المقاومة في فلسطين ولبنان خيار الأمة
شاءت حكمة الله تعالى أن تواجه الأمة الإسلامية في انبعاثها المعاصر الغدر والعدوان الصهيوني، كما واجهت في انطلاقتها الأولى على يد رسول الله مكر اليهود وغدرهم.وكما أن المجتمع الإسلامي الأول في المدينة المنورة لم يتوفر له الاستقرار والأمن، ولم يتمكن من الانطلاق والانتشار إلا بعد إزاحة المكر اليهودي من طريقه، فإن الأمة الإسلامية في هذا العصر لن تحقق نهضتها، ولن تبني قوتها الحضارية وتستعيد مجدها إلا بعد اندحار العدوان الصهيوني وكسر شوكته.
لقد كان في محيط المدينة المنورة ثلاث قبائل نزحت إليها من اليهود هم بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة، وكانت تمتلك الثروة والقوة الاقتصادية، وفي السنة الأولى لتأسيس المجتمع الإسلامي بعد الهجرة النبوية، وضع الرسول دستورا سياسيا تنظيما لإدارة المجتمع والكيان الناشئ، عرف بصحيفة المدينة، وقد تضمنت هذه الصحيفة الاعتراف بوجود اليهود ومواطنتهم، وأنهم يتمتعون بحريتهم الدينية، وحقوقهم الإنسانية، وخصوصياتهم الاجتماعية، وأن يكونوا شركاء مع المسلمين في حربهم وسلمهم.
لكن قبائل اليهود لم تلتزم بهذه المعاهدة، بل كانوا ينتهزون الفرص لإثارة الفتن والتخريب داخل مجتمع المسلمين، بدعمهم لفئة المنافقين وتحريضهم لهم، وكانوا يتواصلون مع المشركين ويساندونهم في الحرب على المسلمين، كما تآمروا على حياة رسول الله لتصفيته واغتياله أكثر من مرة .
ولم يكن يجدي معهم أي اتفاق للصلح والسلام، ولا يلتزمون بأي معاهدة تبرم مع أي طرف من أطرافهم، كما يقول تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾[1]
وهنا لم يجد النبي خيارا إلا إزاحتهم من محيط المدينة وإخراجهم منها، لينعم المجتمع الإسلامي بالاستقرار الداخلي، ولينطلق بحمل رسالته ومشروعه الحضاري.
ودخل المسلمون مع اليهود معارك حاسمة، تم على إثرها جلاؤهم من المدينة، وكان ذلك أمرا غير متوقع في البداية، لامتلاك اليهود لثروة هائلة، وعتاد عسكري كثير، ولإنشائهم لأنفسهم حصونا منيعة تحمي مجتمعاتهم من أي هجوم.
لكن القرار الحاسم لرسول الله ، والإرادة القوية لجيش المسلمين وتضحياتهم، وبتأييد الله تعالى ونصره، تم إيقاع الهزيمة في أوساط اليهود قبيلة بعد أخرى، وأزيحوا من طريق مسيرة الأمة. يقول الله تعالى عن حادثة خروج بني النضير: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾[2]
إسرائيل لعرقلة نهضة الأمة :
إن زرع الكيان الصهيوني الغاصب في قلب الأمة الإسلامية، تم بإدارة استعمارية، ليكون هذا الكيان رأس حربة العداء ضد وجود الأمة، وعائقا لحركتها ونهضتها. وتجسدت هذه الإرادة الاستعمارية في وعد بلفور سنة 1917م، وقد رعت بريطانيا يوم كانت زعيمة العالم الغربي، إنشاء هذا الكيان، ثم تسلمت أمريكا مهمة رعاية المشروع الصهيوني وحمايته، بعد أن أخذت موقع الزعامة الغربية.
إن مشكلتنا ليست مع اليهود كيهود، فديننا يقرر حرية الأديان، واحترام حقوق الإنسان، وخصوصيات المجتمعات، وكان اليهود يعيشون بين ظهراني المسلمين بكل أمن واحترام لم يحضوا بمثله في أي مجتمع آخر.
