المقاومة: إحياء إرادة الأمة
إن التعاطف مع المظلوم والدفاع عنه باعث وجداني في نفس الإنسان السويّ، فحين يرى الإنسان من يتعرّض للظلم فإنه يشعر بالتعاطف معه، بل يسعى بمقدار جهده لأن يدافع عنه، وخاصة إذا كان هذا الظلم قد وقع من قبل عدو مشترك، وإذا كان هذا المظلوم قد تعرّض للظلم لأنه يدافع عن الآخرين ويرعى مصالحهم، فهنا يكون الباعث الوجداني أكبر للتعاطف مع هذا المظلوم والدفاع عنه.ومن جهة أخرى إن غيرة الإنسان على عرضه ووطنه وقومه غريزة طبيعية أودعها الله سبحانه وتعالى في نفس الإنسان، لكي يدافع عن ذاته كفرد وكمجتمع.
وإذا ما رأينا إنسانًا فَقَدَ هذه الغيرة، بحيث ما عاد يعنيه اعتداء الآخرين عليه وعلى عرضه وقومه فيجب أن نفتّش في هذه الحالة الشاذّة، ما أسبابها؟ وما الظروف التي نشأت فيها بحيث أنتجت تبلداً في المشاعر والأحاسيس؟
إنّنا نسوق هذا الحديث بسبب ما نراه من ما يحلّ بإخواننا في لبنان وفلسطين هذه الأيام، من قتل ودمار وفتك عظيم، يطال الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، فنرى مشاهد الأشلاء الممزّقة، والبيوت المهدّمة، والقرى المدمّرة، على شاشات التلفزة كل يوم وكل ساعة، وننام على أصوات الاستغاثة والبكاء والنحيب، من الأمهات الثواكل، والأطفال المشرّدين، والمصابين، هذه المشاهد والآهات التي تمرّ على أنظارنا وأسماعنا كل يوم تفطّر قلب الإنسان ألمًا وحسرة.
والكل يعلم ويشاهد هذه الهجمة الصهيونية الشرسة على شعب لبنان وفلسطين، فيتحيّر الإنسان من الموقف الخجول والمتخاذل عند قطاع واسع ممن يتحمّلون المسؤولية في العالمين العربي والإسلامي، وكأن الأمر لا يعنيهم، وكأن هؤلاء الذين يقتلون ويقصفون وتمزّق أجسادهم، وتهدّم منازلهم، ويشرّدون من قراهم ومدنهم، كأنّهم لا يمتّون لهم بصلة، مع أن الأمر لا يستدعي أن تكون هناك أواصر قربى، فما يحصل في لبنان وفلسطين مأساة إنسانية يتفطّر لها قلب كل إنسان سويّ .
لكن ما يسود الواقع هو طغيان الحالة المصلحية الأنانية، التي تجعل البعض يفكّر في مصالحه الذاتية، ولا يعنيه ما يصيب الأمّة وأوطان المسلمين.
كما أن البعض منهم تبلّدت مشاعرهم وأحاسيسهم، من كثرة ما يرونه من مشاهد الظلم والحيف، التي أصبحت مشهدًا مألوفًا كل يوم، بل كل ساعة.
هناك معادلتان في ساحة أمتنا العربية والإسلامية: معادلة الأنظمة الحاكمة التي تتبنّى عدم مواجهة قوة إسرائيل، التي تملك إمكانات لا قِبَل للجيوش والأنظمة العربية بها، خصوصًا وهي تحظى بدعم أمريكا والمجتمع الدولي، وبالتالي عليها مسايرتها وأن لا تستفزّها، حتى لا تقوم بأي عمل من شأنه أن يفجّر الوضع في المنطقة، بحيث لا تستطيع هذه الأنظمة السيطرة على الوضع بعد ذلك.
وبهذا المنطق استكانت هذه الأنظمة وجنحت إلى ما كان يطلق عليه (عملية السلام)، وعلّقوا الآمال عليها في إرجاع الحقوق.
