تعدد الزوجات
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
الحالة الطبيعية أن يتزوج الرجل امرأة واحدة تتمركز مشاعر الحب و المودة بينهما، ويسيطر كل منهما على قلب الأخر دون أي منافس، ويشتركان في بناء حياة عائلية سعيدة، تنتج للمجتمع أبناءً وأفراداً صالحين.
لكنه شاع في المجتمعات البشرية ومن قديم التاريخ نظام تعدد الزوجات لدى قسم من الرجال في المجتمع، ولم يكن ذلك حالة عامة في أي مجتمع من المجتمعات، بحيث يتزوج كل رجل أكثر من زوجة، وإنما كان يحصل أن يتزوج بعض من الرجال عدداً من النساء، وغالباً ما كان أولئك الرجال الذين تتعدد زوجاتهم من طبقة الحاكمين، أو الأثرياء والنافذين.
ومن أشهر الشعوب التي أخذت بنظام تعدد الزوجات في العصور القديمة: العبريون، والعرب في الجاهلية، والصقالبة، وبعض الشعوب السكسونية، وكان معمولاً به لدى اليهود والإيرانيين في عهد الساسانيين، ولدى شعوب أخرى، وقد أباحت اليهودية تعدد الزوجات ولم يرد في المسيحية نص يمنعه.
ولم يكن لتعدد الزوجات حد في بعض المجتمعات كعرب الجاهلية فقد ورد أن غيلان بن سلمة أسلم على عشر نسوة فقال له النبي (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم): «أمسك أربعاً وفارق سائرهن».[1]
وروى أبو داود وابن ماجة عن قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فأتيت النبي (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) فذكرت ذلك له، فقال: أختر منهن أربعاً. وروى الشافعي عن نوفل بن معاوية: أنه أسلم وتحته خمس نسوة، فقال له النبي (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم): «أمسك أربعاً وفارق الأخرى.»[2] وذكر (كريستينسن) في كتاب (إيران في زمان الساسانيين): إن مبدأ تعدد الزوجات يعد الأساس في تشكيل العائلة، وكان للرجل أن يتزوج من النساء ما وسعه.[3]
تحليل اجتماعي:
تحدث العالم المؤرخ (ول ديورانت) في موسوعته قصة الحضارة عن نظام تعدد الزوجات في التاريخ البشري، والمبررات التي أنتجته في المجتمعات الإنسانية، ونقتطف من تحليله الفقرات التالية:
لقد ظن رجال الدين (المسيحي) في العصور الوسطى أن تعدد الزوجات للزوج الواحد نظام أبتكره محمد ابتكاراً لم يسبق إليه، لكنه في الواقع نظام سابق للإسلام بأعوام طوال، لأنه النظام الذي ساد العالم البدائي، وهنالك من الأسباب عدة عملت كلها على تعميم هذا النظام ونشره.
إن حياة الرجال في المجتمع الأول كانت أشد عنفاً وأكثر تعرضاً للخطر بسبب اضطلاعهم بالصيد والقتال، ولذا زاد الموت في الرجال عليه في النساء، واطّراد الزيادة في عدد النساء يضع أمام المرأة اختياراً بين حالتين: فإما تعدد الزوجات للرجل الواحد، وإما عزوبة عقيمة ليس عنها محيص لبعض النساء.
كذلك يحب الرجال أن تكون عشيراتهم في سن الشباب، والنساء يكتهلن بسرعة في المجتمعات البدائية، بل إن النساء أنفسهن كنّ أحياناً يحبّذن تعدد الزوجات، حتى يباعدن بين فترات الولادة، دون أن ينقصن عند الرجل شهوته وحبه للنسل، وأحياناً ترى الزوجة الأولى، وقد أبهضها عبء العمل، تشجع زوجها على الزواج من امرأة ثانية حتى تقاسمها مشقة العمل، وتنسل للأسرة أطفالاً يزيدون من إنتاجها وثرائها.
