الكيانات الدينية والاحترام المتبادل
الحمد الله رب العالمين .. صلى الله عليك يا رسول الله وعلى آل بيتك الطاهرين المعصومين، صلى الله عليك يا مولانا يا سيد الشهداء ورمز التضحية والفداء يا أبا عبدالله الحسين، وعلى أنصارك المجاهدين بين يديك ياليتنا نهتدي بهداكم ونسير على دربكم فنفوز والله فوزا عظيما…
قال الله العظيم في كتابه الحكيم: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ ﴾ (البقرة، 145).
حديثنا هذه الليلة إن شاء الله تحت عنوان : الكيانات الدينية والاحترام المتبادل
ويشتمل على ثلاثة محاور:
المحور الأول : ظاهرة استمرار الكيانات الدينية .
المحور الثاني : العلاقة بين أتباع الكيانات الدينية .
المحور الثالث : إقرار الحريات الدينية .
حفل تاريخ البشرية بالكثير من الأديان والأفكار والمدارس، ولكن هذه الأديان لم تتحول كلها إلى كيانات اجتماعية، بعض الديانات والأفكار بقيت في حالة النظرية ولم تتح لها الفرصة أن تتحول إلى وجود وقوة اجتماعية لأسباب وعوامل مختلفة، وهناك بعض الأديان وبعض المبادئ والأفكار استطاعت أن تتحول إلى قوة وكيان اجتماعي، هذه الأديان والأفكار التي تحولت إلى كيان اجتماعي غالباً ما تستمر إلى فترة طويلة من تاريخ البشرية.
نحن نلحظ الآن أن عددا من المبادئ والأفكار والأديان، موجود في عالم البشر منذ آلاف السنين، فلو أخذنا مثلا الديانة اليهودية، حسب تقدير بعض المؤرخين أن ولادة نبي الله موسى كان في حوالي 1500 قبل الميلاد، فإذا أضفنا لها 2000 سنة ميلادية تكون النتيجة ما يقارب 3500 سنة، هذه الديانة موجودة ومتوارثة وهناك وجود وكيان اجتماعي يعبر عنها .
ولو تحولنا إلى المسيحية نجد أنها منذ حوالي 2000 سنة وهي موجودة. والديانة البوذية كذلك موجودة قبل الميلاد بقرون وهي لا تزال موجودة، والإسلام أيضاً، نحن الآن في القرن الخامس عشر من انتشار نور الإسلام وهو موجود قائم تتسع رقعته ويزداد أتباعه، هذا من ناحية الأديان، أما بالنسبة للمذاهب فهي موجودة مستمرة أيضاً، مثلا بالنسبة لنا نحن المسلمين هناك بعض المذاهب كانت موجودة ولكنها لم تتحول إلى كيان اجتماعي، أئمة كثيرون يتحدث عنهم في تاريخ إخواننا أهل السنة مثل داوود الظاهري ، سفيان الثوري ، محمد بن القاسم ...الخ، كانوا فقهاء وفي وقتهم كانت لهم مكانة علمية ،كانوا يعتبرون أصحاب مدارس فكرية، لكن لم يحالفهم الحظ كي يتحولوا إلى كيانات اجتماعية ، بعض المذاهب تحولت إلى كيانات اجتماعية كالمذاهب الأربعة.
وفي مذهب أهل البيت ، هناك مذاهب انشقت منه كالزيدية والإسماعيلية وبقيت إلى يومنا ، ونحن هنا لا نناقش الأسباب والعوامل بل نتحدث عن النتيجة ، و هناك مذاهب انقرضت لم تتحول إلى كيان مستمر مثل الخوارج ، و استمرار أي كيان لاربط له بالحق والباطل ، لم يستمر لأنه حق وصواب ، هناك عوامل أخرى لها ربط باستمراره: منها التوارث ، حيث يرث كل جيل مبدأ الجيل السابق. ومنها العصبية التي تنشأ داخل كل تجمع يتمحور حول جيل أو فكرة أو مذهب، بالتالي هذا المذهب تحصل فيه مراكز قوى، زعامات من شأنها أن تعمل على استمرار هذا الكيان، بالطبع لا يعني ذلك أن كل أصحاب الكيانات يتبعونها لسبب مصلحي، الأغلبية إنما يتبعون هذه الكيانات لقناعة ، وقد تكون صائبة أو خاطئة ، ولكن قسمًا من الناس يتبعونه لأسباب مصلحية .