وبسبب هذه العملية الاستسلامية أصبحنا نرى أعلام إسرائيل ترفرف في سماء بعض العواصم العربية والإسلامية، وإسرائيل لا تزال تقتل وتقصف وتأسر في المناطق العربية.
واستكمالاً لهذه العملية حاولت بعض الأنظمة العربية إجراء علاقات تطبيع، وَسَعَوا بمختلف الطرق لإرضاء إسرائيل تحت أي ذريعة ومبرر، لعلّها تتنازل أو تترك شيئاً مما اغتصبته، ومرّت السنوات والعقود من الزمن، إلى أن أعلن النظام الرسمي العربي ـ ممثلاً في جامعة الدول العربية بلسان أمينها العام عمرو موسى ـ بأن عملية السلام قد ماتت.
وفي مقابل معادلة الأنظمة العربية هناك معادلة شعبية حيث انبرت عصبة مؤمنة أخذت على عاتقها التبشير بمعادلة جديدة، تفرض واقعًا جديدًا، يتحدد في أن القوى الشعبية في الأمة تستطيع أن توقف غطرسة وعنجهية إسرائيل والقوى الظالمة، وقد تحرّكت هذه القوى المؤمنة في لبنان وفي فلسطين.
المقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين:
وقد بدأت عمليات المقاومة أيام خضوع لبنان للاحتلال الإسرائيلي، عندما وصل إلى عمق لبنان، واحتلّ عاصمته بيروت عام 1982م، ثمّ انكفأ إلى الشريط الحدودي لجنوب لبنان عام 1985م، وظل جنوب لبنان مستباحًا للعدوان الإسرائيلي، من بوارجه ومدافعه وطيرانه الحربي، طيلة مدة الاحتلال، الذي ظلّ جاثمًا على لبنان إلى أن تحرّر منه في 25 أيّار 2000م، بفضل تضحيات وصمود المقاومة الإسلامية.التي تحرّكت دون أي دعم عربي، فالأنظمة العربية تخلت عنها، والجهات الدولية المختلفة لم تعترف بها.
ولكن المقاومين لم ينتظروا الدعم من أحد، ولم يطلبوا العون إلا من الله سبحانه وتعالى، فصمدوا وثبتوا وناضلوا وضحّوا وقدّموا الشهداء وتحمّلوا وجماهيرهم الآلام والمصائب، ونتيجة للعمليات النوعية للمقاومة اللبنانية انهزم الجيش الإسرائيلي، وانكفأ عن لبنان، وتبيّن كذب المقولة التي طالما روّجها عن نفسه بأنه جيش لا يقهر. وأثبتت هذه التجربة الناجحة للمقاومة في جنوب لبنان أن الأمة تستطيع وبإمكانيات محدودة أن تقاوم إسرائيل، فالأمة الإسلامية بما تملك من معنويات عالية، وإرادة وقدرة على الاستشهاد، تستطيع أن تتغلّب على هذا الكيان الغاصب المحتلّ.
وبسبب هذا الانتصار التاريخي الذي حققه حزب الله في الجنوب اللبناني تفجّرت الانتفاضة الفلسطينية، بقدرات بسيطة، وظروف احتلال وحصار صعبة جدًّا، وبدأت بانتفاضة الأقصى، التي توقّع الإسرائيليون أن يتمّ القضاء عليها في غضون أشهر أو سنة، ولكن التجربة اللبنانية الناجحة، وفشل سبل المفاوضات، أعطى زخمًا ودفعًا معنويًّا كبيرًا للفلسطينيين لمواصلة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
ونشأ ما يمكن اعتباره التيار المقاوم في المنطقة، عماده الأساس المقاومة في لبنان وفلسطين، وهذا التيار أوجد معادلة جديدة في المنطقة، خصوصًا أنه يملك رصيدًا شعبيًّا كبيرًا بين كافّة الجماهير العربية والإسلامية.
الأحداث الأخيرة في لبنان:
وما يحدث الآن في لبنان فصل جديد من فصول المقاومة، حيث توكّل المؤمنون من أبناء حزب الله على الله، وتحدّوا هذا الجبروت الزائف للصهاينة، ودخلوا هذه المواجهة التي أرادها الصهاينة حربًا مفتوحة.
