الزنا وتحريم التزاوج
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
الغريزة الجنسية من أهم وأخطر الغرائز في حياة الإنسان، وهي تستيقظ عنده في نهاية العقد الأول من عمره، ثم تتبلور شيئاً فشيئاً حتى تصبح لها سيطرة كبيرة على شخصيته وتوجيه سلوكه، وامتحان الإنسان الحقيقي هو في قدرته على ضبط هذه الغريزة، حتى لا تنزلق به نحو الحرام والفساد.
وتلعب الأجواء العامة التي يعيش فيها الإنسان دوراً كبيراً في مساعدته على ضبط شهواته، إذا كانت أجواء تسودها العفة والاحتشام، أو دفعه باتجاه الانجراف والانحراف، حينما تتوفر الإثارات ودواعي تحريض الشهوات.
وهذا ما يعاني منه إنسان هذا العصر، وخاصة الشباب من الفتيان والفتيات، حيث تتفنن وسائل الإعلام في عرض المشاهد والأفلام المثيرة، وحيث يقّل الالتزام بالضوابط الشرعية في الانفتاح والعلاقة بين الجنسين الذكور والإناث.
مما يوقع الكثيرين في مستنقعات الفواحش، ومزالق الانحراف، وخاصة في فترة المراهقة.
ومن لطف الله تعالى ورحمته بعباده أن فتح لهم أبواب التوبة، ودعاهم إلى الإنابة إليه، حتى لا يبقى المذنب العاصي فريسة دائمة لتضليل الشيطان، ولا يستمر في الانقياد للأهواء والشهوات، بل رغّب سبحانه عباده في التوبة والإقلاع عن المعصية، ووعدهم بعفوه ومغفرته مهما كان حجم ذنوبهم ومعاصيهم، يقول تعالى: ﴿ قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [1] .
ويقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [2] .
وفي مجال بحثنا إذا حصلت علاقة جنسية غير مشروعة بين رجل وامرأة (زنا)، ثم أرادا تكوين علاقة شرعية بعقد نكاح شرعي، فهل يمكنهما ذلك؟ أم لا؟ وهل للعلاقة المحرّمة سابقاً أثرٌ يُعرقل الزواج المشروع؟
يتضح الجواب في المسائل التالية:
الزواج بعد التوبة:
إذا وقعت امرأة في خطيئة الزنا ثم أدركت خطأها وتابت إلى الله تعالى (فلا إشكال ولا خلاف في جواز التزوج بها حتى ولو كانت مشهورة فإنها تخرج بالتوبة عن هذه الصفة الشنيعة على ما دل عليه قولـه تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [3] وجملة من الروايات المعتبرة التي يستفاد منها أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، مضافاً إلى دلالة جملة من الروايات الصحيحة صريحاً على جواز التزوج حتى بالمشهورة بالزنا في فرض التوبة وهذا كله مما لا خلاف فيه)[4] .
وهكذا الأمر بالنسبة للرجل الذي تورط في الانحراف بالزنا ثم تاب إلى الله تعالى فإنه يصح الزواج منه، والزواج في مثل هاتين الحالتين ضمان للاستقامة، وإبعاد لهما عن مهاوي الرذيلة.
ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق : « لا تتزوج المرأة المعلنة بالزنا ولا يتزوج الرجل المعلن بالزنا إلا بعد أن تعرف منهما التوبة »[5] .
وعنه أيضاً :« لو أن إنساناً زنى ثم تاب تزوج حيث شاء »[6] .
بين طرفي الانحراف:
قد تحصل علاقة محرّمة بين رجل وامرأة ثم يقرران الارتباط ضمن إطار الزواج الشرعي، وهذا داخل في سياق ما تقدم، من أن الزواج ممن وقع في خطيئة الزنا بعد التوبة لا غبار عليه، سواء من قبل طرفي الانحراف أو غيرهما.
جاء في معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق قال: سألته عن رجل فجر بامرأة، ثم بدا له أن يتزوجها؟ فقال : « حلال، أوّلـه سفاح وآخره نكاح، أوّلـه حرام وآخره حلال »[7] .
