حركة الزوجة خارج البيت
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين.
كل عقد بين طرفين لا بد وأن يتم على أساس مشروع اتفاق يحدد التزامات كل طرف منهما نحو الأخر.
وبالنسبة لعقد الزواج فإن الإسلام يقترح مشروع اتفاق بين الزوجين يجري العقد على أساسه، ويلتزم كل منهما تجاه الآخر بالحقوق التي يقرها هذا المشروع.
وهذا ما تعنيه الحقوق المتبادلة بين الزوجين بحكم الشرع.
وينبغي التنبيه هنا إلى نقطتين:
الأولى: إن هذه الحقوق ليست أحكاماً شرعية لأزمة يفرضها الشرع على الطرفين عند إرادتهما الزواج، بل هي حقوق لصالح انتظام حياتهما الزوجية، وهي بيدهما، وبإمكانهما التعديل والتغيير فيها، بإسقاط بعض هذه الحقوق أو إضافة غيرها كشرط ضمن العقد.
و لتقريب الفكرة نقول: إنها مثل مسوّدة اتفاق، يحق لكل منهما التعديل فيها، فإذا تراضيا على أي تغيير، واتفقا على ذلك فإن العقد يجري على أساس اتفاقهما، ضمن الضوابط التي سبق الحديث عنها في شروط عقد الزواج.
الثانية: قد يسيء بعض الأزواج أو الزوجات استخدام الحق الذي له على الآخر، فيتحول الحق من عامل تنظيم لاستقرار الحياة الزوجية، إلى غطاء ومبرر لممارسة الإيذاء والظلم، وهذا ما يحرّمه الدين، ويتوعد الله تعالى عليه بالحساب والعقاب، كما وضع الشرع تقنينات رادعة لهذه التصرفات العدوانية عبر القضاء وصلاحيات الحاكم الشرعي.
إذن الزوج في الخروج:
ذكر الفقهاء أن من حقوق الزوج على زوجته أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه، مستندين في ذلك إلى أحاديث وروايات واردة عن الرسول والأئمة «كرواية أبن عمر قال: رأيت امرأة أتت إلى النبي وقالت: ((يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ قال : حقه عليها ألا تخرج من بيتها إلا بإذنه))» [1] ،«ورواية الإمام الباقر عنه : ((ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه)).»[2]
«ورواية علي بن جعفر أنه سأل أخاه الإمام موسى بن جعفر ((سألته عن المرأة ألها أن تخرج بغير إذن زوجها؟ قال: لا)).»[3]
ويستثنى من ذلك خروجها للواجب الشرعي كالحج، و لضرورات حياتها إذا توقفت على خروجها كالعلاج.
ويسقط هذا الحق من يد الزوج إذا اشترطت الزوجة إسقاطه في عقد الزواج، بأن تشترط لها حرية الخروج متى شاءت، أو إلى أماكن وأغراض معينة، كما لو اشترطت حقها في الخروج للدراسة أو العمل، أو لزيارة أهلها وأصدقائها.
وينبغي للزوج أن يأذن لزوجته في زيارة أقربائها، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، ونحو ذلك.
حدود هذا الحق:
يتفق الفقهاء على عدم جواز خروج الزوجة بدون إذن زوجها، إذا كان ذلك منافياً لحقه في الاستمتاع معها، فهنا لا يصح لها الخروج وحرمان زوجها من رغبته، إلا إذا أذن لها بذلك.
أما إذا كان الزوج منصرفاً عن هذه الرغبة، بسفره أو وقت انشغاله بأعماله المختلفة، وأرادت الزوجة الخروج إلى أمر مستحب أو مباح، فهل يجب عليها استئذانه؟ وهل يجوز له منعها دون مبرر مشروع؟
أغلب الفقهاء يرون ذلك، بأنه لا يجوز لها الخروج حتى عند عدم منافاة حق الزوج في الاستمتاع إلا بإذن الزوج، وأنه يصح له منعها عن الخروج حتى لأغراض مندوبة وراجحة شرعاً كصلة الرحم، وطلب العلم، وعيادة المريض، وخدمة الدين والمجتمع، فضلاً عن الأغراض المباحة كالنزهة والترفيه عن النفس، والشراء من السوق.