ولو وقف العرب والمسلمون بدولهم مؤسساتهم خلف هذه المقاومة، لاستطاعت أن تحقق الكثير من الانتصارات بخسائر أقل وفي وقت أسرع، ولكننا ما عدنا نأمل في الدعم الرسمي، بل أصبحنا أقل ما نأمله منهم ألاّ يطعنوا المقاومة من الخلف، وألاّ يتآمروا مع الأعداء عليها.
وما يدعونا إلى ذلك ما نسمعه من تصريحات ومواقف واضحة ومعلنة، في تحميل المقاومة اللبنانية تبعات ما يحصل من تدمير للبنان، وهو موقف يثير الغرابة والعجب، حيث يعجب الإنسان من تفرّقنا في نصرة إخواننا اللبنانيين والفلسطينيين وهم على حق، واجتماع الغرب في الدفاع عن إسرائيل وهي على باطل في كل ما تقوم به، كما يقول الإمام علي : «فَيَا عَجَباً عَجَباً، واللهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ ويَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ».
هل يشك أحد في العالمين العربي والإسلامي في حق الفلسطينيين واللبنانيين في استرداد أرضهم وأسراهم، وفي ظلم إسرائيل واغتصابها؟ لكننا نرى تلاحمًا من أمريكا والدول المستكبرة في دعم الصهاينة، بينما نحن أصحاب الحق والمُعتدَى علينا والمقهورون من قبل الظلم والحيف الإسرائيلي نختلف هكذا إلى هذا الحدّ؟؟!
وربما يكون السبب في ذلك طغيان الحالة المصلحية، وذلك عندما يقدّم البعض الحساسيات الشخصية، والصراع على النفوذ، على قضية الأمّة الكبرى، هذا ما رأيناه في الساحة العربية، إن بعض الدول العربية تخذل الدولة الأخرى لا لشيء إلا لأنها لا تريد لهذه الدولة أن تنتصر، ففي نكسة حزيران 1967م بعض القوى السياسية تمنّت هذه الهزيمة، لأن جمال عبدالناصر لو انتصر على إسرائيل لخسرت هذه القوى كثيرًا من مواقعها، وتكرست زعامة عبدالناصر على الشعوب العربية، وهو ما لا تريده هذه القوى.
ونفس هذه الفكرة تعود في أحداث لبنان الأخيرة، حيث أن البعض فضّل عدم دعم هذه المقاومة، وإعطاء الغطاء لإسرائيل للقضاء على قوّة حزب الله في لبنان، لأنه يعتقد بأنه حزب مدعوم من قبل إيران والتي تعاظم نفوذها في المنطقة، ووجود هذا الحزب أكبر داعم لنفوذ إيران، فهم يفضلون بقاء العدوان الإسرائيلي على تقدم قوة حزب الله ونفوذ إيران.
الإيمان بالدعم الإلهي ودور المؤمنين:
إننا نؤمن بأن الإنسان المؤمن إذا قام دفاعًا عن عرضه ووطنه وأهله فإنه منتصر وإن استشهد، نحن ارتضعنا من ثقافة أبي عبد الله الحسين الذي كتب إلى بني هاشم في طريقه إلي العراق رسالة يقول فيها: «من لحق بي منكم استشهد ومن تخلّف لم يدرك الفتح».
حيث يعتبر الإمام الحسين الشهادة نصرًا وفتحاً، وهذه هي عقيدة المؤمنين من أبناء حزب الله.
وما نراه الآن ثباتاً وصموداً في الموقف وفي المعركة أذهل الأعداء الصهاينة وحيرهم، فقد تكبّدوا خسائر كبيرة في جنودهم وآلياتهم، لدرجة أن العدوّ الإسرائيلي شدّد الرقابة على ما يذاع وينقل في وسائل الإعلام من معلومات وصور حيّة للأحداث، حيث لا يريد أن تظهر خسائره أمام العالم وشعبه، ولكننا ندرك أيضًا أن الحرب سجال، وأن الله قد يبتلي عباده المؤمنين، فرسول الله على عظمته ومكانته لم يتحقق النصر له في كل المعارك، حيث استطاع المشركون في معركة أحد أن يحققوا انتصارهم على المسلمين.