وحينما كان الغربيون ينبذون اليهود ويحتقرونهم، كانت البلاد الإسلامية تحتضنهم وتوفر لهم أجواء الحياة الكريمة، وقد وصل عدد من شخصياتهم إلى مواقع الوزارة والمستشارية لبعض خلفاء المسلمين وحكامهم، كما برزت منهم الكفاءات العلمية، ورجال الأعمال الأثرياء، من خلال الفرص المتاحة لهم في بلاد المسلمين، وتاريخ بلاد الأندلس شاهد على ذلك.
وإلى وقت قريب كان اليهود في فلسطين وسوريا واليمن والعراق مواطنين محترمين، لكن انبثاق الحركة الصهيونية على يد تيودور هيرتزل عام 1897م، حيث انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، وحيث قرر اليهود الصهاينة السعي لإنشاء وطن قومي لليهود، وكانت أمامهم أسماء عدد من البلدان المقترحة كالأرجنتين وأوغندا وقبرص وفلسطين، فاختاروا فلسطين، وشجعهم البريطانيون على هذا الخيار، ومكنوهم من السعي لتنفيذه خلال الانتداب البريطاني على فلسطين. هذا التوجه الصهيوني لاحتلال أرض فلسطين، وتشريد أهلها، والفتك بهم، غيّر مسار علاقة المسلمين باليهود.
واستفاد اليهود من تمزيق أوصال الوطن العربي عبر معاهدة سايكس بيكو، وقيام أنظمة حكم ضعيفة متخاذلة، وبسبب التخلف العام الذي تعيشه شعوب الأمة، استطاع الصهاينة إقامة كيانهم العدواني الغاصب، وبطموحات توسيعية لا تقف عند حدود فلسطين، إنهم يريدون إخضاع الأمة والمنطقة لنفوذهم وإرادتهم، ويريد الاستكبار العالمي أن يجعل منهم عنصر إعاقة وإحباط لأي مشروع نهضوي في الأمة.
قد استولوا على أراضي أكثر من دولة عربية كمصر والأردن وسوريا ولبنان إضافة إلى اغتصابهم للأراضي الفلسطينية.
وأعربوا عن طموحاتهم التوسعية وأن حدود إسرائيل من النهر إلى البحر، ومارسوا العدوان ضد أكثر من بلد عربي وإسلامي كضربهم للمفاعل النووي في العراق، وتهديداتهم لإيران.
وتمادوا في وحشيتهم وإجرامهم تجاه الشعبين الفلسطيني واللبناني، على مرأى ومسمع من العالم.
إنهم يخططون للهيمنة على هذه المنطقة العربية الإسلامية الثرية والعريقة في تاريخها، ليكونوا هم جهة القرار والسيطرة على مصائر شعوبها وثرواتها.
لقد شغل العالم العربي والإسلامي خلال أكثر من نصف قرن بهذا العدوان الصهيوني، على حساب تنميته السياسية والاقتصادية، وعلى حساب أمنه واستقراره.
مقاومة الشعوب:
وإذا كانت الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية تجد نفسها عاجزة عن مواجهة هذا المشروع الصهيوني العدواني، فإن إرادة الشعوب الإسلامية قد انطلقت للدفاع عن عزتها وكرامتها.
وتأتي المقاومة الإسلامية في لبنان، وانتفاضة الشعب الفلسطيني، في طليعة حركة الأمة، وتصديها للمشروع الصهيوني، وقد فشلت قدرات الصهاينة وجيوشهم المدججة بالسلاح والعتاد، وإمكانياتهم الهائلة، في إيقاف حركة المقاومة اللبنانية والانتفاضة الفلسطينية.
وتحقق على يد المقاومين الشرفاء في لبنان ما عجزت عنه الجيوش العربية على ضخامتها، حيث اندحر الصهاينة أذلاء من الجنوب اللبناني، واضطروا فيما بعد للتفاوض عبر الوسطاء مع المقاومة لتبادل الأسرى.
كما استطاعت حركة حماس أن تكتسب ثقة الشعب الفلسطيني واستلمت السلطة بانتخابات نزيهة، مع تمسكها بموقف المقاومة وحقوق الشعب الفلسطيني.