ولا شك أن تعدد الزوجات لاءم حاجة المجتمع البدائي في ذلك الصدد أتم ملاءمة، لأن النساء فيه يزدن عدداً على الرجال، وقد كان لتعدد الزوجات فضل في تحسين النسل أعظم من فضل الزواج من واحدة الذي نأخذ به اليوم، لأنه بينما ترى أقدر الرجال وأحكمهم في العصر الحديث هم الذين يتأخر بهم الزواج عن سواهم، وهم الذين لا ينسلون إلا أقل عدد من الأبناء، ترى العكس في ظل تعدد الزوجات، الذي يتيح لأقدر الرجال أن يظفروا - على الأرجح - بخير النساء، أن ينسلوا أكثر الأبناء، ولهذا استطاع تعدد الزوجات أن يطول بقاؤه بين الشعوب الفطرية كلها تقريباً، بل بين معظم جماعات الإنسان المتحضر، ولم يبدأ في الزوال في بلاد الشرق إلا في عصرنا الحاضر، لأنه قد تآمرت على زواله بعض العوامل.
وفي هذه الحالة أصبح تعدد الزوجات المكشوف، حتى في الجماعات البدائية، ميزة تتمتع بها الأقلية الغنية وحدها، أما سواد الناس فلا يجاوزون الزوجة الواحدة، ثم يخففون وطأة ذلك على نفوسهم بالزنا، بينما ترى أقلية أخرى آثرت العزوبة راضية أو كارهة.[4]
مبررات تعدد الزوجات:
وما أشار إليه هذا العالم المؤرخ من مبررات لتعدد الزوجات في المجتمعات الإنسانية، هي مبررات حقيقية، ويمكننا توضيحها أكثر عبر النقاط التالية:
عادة ما يكون عدد الإناث أكثر من عدد الذكور، وليس ذلك لسبب زيادة مواليد الفتيات على الفتيان دائماً، وإنما أيضاً لتعرض الذكور للأخطار وأسباب الموت أكثر كالحروب وحوادث العمل.
ويذكر برتراند رسل في كتاب (الزواج والأخلاق) أنه: يوجد الآن - وقت كتابته - في إنكلترا أكثر من مليوني امرأة زائدة على عدد الرجال، وهؤلاء النسوة طبقاً للعرف السائد، يجب أن يعشن إلى آخر العمر عقيمات في الواقع، وهذا يشكل حرماناً عظيماً لهن، إن نظام الزوجة الواحدة مبني على افتراض تساوي عدد النساء والرجال في البلد، فحين ينعدم التساوي، يقع ظلم عظيم على أولئك الذين يجب أن يعيشوا حالة العزوبة، طبقاً لهذا القانون الرياضي.[5]
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، كتبت الصحف الألمانية عن حرمان عدد كبير من النساء من الحصول على زوج وبيت عائلي، وحصلت حركة ضغط من النساء على الحكومة الألمانية لإلغاء قانون الزوجة الواحدة، وإقرار تعدد الزوجات، لكن الكنيسة عارضت ذلك[6] .
1- والمرأة أسرع بلوغاً وتهيئاً للزواج من الرجل، فالفتيات اللاتي يولدن مع الفتيان في سنة واحدة، يتهيأن للزواج بيلوجياً وسيكيلوجياً قبلهم ببضع سنوات، كما هو معروف. وفي نفس الوقت فإن الاستعداد الجنسي أسرع نضوباً وخفوتاً عند المرأة، حيث تتلاشى قدرتها على الإنجاب، ولياقتها الجسمية قبل الرجل. لذلك أصبح مألوفاً أن يتزوج الرجل من امرأة تصغره بعدة سنوات.
2- وتمر على المرأة فترات تعاني فيها من العوائق الجنسية كأيام العادة الشهرية، وبعض فترات الحمل، بينما لا يعاني الرجل من مثل ذلك.