نذكر هذه الطريفة: في اليمن يتبع الكثيرون المذهب الزيدي وأتباع المذهب الزيدي مثل الإمامية يقولون في أذانهم حي على خير العمل ، يوم من الأيام دخل جماعة من المتأثرين بالتوجهات المخالفة للمذهب الزيدي على المؤذن وحاولوا أن يختبروه، لماذا تقول حي على خير العمل في الأذان ؟ لماذا لا تترك ذلك؟!!
عرف أن هؤلاء لا ينطلقون في كلامهم من قناعة، وإنما هم أصحاب مصلحة، تبسم و قال لهم : لو أنني أُعطى المبالغ التي أُعطيتم إياها لتركت (حي على الصلاة) وليس (حي على خير العمل ) فقط .
البعض يتبع بعض التوجهات بسبب مصالح، ولكن الكثيرين تكون عندهم قناعة أو انشدادات عاطفية أو نتيجة رفقة اجتماعية .
البعض يراهن على أن ظهور دعوى حقة وصحيحة كفيل بإذابة الدعوات الأخرى! القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة الله تعالى يخاطب نبيه محمد : ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ﴾.
المسألة ليست مسألة براهين وأدلة حتى لو جئت لهم بأقوى الأدلة والبراهين ، فإن هناك عوامل أخرى، قد يكون الحديث خاص حول القبلة على اعتبار أن المسلمين كانوا يصلون تجاه بيت المقدس ثم أُمروا أن يتجهوا نحو مكة المكرمة ، فاحتج اليهود والنصارى على ذلك ، وقد يكون المراد من ذلك (الديانة) كما يشير بعض المفسرين ومن بينهم الشيخ الطبرسي في كتابه مجمع البيان .
لاشك أن المسألة مسألة إظهار الحق، ﴿ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ﴾، حتى هم فيما بينهم هناك اختلافات ، حتى اليهود يوجد بينهم طوائف ولا يستطيعوا أن يلغوها، هي موجودة في داخلهم ﴿ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ﴾. إذن الكيانات الدينية ظاهرة مستمرة ، ولا تستطيع ديانة أن تراهن على القضاء على الديانة الأخرى، لأن الناس يدافعون عن دياناتهم .
عندما انتهى الإمام علي من قتال الخوارج في معركة النهروان جاء له أصحابه فرحين قائلين: يا أمير المؤمنين انتهى الخوارج!! فقال : والله ما انتهوا ، والله إنهم لفي أصلاب الرجال و أرحام النساء كلما نفذ منهم قرن قطع .
إذن الكيانات مستمرة في التاريخ، فما هو الحل مادامت الكيانات الدينية موجودة ؟!
قرأت قبل أيام في جريدة الشرق الأوسط عن الصوفية في مصر ، تقول: إن أتباع التصوّف في مصر 9 مليون وعندهم 76 طريقة صوفية لا يلغي بعضها الآخر حتى لو حاول بعض منهم أن يلغي البعض الآخر ، لا يتمكن ، من الممكن أن يؤثر على بعض الأفراد .. جماعة من المسيحيين يتحولون إلى الإسلام أو جماعة من الإسلام يتحولون إلى المسيحية أو جماعة من السنة ينتقلوا إلى التشيع أو جماعة من الشيعة يصيروا سنة هذا ، مجاميع قليلة، لكن الكيان يبقى موجود ومستمر .
كل إنسان يعتنق مذهباً يعتقد أن مذهبه هو الأفضل، كل الناس هكذا بل ويريد الغلبة لدينه ومذهبه ويسعى بهذا الاتجاه، ولكن مادام الناس يعيشون على الكرة الأرضية ومادامت مصالح البشر متداخلة فلابد من التفكير في تنظيم العلاقة بين أتباع هذه الديانات وأتباع هذه المذاهب هناك لون من ألوان العلاقة هو غلبة جهة على جهة ، أتباع جيل يحيطون على أتباع جيل آخر وأتباع مذهب يدورون على أتباع مذهب آخر. هذه طريقة غير عادلة ، مخالفة للشرع وللعقل ولاتصل إلى نتيجة ، لأن الله تعالى لا يقبل بالظلم . الافتراء والتغالب بين الفئات طريقة خاطئة، مصالح الناس متداخلة فلابد وأن يتعايشوا ولهذا يقول الإمام محمد بن علي الباقر : (( صلاح أمر الناس التعايش)) كل واحد حسب قناعته حسب دينه، القرآن الكريم منذ اليوم الأول في مكة الله تعالى يأمر نبيه بأن يخاطب المشركين : ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ (الكافرون، 6)، مع أنهم مشركون يعبدون الأصنام لكنه يخاطبهم ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ ﴾ لكم قناعتكم وأنا لي قناعتي .