فأصبحت إسرائيل تراهن على إذعان قوى المقاومة في لبنان وفلسطين لما تعتبره إسرائيل تفوقا في قوتها، يعطيها شرعية الوجود وممارسة الهيمنة.
وأعان إسرائيل ما تزعمته أمريكا من معركة الحرب على الإرهاب، وتصنيف المقاومة في فلسطين ولبنان ضمن قوى الإرهاب، كما أن الاحتلال الأمريكي للعراق أثار فتنة طائفية تعيش الأمة قلق انتشارها وتوسعها، في هذا الوقت بالذات تأتي العمليات البطولية في فلسطين ولبنان، لتذكر الرأي العام العالمي، وتنبه المجتمع الدولي، بأن مكمن الأزمات والمشاكل في الشرق الأوسط هو العدوان الصهيوني، وأنه لا استقرار في المنطقة والعالم مالم يردع العدوان الصهيوني، الذي يمثل أبشع إرهاب وعدوان في تاريخ البشر.
خيار المقاومة:
ثبت للجميع أن الكيان الصهيوني لايبحث عن السلام، وإنما يريد فرض الاستسلام على الشعوب العربية والإسلامية، بمنطق القوة، واتكاءً على الدعم الأمريكي المفتوح، وهنا لابد لنا من الاختيار بين القبول بالاستسلام والاعتراف بالعجز أمام العجرفة الصهيونية، أو رفع سلاح المقاومة والمواجهة.
وإذا كان هناك من يختار الاستسلام، ويضع له عناوين مخففة، معللا ذلك باختلال ميزان القوة، وهيمنة الإرادة الدولية، وما شابه ذلك من التبريرات، فإن المقاومين الشرفاء يرفضون هذا الخيار، ويعقدون العزم على الصمود والثبات والمواجهة والجهاد، متوكلين على الله راجين نصره.
إننا نحيي بطولات المقاومة الباسلة في لبنان وفلسطين، ونحيي صمود الشعب الفلسطيني أمام الحصار والإرهاب الصهيوني، وصمود الشعب اللبناني أمام عاصفة التدمير الهوجاء التي تشنها إسرائيل.
ونشعر بالفخر والاعتزاز لأداء المقاومة الإسلامية في لبنان بضربها المتواصل للعمق الإسرائيلي، وإثباتها لقدراتها وكفاءتها الفائقة التي فاجأت العدو، وبهرت العالم، ورفعت معنويات الشعوب. وما نسمعه من كلام تثبيطي حول المقاومة سبق أن سمعنا مثله أيام مقاومتها للاحتلال في جنوب لبنان، لكن الصدق والثبات والتضحية أنتج النصر المؤزر سابقا، وسيحققه مرة أخرى عن قريب إن شاء الله، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ﴾[3]
إن المقاومة تدافع عن شرف الأمة وكرامتها، وتسقط الهيبة والرهبة التي أحاط بها العدو نفسه باعتباره الجيش الذي لايقهر، والقوة التي لا تردع، وواجب الأمة أن تقف مع المقاومة في فلسطين ولبنان وأن تدعم صمود الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني.
إن المجازر اليومية الفظيعة التي يتعرض لها الشعبان اللبناني والفلسطيني، والحصار المفروض عليهما، وما تقوم به إسرائيل من قصف وتدمير وتخريب واستهداف للمدنيين في فلسطين ولبنان، يوضح بجلاء وحشية هذا العدو، ويظهر تواطؤ ما يسمى بالمجتمع الدولي معه، والدفاع الأمريكي الوقح عن إجرام إسرائيل وعدوانها، يكشف حقيقة زيف دعاويهم في طرح قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إنه لا يصح للعرب والمسلمين أن يتفرجوا على ما يجري ويدور، فالمعركة معركة الأمة كلها، والمقاومة هي عنوان الكرامة والشرف.
نسأل الله تعالى للشهداء الرحمة والرضوان وللجرحى الشفاء والعافية وللمجاهدين النصر والظفر.