التحكيم والإصلاح في الخلافات الزوجية
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين.
واقع الحياة الزوجية استقراراً و اضطراباً لا تقتصر آثاره على حياة الزوجين، بل تنعكس نتائجه سلباً وإيجاباً على المجتمع كله. وتتضح هذه الحقيقة في النقاط التالية:
1/ تؤثر طبيعة علاقة الإنسان الزوجية على حالته النفسية والسلوكية، وبالتالي على مستوى إنتاجيته وفاعليته، فإذا كان يعيش توافقاً زواجياً، فسينعكس ذلك إيجاباً على أدائه الاجتماعي، وفي الحياة العامة، وإذا كان يعاني اضطراباً في علاقته الزوجية، فسيؤثر سلباً على إنتاجيته وسلوكه.
2/ويظهر الأثر الأكبر لحالة العلاقة الزوجية على تنشئة الأولاد وتربيتهم، ففي ظل الاستقرار العائلي، تتوفر لهم رعاية وتربية أفضل، أما مع أجواء الاضطراب والنزاع في العلاقة بين الوالدين، فيكونون هم الضحايا، لما ينالهم من تمزق نفسي عاطفي، ولانشغال الأبوين عنهما، وقد يصبحون ساحة لانتقام أحد الزوجين من الآخر. وتشير البيانات التي تتحدث عن جنوح الأحداث، إلى أن النسبة الغالبة منهم تنتمي إلى عوائل تعاني اضطرابات في علاقاتها الزوجية، كما يلاحظ الموجهون التربويون في مدارس التعليم، أن أغلب الطلاب الذين يعانون من تدني المستوى التعليمي والأخلاقي، هم من أبناء عوائل تفقد الانسجام الداخلي.
3/كما تنعكس حالة العلاقات الزوجية على الأمن الاجتماعي، لأن اضطرابها تمتد آثاره إلى مساحة واسعة من عوائل الزوجين والمتعاطفين معهما، وقد تتصاعد الخلافات لتصل إلى المحاكم والجهات الرسمية، أو تتطور إلى نزاعات حادّة، كما أن اضطراب العلاقات الزوجية، قد يدفع بعض الزوجات والأزواج إلى البحث عن علاقات عاطفية خارج الإطار الزوجي، فتحصل الخيانات الزوجية، والانحرافات السلوكية. في مواجهة هذه الأخطار لا بد أن يتحمل المجتمع مسؤوليته في الوقاية منها، بتوفير أجواء الاستقرار العائلي، ومعالجة أسباب الاضطراب، وبالتصدي والمبادرة لحل الخلافات العائلية، فلا يصح السكوت والتفرج من قبل المجتمع، على حالات الخلاف والشقاق في الحياة الزوجية.
التحكيم العائلي:
تحدث القرآن الكريم، عن ضرورة المبادرة والتصدي لمعالجة أي خلاف زوجي، يهدد باضطراب العلاقة الزوجية، وطرح مشروعاً للمعالجة والحل، يتمثل في اختيار حكم من عائلة الزوج، وآخر من عائلة الزوجة، ينتدبان لدراسة مشكلة الخلاف بينهما، ويقترحان ما يلزم للحل، وأمرهما يكون نافذاً على الزوجين. يقول تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ سورة النساء، آية35.
واختيار الحكمين من أهل الزوجين، يقصد منه الاستفادة من عاطفتهما، وحرصهما على مصلحة الزوجين القريبين منهما، كما أن إطلاعهما على أسرار حياة الزوجين، لا يشكل إحراجاً كبيراً، كإطلاع الأجانب ضمن المحاكم العامة، إضافة إلى تجاوز هذا التحكيم العائلي قيود ونفقات المحاكم العامة.
لكن ذلك مشروط بأن يأتي كل واحد من الحكمين بقصد الإصلاح، وعودة الانسجام والوئام بين الزوجين، لا بقصد الانتصار لطرف، أو الانتقام من الآخر. وهذا ما يؤكد عليه قوله تعالى: ﴿إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا﴾.