لابد وأن ينتظم العلاقة بين أتباع الديانات أمران :
الأمر الأول : الاحترام المتبادل.
أنت دين موجود بقية الأديان الأخرى موجودة، أنت مذهب موجود كل المذاهب الأخرى موجودة، بعض الناس تصبح عندهم حالة مكابرة : أنا لا أعترف بهذه الموجودات الأخرى .. هذا الدين لا أعترف به!! بأي معنى ؟ باعتبار الحق والباطل صحيح ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ﴾ (آل عمران 19)، ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ (آل عمران 85). هذا عند الله سبحانه وتعالى، لكن في الدنيا وعلى صعيد التعامل الاجتماعي أنت يجب أن تعترف بوجود الأديان الأخرى موجودة بالفعل لها توجيهاتها ولها أبحاثها ولذلك القرآن الكريم يسجل الاعتراف بالديانات التي كانت موجودة الله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ (الحج، 17). يأتون ليوم الفصل والحسم ، لا يحق لفئة تأتي وتحسم الأمر حتى تنفي وجود الفئة الأخرى، هذا ليس صحيحاً ، إن الله يفصل بين الناس، وكذلك على مستوى المذاهب، أنت مذهب موجود كذلك بقية المذاهب موجودة أنت مدرسة موجودة كذلك بقية المدارس موجودة، هذا تفكير متخلف تفكير غير واقعي. الجهة التي تحاول أن تنهي الجهات الأخرى توقع نفسها في مكابرة غير واقعية.
في الشعوب المتخلفة كل جهة لا تريد أن تعترف بالجهات الأخرى ، وإذا لم تعترف!! هذا هو الواقع كل جهة موجودة، إذا لم تعترف أنت مكابر .. هذه مكابرة ولذلك ينبغي أن يكون هناك احترام متبادل .الحسم في القضايا الدينية يوم القيامة، أما في الدنيا لابد أن يكون هناك احترام متبادل.
آية أخرى في القرآن الكريم الله تعالى يقول: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ (المائدة،84).
ينبغي أن نتأمل ونتفكر في هذه المضامين، مع الأسف لو أننا بمقدار ما قرأنا وتأملنا في آيات الوضوء والتيمم والأحاديث الشرعية والفقهية ـ الكسرة والفتحة في هذه الآية الكريمة وأرجلكم أو وأرجلكم وحول التيمم وحول هذه المسائل ـ صرفنا جهدا في التأمل حول موضوع التعامل مع الرأي الآخر لكان وضعنا أفضل من الوضع الذي نعيش فيه، هناك أدلة واضحة في القرآن الكريم: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾، الشرعة الطريقة العملية، ومن هذا: الطريق الفكري، المذهب الفكري، التوجهات الفكرية. ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾، الله تعالى يريد أن يقدم ذلك على أساس ابتلاء وامتحان، والإنسان في الابتلاء والامتحان له حريته واختياره ، هو يتحمل مسؤولية اختياره، ولكن ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ . يقول تعالى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾، لنكن في الطريق الإيجابي، كل دين أو مذهب يقدم العطاء الأفضل للمجتمع، رأيه الأفضل في المسألة، ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾، يوم القيامة هناك تتبين الحقائق أما الآن في الدنيا لا تكون الحرية متاحة للجميع كي يلغي أحداً من جميع الاتجاهات والمذاهب والديانات، هذه هي توجيهات القرآن الكريم. ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة ويقول الله تعالى مخاطبا نبيه ﴿ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾، بالإكراه يكونون مؤمنين !! لا يمكن .. الله تعالى خلقهم أحراراً وأعطاهم حرية الاختيار في هذه الدنيا .. أنت صحيح أفضل الأنبياء وأفضل الرسل وعندك آخر الرسالات وأفضل الكتب لكن كل ذلك لا يخولك أن تصادر حرية الناس أو تفرض على الناس ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ﴾.