3- وهناك نساء يفقدن أزواجهن لبعض الأسباب، من وفاة أو طلاق، فلا يتيسر لهن جلب اهتمام الرجال كزوجة أولى، وقد تكون المرأة مصابة بالعقم أو أي مرض آخر، ففي ظل نظام الزوجة الواحدة فقط، تصعب معالجة مثل هذه الحالات.
كل هذه الأسباب تنتج حالات العنوسة والحرمان من الزواج لعدد من النساء، كما قد تدفع الرجال للعلاقات الجنسية غير المشروعة، وهو ما تعاني منه المجتمعات الغربية الآن وبشكل مبتذل فاضح.
من أجل ذلك أمضى الإسلام ما كان معمولاً به من تعدد الزوجات، ولكن ضمن حدود وضوابط.
حدود التعدد:
اتفقت كلمة فقهاء المسلمين على أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من أربع زوجات بالنكاح الدائم في وقت واحد، وحتى لو طلق واحدة منهن لم يجز له أن يتزوج الخامسة حتى تخرج زوجته المطلقة من عدتها، إذا كان الطلاق رجعياً، أي يصح له الرجوع فيه. أما إذا كان الطلاق بائناً، فالمشهور عند فقهاء الشيعة أنه يجوز له الزواج من أخرى قبل انتهاء عدتها، وهو رأي السيد الشيرازي من المعاصرين. كما أفتى بذلك المالكية والشافعية[7] واحتاط بعض الفقهاء بوجوب الانتظار إلى انتهاء عدة البائنة، كما هو رأي السيد السيستاني من المعاصرين.
وهو رأي الحنفية أيضاً حيث يرون وجوب الانتظار حتى في الطلاق البائن[8] .
أما إذا كانت العدة لفسخ الزواج فلا يجب الانتظار باتفاق الفقهاء.
وإذا ماتت الزوجة الرابعة فهل يجب عليه الانتظار؟ أو يجوز له الزواج من أخرى فوراً؟. المشهور عندهم عدم وجوب الانتظار، لكن بعض الفقهاء أوجب الصبر احتياطاً مدة عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام. وهو رأي السيد السيستاني.
وتحديد تعدد الزوجات بأربع لقولـه تعالى: ﴿ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ [9] . إضافة إلى العديد من الأحاديث الصريحة بهذا التحديد. والواو في قوله تعالى: ﴿ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾ للتخيير يعني إما اثنتان أو ثلاث أو أربع، وهذا باتفاق المسلمين، ونسب الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه (الفقه الإسلامي وأدلته) إلى الشيعة أنهم يجوزون الزواج بتسع نساء على أساس أنهم يعتبرون الواو هنا للجمع مثنى وثلاث ورباع، فالمجموع تسعة[10] .
وهذا القول افتراء على الشيعة، حيث لم يرد لا في كتب تفاسيرهم، ولا في كتب فقههم، وهو نموذج للنقل عن الشيعة من مصادر مخالفيهم ومناوئيهم، لرسم صورة مشوهة عنهم بعيدة عن الموضوعية والواقع.
والتحديد بأربع خاص بالزواج الدائم، أما الزواج المؤقت الذي يرى الشيعة استمرار جوازه فإنه غير مشمول بهذا التحديد.
العدالة شرط للتعدد:
إنما يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من زوجة إذا كان يجد نفسه قادراً على التعامل معهن بعدالة، بأن لا يجور على حقوق واحدة لصالح الأخرى، في النفقة أو في المبيت، حيث يجب عليه أن يتحمل نفقات زوجاته، فلا يصح له أن يجحف باحتياجات واحدة منهن، ونفقة كل واحدة بحسب وضعها وشأنها، فليس المقصود بالعدالة المساواة، وإنما توفير المستلزمات، فلو كانت حياة إحداهن تتطلب نفقة أكثر من الأخرى، وجب عليه ذلك, مع توفير حاجة الأخرى ضمن احتياجها.
