الكفاءة في الزواج
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
الكفاءة لغة: المماثلة والمساواة.
جاء في لسان العرب: الكَفِئ: النظير، وكذلك الكُفءُ والكُفُوة. والمصدر الكَفَاءة، بالمفتح والمد. وتقول: لا كِفاء له، بالكسر، وهو في الأصل مصدر، أي لا نظير له. والكُفءُ: النظير والمساوي. ومنه الكفاءة في النكاح، وهو أن يكون الزوج مساوياً للمرأة في حسبها ودينها ونسبها وبيتها وغير ذلك[1] .
الحق في الكفاءة:
تحدث الفقهاء عن كفاءة الرجل لزواجه من المرأة التي يخطبها، وأن الكفاءة حق للمرأة وولي أمرها، بأن يكون زوجها كِفئاً لها، أي مساوياً ونظيراً، وأن لا يكون أدنى منها وأقل مكانة، لأنه سيصبح قوّاماً عليها، وستكون هي تحت ولايته ومسئوليته، وأيضاً فإنه سيصبح صهراً وختناً لأهلها، ومتداخلاً معهم، فمن حقهم أن لا يقبلوا غير المتناسب معهم مكانة ورتبة.
أما بالنسبة للرجل فلا يؤخذ أمر كفاءة الزوجة له بعين الاعتبار عادة، ولذا لا غضاضة عليه في أن يتزوج ممن هي أقل منه رتبة ومكانة.
واتفق المسلمون على ضرورة أن يكون زوج المسلمة مسلماً، وأنه لا يجوز أن تتزوج غير المسلم، لأنه ليس كفئاً لها. لكن الاختلاف حصل في اشتراط خصال أخرى ضمن إطار الكفاءة.
الكفاءة عند فقهاء الشيعة:
الرأي المشهور عند فقهاء الشيعة السابقين والمعاصرين أن المسلم كفو المسلمة، والمؤمن كفو المؤمنة، ولا شيء غير ذلك، نعم هناك مرجحات تدخل ضمن الاستحباب والكراهة، وأنه ينبغي اختيار الزوج الأكمل والأفضل. لكن توفر شرط الإسلام كاف في صحة الزواج ولزومه.
وقد تقدم البحث في الدرس رقم (21) أن اختلاف المذهب ضمن إطار الإسلام، لا يمنع التزاوج بين المسلمين، مع الاحترام المتبادل، وعدم الضغط والتأثير على الانتماء المذهبي.
واشترط بعض فقهاء الشيعة الأقدمين في كفاءة الزوج قدرته المالية للنفقة على زوجته، بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [2] ولما روي عن الإمام الصادق «الكفو أن يكون عفيفاً وعنده يسار». ولأن في فقر الزوج إضراراً بالمرأة، كما أن العرف يعتبر ذلك نقصاً، ثم إن الإنفاق ضرورة لبناء الحياة العائلية واستمرارها.
لكن أكثر فقهاء الشيعة لا يعتبرون القدرة المالية شرطاً في كفاءة الزوج لقوله تعالى: ﴿وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾[3] ولورود أحاديث وروايات كثيرة، تشجع على تجاوز هذا الأمر، وتزويج المؤمن وإن كان فقيراً.
يقول السيد السبزواري:
لا يشترط في صحة النكاح تمكن الزوج من النفقة، نعم لو زوج الصغيرة وليها بغير القادر عليها لم يلزم العقد عليها فلها الرد بعد كمالها، لما مر من أنه يعتبر في نفوذ عقد الولي على المولّى عليه عدم المفسدة.
ولا إشكال في جواز تزويج الحرة بالعبد، والعربية بالعجمي، والهاشمية بغير الهاشمي، وبالعكس، وكذا ذوات البيوتات الشريفة بأرباب الصنائع الدنيئة كالكناس والحجام ونحوهما، لأن المسلم كفؤ المسلمة، والمؤمن كفؤ المؤمنة، والمؤمنون بعضهم أكفاء بعض[4] .
الكفاءة عند فقهاء السنة:
كفاءة الزوج لها بحث مفصل عند فقهاء أهل السنة، وقد ذكروا للكفاءة المعتبرة في الزواج عدة خصال، على اختلاف في بعضها.