إذا كان الله تعالى يخاطب نبيه بهذا الأسلوب، فهل يحق لي أنا وأنت وبقية الناس أن نفرض آرائنا ومعتقداتنا وأدياننا على الآخرين، هذا الكلام غير طبيعي إذن لابد أن يكون هناك اعتراف متبادل وهذا ما سار عليه الأنبياء وهذا ما سار عليه الأئمة . مسلم بن معاذ الهروي يقول للإمام الصادق : سيدي يأتيني الرجل يسألني فأعرفه على مذهبكم فأجيبه برأيكم، ويأتيني من أعرفه على مذهب غيركم فأجيبه على رأي غيركم، ويأتيني من لا أعرف مذهبه فأطرح رأيكم مع بقية الآراء، الإمام يقول أحسنت هكذا أنا أفعل ، مع أن الإمام المعصوم يعلم أن رأيه هو الحق قطعا ، يعلم أن رأيه هو رأي الله تعالى ولكن مع ذلك لا يفرض رأيه على الآخرين.
القصة المذكورة عن أبي حنيفة حينما جاء به أبي جعفر المنصور يمتحن الإمام الصادق يقول: فطرحت عليه 40 مسألة من المسائل الصعبة المهمة كل مسألة يقول أنتم تقولون كذا ونحن نقول كذا وأهل الحجاز يقولون كذا وأهل العراق يقولون كذا .الاعتراف هنا بمعنى الاعتراف بالأمر الواقعي، وليست قضية الخطأ والصواب.
الأمر الثاني: الاحترام المتبادل.
لابد لأتباع أي دين أن يحترموا أتباع الدين الآخر، وكذلك أتباع أي مذهب أن يحترموا أتباع المذهب الآخر، لماذا؟ لأن كل جهة تريد من الآخرين أن يحترموها. أنا باعتباري مسلم هل أقبل أن يهينني اليهود والنصارى؟! لا أقبل .. إذا كنت لا أقبل إهانة لنفسي من قبل الأديان الأخرى، فينبغي ألا أهين الآخرين .
أنا إنسان شيعي، متبع مذهب أهل البيت عليهم الصلاة والسلام لا أقبل أن يهينني أتباع المذاهب الأخرى، إذن لا ينبغي أن أسيء إليهم، وهكذا بالنسبة للآخرين. يقول أمير المؤمنين : ((عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به)). فبما أن كل إنسان يريد أن يحترم اختياره فينبغي أن يحترم اختيار الآخرين، هذا هو الصحيح المعقول. ولذلك ينبغي أن تكون العلاقة بين أتباع الديانات علاقة احترام وليست علاقة إساءة، ليس فيها اعتداء على الحقوق، لا يصح للمسلم أن يعتدي على حقوق غير المسلمين، إلا إذا كانوا محاربين، المحارب المعتدي ﴿ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ (البقرة، 194)، سواء كان كافراً أو مسلماً.
أما إذا كان غير مسلم و لا يعتدي على المسلم فهل يجوز على المسلم أن يعتدي على غيره، ﴿ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ (المائدة، 87)، هذه آية عامة ، وهناك آية صريحة في القرآن: ﴿ لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ (الممتحنة، 8)، البر هذا المفهوم الخاص بالوالدين، يذكره القرآن الكريم في سياق التعامل مع المخالفين حتى لو كانوا كفاراً، استخدموا البر: ﴿ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾، فلابد أن يكون هناك احترام متبادل أهل هذا الدين يحترمون أهل المذهب الآخر أهل هذا الدين يحترمون أهل الدين الآخر أهل كل مدرسة أهل كل فكرة ، يكون هناك احترام متبادل النظام الاجتماعي بين الناس يكون هو الاحترام المتبادل .
الرواية تقول، وهي موجودة في أحد كتب الشيعة، وموجودة أيضا في صحيح البخاري: كان رسول الله جالساً فمرت جنازة فقام رسول الله ، فقال له من معه من الجالسين من الأصحاب : يا رسول الله إنها جنازة يهودي! قال : إذا رأيتم جنازة فقوموا. وفي نص آخر قال : أليست نفسًا؟! احترام لإنسانيته، أليست نفسًا؟! مع أنها جنازة يهودي، إلا أن رسول الله يقوم لها .
وكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يخاطب مالك الأشتر: وأشعر قلبك الرحمة برعيتك واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)). حتى لو لم يكن أخ لك في الدين فهو إنسان، إنسانيته تفرض عليك أن تحترمه ، والله تعالى يقول: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ (الإسراء، 70)، كل البشر بغض النظر عن أديانهم، والمفسرين يقولون هذا تكريم أولي للإنسان بما هو إنسان، فإذا كان مؤمناً أضيفت له مرتبة ثانية في التكريم. إذن ينبغي أن يكون هناك احترام متبادل.
فإذا كان دينه دين آخر لا يعني ذلك أن أعتدي على حقوقه، وإذا كان مذهبه مذهب آخر لا يعني ذلك أن أعتدي على حقوقه. ذات مرة كان الإمام جعفر الصادق في مجلس مع مجموعة من أصحابه وتلامذته، فذكر شخص مجوسي، فقال أحد الأصحاب: ذاك ابن الفاعلة! فغضب الإمام وقال: لماذا تقول ذاك ابن الفاعلة؟ قال: يا ابن رسول الله هذا مجوسي، والمجوس يستحلون نكاح المحارم، فأنا لم أخطئ؛ فغضب الإمام وقال له: ألم تعلم أن ذلك في دينهم النكاح. فبما أن دينهم يجوز لهم ذلك، فالقاعدة: (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم)، ولم يرض الإمام منه أن يسب المجوسي.
هذه هي آداب الإسلام، هذه هي أخلاق الإسلام، يأمر بالاحترام المتبادل، واختلاف الدين أو المذهب أو المدرسة الفكرية أو الحزب و التوجه، لا يعني الإساءة للطرف الآخر أو الاعتداء على حقوقه وإهانته.
ونحن إذا قرأنا هذه التعاليم الدينية، ونظرنا إلى واقعنا الإسلامي يتضح لنا سبب تخلفنا. إذ نرى كيف يتعامل الشيعي مع السني، وكيف يتعامل السني مع الشيعي. وأيضاً داخل المذهب الواحد: كيف يتعامل أصحاب هذه الجماعة مع أصحاب الجماعة الأخرى، وأصحاب هذه المدرسة مع أصحاب المدرسة الأخرى!!! فلا يُسلم كل طرفٍ على الآخر، بل ويصل المقام إلى إسقاط حقوق الآخرين، واستغابتهم، وهذا لا يجوز لأنه إنسان مسلم له حقوقه في ماله ووطنه وعرضه كيف يجوز لك أن تتكلم عن الآخرين ؟!! لا لشيء بل لأنهم يختلفون معك في التوجه؟! وهذا مخالف للدين.
كل دين، كل مذهب، عنده أحكام وآراء وممارسات: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾، فينبغي إقرار الحريات الدينية، لا يصح لأتباع أي دين أن يحظروا على أتباع دين آخر شعائرهم و ممارساتهم الدينية، لا يحق للمسلمين أن يمنعوا اليهود أو النصارى من ممارسة شعائر دينهم.
رسول الله في رسائله مثل رسالته إلى أسقف نجران، كتب إليه: من محمدٍ رسول الله إلى أبي الحارث أسقف نجران ومن معه من الساقفة والكهنة والرهبان، أما بعد .. فإن لكم ما تحت أيديكم من قليلٍ أو كثير من صوامعكم
وصلواتكم وبيعكم؛ لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا كاهن من كهانته، ولا راهب عن رهبانيته.
لكم كل ما تحت أيديكم وما أنتم عليه من الحقوق، لا يغير من شي ذلك أبدا، وضمن لهم الرسول حريتهم الكاملة: على ديانتهم وشعائرهم، مع أن النبي يعرف أن هذا باطل، لأن الدين عند الله الإسلام، لكن هم يريدون أن يسلكوا طريق الباطل، فهم أحرار، هم يتحملون المسؤولية أما الله تعالى. أما في الدنيا حريتهم الدينية.
ولو قرأت في كتب التاريخ، وعلى سبيل المثال: كتاب (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) للباحث الألماني (آدم مييز، ت: 1917م) والكتاب مترجم للعربية، يتحدث في هذا الكتاب عن الحريات التي عاشها اليهود، وعاشها النصارى، وعاشها المجوس في البلاد الإسلامية، إذ كانت لهم معابدهم المنتشرة، وكانت لهم شعائرهم، بل كان حكام المسلمين يحمون شعائرهم ولا يرضون من أحد أن يعتدي عليهم وبرامجهم. وينقل أنه في عهد المعتصم العباسي جُلد إمام ومؤذن لأنهما شاركا في هدم معبد من معابد المجوس لإقامة مسجدٍ مكانه.