لكن بعض العلماء ناقش في السعة المطلقة لهذا الحق، يقول السيد الخوئي (رحمه الله): (( الروايات الكثيرة الدالة على عدم جواز خروجها عن البيت بدون إذن الزوج فيما إذا كان منافياً لحقه، دون غير المنافي كالخروج اليسير، ولا سيما نهاراً لملاقاة أبيها أو أمها، أو لزيارة الحرم الشريف، ونحو ذلك، فإن المستفاد من تلك الأدلة بمقتضى الفهم العرفي أن المحرّم ليس هو الخروج بالمعنى المصدري المتحقق آناًً ما أعني فتح الباب ووضع القدم خارج الدار، بل الحرام هو الكون خارج البيت والبقاء في غير هذا المكان، فالمنهي عنه هو المكوث خارج الدار عند كونه منافياً لحق الزوج الذي هو القدر المتيقن من الأدلة)).[4]
ولذا كانت فتواه S في رسالته العملية بإطلاق هذا الحق على أساس الاحتياط الوجوبي، بسبب توقفه عند دلالة النصوص على ذلك، قال في منهاج الصالحين ج2 – مسألة 1407: ((لا يجوز للزوجة أن تخرج من بيتها بغير إذن زوجها فيما إذا كان خروجها منافياً لحق الاستمتاع بها بل مطلقاً على الاحوط)).
ويقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله) ما ملخصه:
ليس في آيات الكتاب العزيز ما يمكن أن يكون دليلاً في مسألة وجوب الاستئذان على الزوجة وسلطة المنع للزوج بشكل مطلق، والمرجع الذي اعتمده الفقهاء في المسألة هو روايات السنة الواردة فيها، وأغلبها غير صحيحة السند، وما صح سنده غير ثابت الدلالة على ذلك.
خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما تؤكد عليه الآيات القرآنية في العلاقة بين الزوجين، وأنها تخضع لمعيار المعاشرة بالمعروف يقول تعالى: ﴿فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾[5] ، ويقول تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[6] .
فلا يقتضي حق المساكنة أن يتحول بيت الزوجية إلى سجن للمرأة لا يشرع لها الخروج منه إلا بإرادة الزوج، فإن الروايات التي ورد فيها النهي عن الخروج إلا بإذن الزوج ليست مطلقة إلى جميع الأحوال والحالات، كما أنها لا تدل على أكثر من وجوب الاستئذان عليها، ولكن لا دلالة فيها على أن له حقاً في عدم الإذن. لأن ذلك ينافي المعروف، فالمعاشرة والإمساك في حالة منعها من الخروج في الحالات العرفية السائغة ليست معاشرة وإمساكاً بالمعروف.
ولا وجه للإشكال هنا بأنه إذا كان عليه أن يأذن لها بالخروج فأمرها بالاستئذان ونهيها عن الخروج بدون استئذان يكون لغواً. وذلك لأن المقصود هو المحافظة على الاحترام والاعتبار العرفي للزوج، وللاستفادة من رأيه في تشخيص موارد الخروج الراجحة والمرجوحة والمحرمة من حيث الوقت والمكان والهيئة والغاية، فالاستئذان في الحقيقة أقرب إلى طلب المشورة والنصيحة.[7]
رأي فقهاء السنة:
قال أبي قدامة الحنبلي في المغني: ((وللزوج منعها من الخروج من منزله إلى ما لها منه بد، سواء أرادت زيارة والديها أو عيادتهما، أو حضور جنازة أحدهما. قال أحمد، في امرأة لها زوج وأم مريضة: طاعة زوجها أوجب عليها من أمها، إلا أن يأذن لها... ولكن لا ينبغي للزوج منعها من عيادة وألديها وزيارتهما، لأن في ذلك قطيعة لهما، وحملاً لزوجته على مخالفته، وقد أمر الله تعالى بالمعاشرة بالمعروف، وليس هذا من المعاشرة بالمعروف)).[8]
وعند الحنفية أنها تخرج للوالدين في كل جمعة بإذن الزوج وبدونه، وللمحارم في كل سنة مرة بإذنه وبدونه.[9]
وعند الشافعية يكره منعها من عيادة أبيها إذا أثقل في مرضه، وحضور مواراته إذا مات، لأن منعها مما ذكر يؤدي إلى النفور ويغريها بالعقوق.[10]