاة الجماعة يقوم كل فرد بواجبه في أداء أقوال الصلاة وأفعالها عدا القراءة في الركعتين الأوليين، ولكن هذا الأداء منضبط بحركة الإمام حيث لا يجوز التقدم عليه في الأفعال.
والإقتداء والإتباع وإن كان لمن يتوفر على صفات الفضل والصلاح لكنه يجب أن يكون بفكر يقظ، وعين مفتوحة، فقد يحصل خطأ من هذا القائد، ما دام ليس معصوماً، فعليك التنبيه للخطأ، وعدم المتابعة فيه. وهذا ما تؤكده أحكام صلاة الجماعة.
إن صلاة الجماعة نموذج لمنهجية العمل الجمعي ضمن رؤية الإسلام وتوجيهاته، وتدريب على إلتزام القيم والمبادئ في مجال الإقتداء والإتباع لأي قيادة أو زعامة.