ورأينا أخيراً في العراق حينما حصلت حوادث بسيطة: أن بعض المتحمسين من الشيعة ذهبوا إلى بعض مساجد أهل السنة، ورأينا كيف أن المرجعية الدينية المتمثلة في سماحة السيد السيستاني –حفظه الله- أصدر بياناً منع وحظر فيه الاعتداء على أي مسجد من مساجد أهل السنة، وأن المساجد التي أخذت ينبغي أن تعاد وأن يؤتى بإمام المسجد مكرماً إلى مسجده.
وهذه هي تعاليم الإسلام، التي تؤكد أن العلاقة بين الأديان والمذاهب ينبغي أن تكون قائمة على أساس الحرية. وهنا نذكر هذه الحادثة بين أبو جعفر المنصور والإمام مالك (إمام المذهب المالكي)، فحين انتهى الإمام مالك من كتابة الموطأ أراد أبو جعفر المنصور أن يفرضه على المسلمين إذ أنه قال له: لو كتبت كتاباً وأبنت فيه أحكام الشرع نجعل نسخةً منه في الكعبة، ونعممه على بلاد المسلمين فيعملون به، فرفض الإمام مالك، وقال: في أمصار المسلمين فقهاء وعلماء وأئمة، ولكل فقيهٍ رأيه، ولا يصح أن يفرض رأيٌ على بقية المسلمين. وهذا موقفٌ صحيح وسليم.
هكذا كان علماء المسلمين وفقهاؤهم يفهمون ويدركون مفاهيم الإسلام في إقرار الحرية الدينية، أن أتباع كل مذهب أحرار في ممارساتهم الدينية، وهذا هو الاتجاه العقلي والشرعي الصحيح. ولكن من المؤسف، إذ أن من مظاهر التخلف والانحراف التي حصلت عند المسلمين، وجود جورٍ على هذا المبدأ، وانحرفٌ عنه، ليس على بقية أتباع الأديان الأخرى، بل بين المسلمين مع بعضهم البعض.
فحينما تكون هناك سيطرة لأتباع مذهب من المذاهب، أو مدرسة من المدارس، فإنهم يُصادرون حريات أتباع المذاهب الأخرى، وأتباع المدارس الأخرى، يريدون أن يفرضوا رأيهم على الآخرين، وهذا خلاف ما قرره الله. الله تعالى لم يسمح لأنبيائه أن يفرضوا رسالته وشريعته على بقية الناس، كيف يحق لك كمذهبٍ أو مدرسة أو رأي أو مرجع أو فقيه أن تفرض رأيك على بقية الناس، وهذا خلاف منهج القرآن الحكيم، وخلاف مفاهيم الإسلام السمحاء.
ومن المؤسف أيضاً، أن تبقى الحالة المذهبية الطائفية في بلاد المسلمين بؤرة من بؤر التشنج في العلاقات بين أبناء الأمة الإسلامية، وذلك بسبب حالات الفرض.
والأسوأ من ذلك أنك تجد في بعض البلاد الإسلامية هناك شيعة ينتمون إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فيمنعون من بناء المساجد. سبحان الله! يُمنعون من بناء مسجدٍ يعبدون الله فيه!! في أي شريعة هذا أو أي كتاب أو قرآن أو أي مبدأ، وبأي عقل. يحتاجون إلى نضال وجهاد محاولات وإقناع حتى يُسمح لهم أن يبنوا مساجد. وإذا سُمح لهم هناك قيود وشروط وضوابط وتعهدات. أ ليس هذا مظهراً من مظاهر التخلف؟ هل هذه أمة هي خير أمةٍ أخرت للناس؟ تتعامل مع بعضها البعض بهذه الطريقة. وأيضاً بناء الحسينيات، وهي مكان اجتماعي ثقافي ديني يجتمعون فيها الشيعة ويذكرون سيرة أئمتهم (عليهم السلام)، ويستمعون فيها للتوعية والإرشاد، ويحيون فيها مناسباتهم الاجتماعية. فلماذا يُمنع بناء الحسينيات؟ هل هو مكان لصناعة الخمور حتى يمنع؟ هل هو مكان لعبادة الأوثان حلى يُمنع؟ هل هو مكان لصناعة المتفجرات حتى يُمنع؟ هذا تخلف، وهو انحراف عن مبادئ الإسلام.