كما أن أئمتنا واجهوا مثل هذه الأحداث، ونحن على ثقة واطمئنان بنصر الله تعالى لعباده المؤمنين، وها هي بشائر النصر تقترب وتتجلّى، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله.
إن علينا أن نضرع إلى الله تعالى بالدعاء دائمًا وأبدًا بالنصر والفرج للشعبين اللبناني والفلسطيني، على ما يواجهان من الآلام والمحن، فنحن نؤمن بدور الدعاء والغيب في نصرة المؤمنين.
وعلينا أن نسعى لمساعدة هؤلاء الناس المنكوبين، فهم يحتاجون إلى الدعم والمساعدة، وما نراه في وسائل الإعلام من مشاهد ترينا كيف أن بعض القرى مضت عليهم أيام لا يوجد لديهم ما يأكلونه ويقتاتون به، فنراهم عبر شاشات التلفزة وهم يستغيثون فيطلبون الماء والغذاء الذي لا يجدونه لأطفالهم وأنفسهم،.كما أن وسائل الإعلام ترينا الحالة المتردّية التي وصلوا إليها، حيث هدّمت البيوت وأزيلت القرى والمباني العامّة،.ولذلك على كل إنسان أن يفكّر في كيفية تقديم دعمه المادّي لهذه الحالات الإنسانية.
وعلينا أن لا ندّخر جهدًا أو مالاً في هذا المجال، فنحن نريد أن نستغلّ هذه الحادثة لتكون مناسبة لخلق حِسٍّ وشعورٍ عامٍّ بالتضحية في مجتمعنا، بحيث ينمو ذلك الإنسان المضحّي والمبادر والباذل للخير في المجتمع، لتشكّل حالة وظاهرة فيه، وهذا أقلّ ما يمكن تقديمه لهؤلاء المضحين والباذلين أغلى ما عندهم في لبنان وفلسطين دفاعاً عن شرف الأمة وكرامتها.
المشاركة في صنع الرأي العام:
بسبب تطور وسائل الاتصال يمكننا أن نشارك في صناعة رأي عام عالمي لنصرة هؤلاء المنكوبين والمجاهدين، فالوسائل الآن متاحة، الصحافة والقنوات الفضائية وشبكة الإنترنت متوفّرة، وكذلك المؤسسات الدولية يجب أن نمطرها بوابل من الرسائل والمقالات والكتابات، فذلك أمر مؤثر على مستوى صنع الرأي العام العالمي والقرار الدولي.
ينبغي على كل إنسان أن يرفع صوته إلى جانب الدفاع عن الحقوق العربية المشروعة في لبنان وفلسطين.
وبخصوص ما يحلّ الآن بلبنان أودّ الإشارة إلى ما تحاول بعض الأطراف أن تجرّ المعركة إليه بإثارة الحساسيات الطائفية، ولذا أدعو كل واعٍ في هذه الأمّة ألاّ يستدرج إلى هذه اللغة وهذا المنطق، فالمقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين يشتركان في حربهما ومسعاهما ضدّ عدوّ واحد، يظلم الجميع، ويعتدي على الجميع، وإذا كان هناك بعض الجاهلين والحاقدين ومرضى النفوس ممن يتحدّثون بهذه اللغة الطائفية المقيتة فعلينا ألاّ نستجيب لهم.
ومما يؤسف له ما رأيناه من ردّات فعل تجاه بعض الفتاوى السخيفة، فيقوم البعض بالردّ عليها بالمثل، وهذا لا يخدم المصالح المشتركة، بل علينا أن ندعو إلى ما يوحّدنا، وأن نوضّح منطقنا بشكل سليم دون أن ندخل في أي سجالات غير ذات جدوى.
نسأل الله تعالى أن يعجّل بالنصر لعباده الصالحين المجاهدين وأن يخذل الصهاينة المعتدين ومن خلفهم من المستكبرين الظالمين والحمد لله رب العالمين.