وبالنسبة للمبيت فإن عليه أن يعدل في القسمة بين زوجاته، وحق الزوجة أن يبيت عندها زوجها ليلة من كل أربع ليال.
اشتراط عدم التعدد:
إذا اشترطت الزوجة على الزوج في عقد النكاح أو في غيره أن لا يتزوج عليها صح الشرط، ويلزم عليه أن لا يتزوج، وإذا تزوج عليها يكون آثماً مذنباً لكن زواجه صحيح.[11]
الموقف من تعدد الزوجات:
من الناحية الشرعية فالإسلام قد أجاز تعدد الزوجات ضمن الحدود والضوابط المقررة، ولا يستطيع مسلم أن يعترض على تشريعات الإسلام، وما دامت المسألة في إطار الجواز والإباحة، فالأمر متروك لوضع كل إنسان وظروفه، وللأعراف والاعتبارات السائدة في المجتمع.
ومن الواضح أن ظروف الحياة اليوم أصبحت أكثر تعقيداً من السابق، فأخذ زوجة أخرى، يعني إدارة عائلة وأسرة أخرى، تستلزم نفقات مادية، وجهوداً في الرعاية والتربية، فمن كان قادراً على ذلك، ومطمئناً من تطبيق العدالة المطلوبة شرعاً، فليس من الصحيح تعويق رغبته وإرادته في تعدد الزوجات.
إن هناك أشخاصاً في المجتمع تستدعي ظروفهم الشخصية والعائلية اتخاذ زوجة أخرى، لكن تحسس الزوجة الأولى بشكل مبالغ فيه، قد يجعل هذا الرجل أمام أحد خيارين كلاهما صعب: إما أن يكبت رغبته، ويتجاهل حاجته، وقد يلجأ إلى طريق الحرام. أو يغامر بخراب وهدم بيته العائلي.
من ناحية أخرى فإن عدد النساء العوانس في تصاعد وتزايد، وتعدد الزوجات هو الذي يفسح أمامهن أمل الحياة الطبيعية، ويتيح لهن فرصة السعادة الزوجية، وممارسة دور الأمومة.
وأشارت إحصائيات لوزارة التخطيط في المملكة العربية السعودية: أن عدد الفتيات اللاتي لم يتزوجن، وتجاوزن سن الزواج اجتماعياً (30 عاماً) بلغ حتى نهاية 1999م حوالي مليون و925 ألفاً و814 فتاة. وأوضحت الإحصائية: أن عدد المتزوجات في السعودية بلغ مليونين و836 ألفاً و475 امرأة[12] .
وذكرت إحصائية سابقة أن عدد العوانس في الكويت بلغ 40 ألف عانس[13] .
ويجب أن نعترف بأن جزءً من المشكلة يكمن في النماذج والتجارب السيئة التي قد تحصل من قبل من يتزوجون زوجة أخرى ثم لا يمارسون العدالة، بل يهملون الزوجة الأولى، ويجحفون بحقوقها، وتتضاءل حتى رعايتهم واهتمامهم بأبنائهم منها.
وإذا كان مفهوماً وجود مبررات للميل العاطفي نحو الزوجة الجديدة، عبرت عنه الآية الكريمة ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾[14] حيث تعني استحالة العدالة في الميل النفسي والعاطفي، ولكنه ليس منطقياً أن لا يعدل الإنسان في الجانب الممكن، وهو العدالة في النفقة والرعاية وأداء الحقوق الشرعية.
يقول تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ﴾ [15] .
ورد عن الإمام محمد الباقر عن جده رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) أنه قال: « من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما في القسم من نفسه وماله جاء يوم القيامة مغلولاً مائلاً شقّه حتى يدخل النار »[16] .
وورد مثله عن أبي هريرة عنه (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) أخرجه الترمذي والحاكم.