وهي كما يلي:
1- الدين: ذهب جمهور فقهائهم إلى أن من خصال الكفاءة الدين، أي المماثلة والمقارنة بين الزوجين في التدين بشرائع الإسلام، لا في مجرد أصل الإسلام. فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لو أن امرأة من بنات الصالحين زوجت نفسها من فاسق، كان للأولياء حق الاعتراض. وقال الشافعية: من خصال الكفاءة الدين والصلاح والكف عما لا يحل، والفاسق ليس بكفء للعفيفة، والفاسق كفء للفاسقة وكذلك هو رأي الحنابلة[5] .
2- النسب: وهو معتبر عند الحنفية والشافعية والحنابلة. واستدلوا على ذلك بقول الخليفة عمر بن الخطاب: ((لأمنعن فروج ذوات الاحساب إلا من الأكفاء، وفي رواية: قلت: وما الأكفاء؟ قال: في الاحساب)) والاعتبار في النسب بالآباء، فالعجمي أباً وإن كانت أمه عربية ليس كفء عربية وإن كانت أمها عجمية.
وذهب مالك إلى عدم اعتبار النسب في الكفاءة قائلاً: أهل الإسلام كلهم بعضهم لبعض أكفاء لقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[6] .
وقال الحنفية: العرب بعضهم أكفاء لبعض بالنص، ولا تكون العرب كفئاً لقريش، لفضيلة قريش على سائر العرب، والموالي بعضهم أكفاء لبعض بالنص، ولا تكون الموالي أكفاء للعرب، لفضل العرب على العجم. وكذلك قال الشافعية[7] . والأصح عند الحنفية أن العجمي لا يكون كفؤاً للعربية ولو كان عالماً أو سلطاناً[8] .
3- الحرية: ذهب الحنفية والشافعية وهو الصحيح عند الحنابلة، إلى أن الحرية من خصال الكفاءة، فلا يكون العبد كفئاً للحرة ولو عتيقة. لأنها تتعير به، وتتضرر بنكاحه لأنه ينفق نفقة المعسرين، وهو ممنوع من التصرف في كسبه، غير مالك له، مشغول عن امرأته بحقوق سيده، واختلف المالكية إلى رأيين باعتبارها وعدم اعتبارها[9] .
واشترط الحنفية والشافعية أيضاً: حرية الأصل، فمن كان أحد آبائه رقيقاً ليس كفواً لحر الأصل، أو لمن كان أبوها رقيقاً ثم أعتق. ومن كان له أبوان في الحرية ليس كفؤاً لمن كان له أب واحد في الحرية، والعتيق ليس كفواً لحرة أصلية. وقال الحنابلة: العتيق كله كفء للحرة[10] .
4- الحرفة والمهنة: ذهب جمهور فقهائهم إلى أنه لا يكون الرجل صاحب الصناعة أو الحرفة الدنيئة أو الخسيسة، كفء بنت صاحب الصناعة أو الحرفة الرفيعة أو الشريفة، لأن الناس يتفاخرون بشرف الحرف ويتعيرون بدنائتها. ولما ذكره الحنابلة من أنه نقص في عرف الناس أشبه نقص النسب.
وقال الحنفية كما عن أبي يوسف: تثبت الكفاءة بين الحرفتين في جنس واحد، كالبزاز مع البزاز، والحائك مع الحائك، وتثبت عند اختلاف جنس الحرفة إذا كان يقارب بعضها بعضاً، كالبزاز مع الصائغ، والصائغ مع العطار، ولا تثبت فيما لا مقاربة بينهما، كالعطار مع البيطار، والبزاز مع الخراز.
وقال الشافعية: الاعتبار بالعرف العام لبلد الزوجة.
وعن أبي حنيفة وفي رواية عن أحمد: أن الحرفة غير معتبرة في الكفاءة في النكاح، لأنه يمكن الانتقال والتحول عن الخسيسة إلى النفيسة منها، فليست وصفاً لازماً.
ولا يعتبر المالكية الحرفة من خصال الكفاءة في النكاح[11] .
5- اليسار: ذهب الحنفية، والحنابلة -في الرواية المعتمدة- وقسم من الشافعية إلى اعتباره، فلا يكون الفقير كفء الغنية، لأن التفاخر بالمال أكثر من التفاخر بغيره عادة، ولأن للنكاح تعلقاً لازماً بالمهر والنفقة، ولأن على الموسرة ضرراً في إعسار زوجها، ولأن ذلك نقصاً في عرف الناس.
والمعتبر في اليسار القدرة على مهر مثل الزوجة والنفقة[12] .
وقال بعض الشافعية والمالكية: لا يعد اليسار في خصال الكفاءة، لأن المال ظل زائل، ولا يفتخر به أهل المروات والبصائر[13] .