وفي حديث آخر عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر أو أبي عبد الله (عليهما السلام) قال: « لو أن رجلاً فجر بامرأة ثم تابا فتزوجها لم يكن عليه شيء من ذلك »[8] .
زواج الزاني أو الزانية:
حينما تتحقق التوبة يرتفع وصف الزنا عن التائب أو التائبة، أمّا مع الاستمرار في طريق الحرام وعدم حصول التوبة، فهل يصح الزواج من الزاني أو الزانية؟
المشهور بين الفقهاء الجواز مع الكراهة كما نص على ذلك الشيخ النجفي في الجواهر[9] .
وهناك أحاديث تصرّح بذلك كحديث زرارة عن أبي جعفر الباقر قال: سئل عن رجل أعجبته امرأة فسأل عنها فإذا النثاء ( مثل الثناء إلا أنه في الخير والشر جميعاً) عليها في شيء من الفجور؟ فقال : « لا بأس بأن يتزوجها ويحصنها »[10] .
وفي حديث آخر عن علي بن رئاب قال: سألت أبا عبد الله عن المرأة الفاجرة يتزوجها الرجل المسلم؟ قال: « نعم وما يمنعه »[11] .
ولكن أغلب فقهائنا المعاصرين يذهبون إلى الاحتياط بترك الزواج ممن لم تتب من ممارسة الزنا، وبعضهم يراه لازماً. لوجود عدة روايات صريحة في النهي عن ذلك، وتعليق الإباحة على التوبة كرواية أبي بصير عن الإمام الصادق : « إذا تابت حل نكاحها »[12] .
ويفرّق السيد السيستاني بين المشهورة بالزنا وغيرها وبين الزاني وغيره، ونص فتواه ما يلي: ( لو زنى بامرأة ليس لها زوج وليست بذات عدة فالأحوط لزوماً أن لا يتزوجها إلا بعد توبتها، ويجوز لغيره أن يتزوجها قبل ذلك، إلا أن تكون مشهورة بالزناء، فإن الأحوط لزوماً عدم الزواج بها قبل أن تتوب، كما أن الأحوط لزوماً عدم التزوج بالرجل المشهور بالزناء إلا بعد توبته )[13] والحنابلة أيضاً يشترطون لصحة الزواج من الزانية توبتها أمّا بقية المذاهب فلا يشترطون ذلك[14] .
أمّا قولـه تعالى: ﴿الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾[15] فقد حملها بعض العلماء كالسيد الطباطبائي في الميزان على إنشاء حكم تشريعي بحرمة الزواج ممن اشتهر بالزنا ولم يتب منه، بينما رأى علماء آخرون كالسيد الخوئي أنها إخبار عن أمر واقع بأن الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة وأن الزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك، وأنه لابد في تحقق هذا الفعل الشنيع من شخصين من سنخ واحد، فيكون مدلولها مدلول المثل المعروف: إن الطيور على أمثالها تقع. فهي غير ناظرة إلى التزوج بالمرة والمراد بالنكاح فيها إنما هو نفس فعل الزنا، ومما يدل على ذلك استثناء نكاح الزاني من المشركة، ونكاح الزانية من المشرك، والحال أن الزواج في هذين الموردين باطل بإجماع المسلمين[16] .
الزنا بمتزوجة:
إذا زنى بامرأة متزوجة حرمت عليه مؤبداً على الأحوط، فلا يجوز له نكاحها بعد موت زوجها، أو زوال عقدها بطلاق أو فسخ أو انقضاء مدة أو غيرها، ولا فرق في ذات البعل بين الدائمة والمتمتع بها، والمسلمة والكافرة، والصغيرة والكبيرة، والمدخول بها وغيرها، والعالمة والجاهلة، ولا في البعل بين الصغير والكبير،ولا في الزاني بين العالم بكونها ذات بعل والجاهل بذلك، والمكره على الزنا وغيره. وكذلك لو زنى بمن كانت في عدة رجعية.
لكن الشيخ جواد التبريزي يرى ذلك على نحو الاحتياط الاستحبابي فقط قال: (لو زنى بذات بعل، أو بذات العدة الرجعية فالأحوط الأولى أن لا يتزوجها)[17] .
بالطبع فإن زنا المرأة المتزوجة لا يحرّمها على زوجها.