علينا أن نخجل، وننظر في أي عصرٍ نحن نعيش. أ ليس من العيب أن المسلم في بلاد الكفار يمارس حريته الدينية والفكرية والثقافية فإذا جاء إلى بلاده قُمع وكبت وضيق عليه الخناق، فتجد في الدول الغربية يذهب المسلمون السنة والشيعة والزيدية والإسماعيلية والأباظية وكل الديانات، يطلبون بناء مسجد، لا يُمنعون من ذلك؛ يطلبون بناء حسينية، يُصرّح لهم بعشر بدل الواحدة، يطلبون بناء حوزة، أيضاً مصرّح لهم؛ لا أحد يقول لك لا؟
وبعد هذا نقول: لماذا أمريكا يستغلوننا ويطرحون شعارات الديمقراطية ويطرحون شعارات حقوق الإنسان، إن ذلك لم يكن لو لم نهيئ لهم الجو، ولو لم يُقمع الإنسان في بلاد المسلمين، ولم تُصادر حقوقه، فيأتي الغرب ويجد الأجواء مهيئةً لهم نتيجة السياسات الطائفية المستبدة التي تعيشها البلاد الإسلامية.
هذا أمرٌ خاطئ، ينبغي أن يكون هناك التزامٌ بمنطق الشرع، ومنطق العقل، لم يعد مقبولاً، لا في الماضي والآن أعظم، أن تقمع حريات الناس الدينية، وأن يحتاج الناس إلى نضال حتى يبنون مسجداً أو حسينية؛ أو حتى تتوفر كتبهم الدينية. بالله عليك هل نحن نعيش في هذا العصر؟ هل هذا نموذج نقدمه للإسلام أمام العالم؟ أ ليس من حق العالم أن يتهمنا بالإرهاب؟ أ ليس من حق العالم أن يتهمنا بالقمع، وبمصادرة حقوق الإنسان؟ إذ يرون مثل هذه النماذج، ومثل هذه السياسيات. نحن المسلمون في أعماقنا نقول إنه من حق الآخرين أن يقولوا ذلك، لأن هذه سياسات إرهابية: إرهاب ديني، فكري، طائفي. فلماذا نعطي الفرصة للأعداء؟ لماذا نترك شعوبنا ومجتمعاتنا فريسة لدعايات الأعداء؟ نحن ندرك أن الأمريكيين والأوربيين ليسوا مخلصين في شعاراتهم، ولهم مصالحهم. لكننا أعطيناهم الفرصة ليكون لشعاراتهم مصداقية، لا أقل عند البعض من الناس.
وننتهي ببحثنا إلى هذه النتيجة: الكيانات الدينية مستمرة، ولا يُمكن المراهنة على إلغاء هذا الكيان أو هذا الدين ا, هذا المذهب، مهما كانت لديك حجج وآراء؛ فلابد وأن تكون العلاقة بين أتباع الكيانات الدينية كأديان أو مذاهب أو مدارس علاقة إيجابية؛ نعم من حق كل إنسان أن يتحدث عن قناعاته، أنا أؤمن بأن ديني أو مذهبي هو الصحيح وهذه أدلتي وبراهيني، ولكن من دون الإساءة إلى الطرف الآخر. الله تعالى يقول: ﴿ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ (العنكبوت، 46).
ومن حق صاحب كل دينٍ أو مذهب أن يبشر بعقيدته، ولكن من دون الإساءة للآخرين، ﴿ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾. متبعين بذلك المنهج الذي أراده الله تعالى، إذ أنه تعالى ينهى المسلمين أن يسبوا أصنام الكفار: ﴿ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (الأنعام، 108)، فكما أنه لديك مقدسات فإن للآخرين أيضاً مقدسات، وكما أنك لا تقبل الاعتداء على مقدساتك، فلا تعتدي على مقدسات الآخرين، يقول أمير المؤمنين : ((عامل الناس بما تحب أن يُعاملوك به)).
فينبغي علينا أيها الأخوة أن نتجاوز المزايدات والانفعالات والحالات العاطفية، ينبغي أن نحترم بعضاً البعض. في السيرة النبوية لما أسلم عكرمة بن أبي جهل، وأبو جهل معرفٌ عنه عداءه للإسلام والمسلمين، ولكن النبي التفت إلى أصحابه قائلاً لهم: سيأتيكم عكرمة مسلماً ألا لا تسبوا أباه فإن السب يؤذي الحي.