6- السلامة من العيوب: ذهب المالكية والشافعية وابن عقيل وغيره من الحنابلة إلى أن السلامة من العيوب المثبتة لخيار فسخ النكاح من خصال الكفاءة في النكاح.
وقال الحنفية وأكثر الحنابلة: لا تعتبر في الكفاءة السلامة من العيوب[14] .
الكفاءة شرط صحة أو لزوم:
اختلف فقهاء السنة في أن المعتبر من الكفاءة في النكاح، هل هو شرط صحة بحيث يكون العقد باطلاً من الأساس عند فقدها؟ أم هو شرط لزوم بمعنى أن العقد صحيح لكن للمرأة وأوليائها الحق في فسخه أو إمضائه؟
ذهب الشافعية، والحنفية -في ظاهر الرواية- وهو المعتمد عند المالكية، والمذهب عند أكثر متأخري الحنابلة: إلى أن الكفاءة تعتبر للزوم النكاح لا لصحته غالباً، فيصح النكاح مع فقدها، لأنها حق للمرأة وللأولياء، فإن رضوا بإسقاطها فلا اعتراض عليهم.
وذهب الحنفية - في رواية الحسن المختارة للفتوى عندهم- وبعض المالكية وفي رواية عن أحمد بن حنبل: إلى أن الكفاءة شرط في صحة النكاح، قال أحمد: إذا تزوج المولى العربية فرق بينهما. وقال في الرجل يشرب الشراب: ما هو بكفء لها يفرق بينهما، وقال: لو كان المتزوج حائكاً فرقت بينهما، لقول عمر (رضي اللَّه عنه): (لأمنعن فروج ذوات الاحساب إلا من الأكفاء)[15] .
ورأى بعض الفقهاء كالثوري، والحسن البصري، والكرخي من الحنفية: أن الكفاءة ليست شرطاً أصلاً، لا شرط صحة للزواج ولا شرط لزوم، فيصح الزواج ويلزم سواء أكان الزوج كفواً للزوجة أم غير كفء[16] .
نصوص وروايات:
1- في صحيح البخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة (رضي اللَّه عنها): أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس - وكان ممن شهد بدراً مع النبي (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم)- تبنى سالماً، وهو مولى لامرأة من الأنصار، وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة[17] .
2- زوج رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، المقداد بن أسود الكندي ثم قال: «أيها الناس، إنما زوجت ابنة عمي المقداد ليتضع النكاح»[18] .
3- عن الإمام محمد الباقر : إن رجلاً كان من أهل اليمامة يقال له: جويبر، أتى رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) منتجعاً للإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً عارياً، وكان من قباح السودان - إلى أن قال:- وإن رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة له ورقّة عليه فقال له:« يا جويبر، لو تزوجت امرأة فعففت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك»، فقال له جويبر: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، من يرغب فيّ، فوالله ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأيّة امرأة ترغب فيّ؟ فقال له رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم):« يا جويبر، إن الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرّف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشايرها وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم وقرشيّهم وعربيّهم وعجميهم من آدم، وإن آدم خلقه الله من طين، وإن أحب الناس إلى الله أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك فضلاً إلا لمن كان أتقى لله منك وأطوع»، ثم قال له: «انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنه من أشرف بني بياضة حسباً فيهم، فقل له: إني رسول رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) إليك، وهو يقول لك: زوج جويبراً بنتك الدلفاء»، الحديث، وفيه أنه زوجه إياها بعدما راجع النبي (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) فقال له: «يا زياد، جويبر مؤمن والمؤمن كفو المؤمنة، والمسلم كفو المسلمة، فزوجه يا زياد ولا ترغب عنه»[19] .
4- عن علي بن مهزيار قال: كتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر في أمر بناته وأنه لا يجد أحداً مثله، فكتب إليه أبو جعفر :« فهمت ما ذكرت من أمر بناتك وأنك لا تجد أحداً مثلك، فلا تنظر في ذلك رحمك الله، فإن رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم) قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»[20] .
5- عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله (صلى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلم):« إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه»، قلت: يا رسول الله، وإن كان دنيّاً في نسبه؟ قال:« إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»[21] .
هذه النصوص والأحاديث، وكثير مثلها، تنسجم مع مبادئ الإسلام وتوجهاته في بناء العلاقات الاجتماعية على أساس القيم الصحيحة، وتجاوز الفوارق الطبقية، والعصبيات العرقية والقبلية، ولتأكيد وحدة أبناء الأمة واندماجهم وانصهارهم في بوتقة الإسلام.