من يبعث الحكمين؟
الآية الكريمة ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ.....﴾ توجه أمراً بالمبادرة إلى بعث حكمين للمعالجة والإصلاح. ((فالظاهر وجوب هذا البعث وفاقاً لجماعة، لظاهر الأمر، ولكون ذلك من الأمر بالمعروف، ومن الحسب التي نصب الحاكم لأمثالها)).[1] وبه قال الشربيني الشافعي في مغنى المحتاج ونقله عن عدد من العلماء.[2]
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه مستحب وأن الأمر في الآية ((إرشاد إلى طريق من طرق الإصلاح فلا يستفاد منه الوجوب)).[3] ويرى أكثر الفقهاء ((أن المخاطب بالبعث ـ بعث الحكمين ـ الحكام المنصوبين لمثل ذلك)).[4]
ويبدو للمتأمل في الآية الكريمة: أن الراجح ما ذكره علماء آخرون، منهم السيد السبزواري، والذي قال ما نصه: ((حيث أن الموضوع من الإصلاح والمعروف، وهو محبوب عند الشرع، بل عند جميع الناس، فالخطاب متوجه إلى كل من يطلع على الموضوع، ويتمكن على رفع الشقاق بينهما، بقول حسن، وتدبير لطيف ونحوهما، مثل قوله تعالى: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ سورة الحجرات، آية10، ولا يختص بخصوص الحاكم الشرعي، إلا إذا كان تنازع و تخاصم بينهما، يحتاج إلى فصله بحسب موازين القضاوة وإن كان الاحوط تعيينه مطلقاً)).[5]
وليس هناك خلاف في جواز المبادرة واستحبابها من أجل إصلاح ذات البين، من قبل أي جهة، كأن يبادر الزوجان أو أهلوهما، أو الحاكم أو غيرهم ((وبالجملة ينبغي أن لا يكون خلاف في جواز البعث من كل من هؤلاء، ووجوبه إذا توقف الإصلاح عليه، خصوصاً الحاكم والزوجين)).[6]
فإذا بعث الزوجان حكمين من قبلهما، يعتبران وكيلين فيمضي قرارهما في حدود الوكالة الممنوحة لكل منهما، لا أكثر، وليسا حكمين حينئذٍ، في رأي أكثر الفقهاء، ويرى السيد الشيرازي صحة كون من يبعثهما الزوجان حكمين، أيضاً، قال ما نصه: ((صحة جعل الزوجين الحكمين بعنوان الحكم، كما يصح أن يكون بعنوان الوكيل، أو بالاختلاف، والفرق هو أن الحكمين يحكمان حسب ما يرياه صلاحاً، بعد جعلهما إياهما حكمين، بينما الوكيل لا يتمكن أن يعمل إلا في دائرة الوكالة، وهذا هو الفارق بين الأمرين )).[7] أما أهل الزوجين فلو بعثا شخصين للتحكيم في الشقاق، فيحتاج إلى إجازة الزوجين، ليكونا وكيلين عنهما، فيمضي رأيهما ضمن حدود الوكالة، أو على أساس أنهما حكمان كما هو رأي السيد الشيرازي. أو بإجازة الحاكم الشرعي، فيكونان حكمين ينفذ قرارهما. ولو بعث أهل الزوجين حكمين دون إجازة الزوجين أو الحاكم، فلا اعتبار لذلك، إلا في حدود الوساطة لإصلاح ذات البين.
وللحاكم الشرعي صلاحية بعث الحكمين حتى من دون رضا الزوجين، وخاصة إذا رفعت خصومتهما إليه.
ولو لم يكن حاكم شرعي، أو لم يمكن الوصول إليه، قام عدول المؤمنين بهذه المسؤولية، فتبعث الجهة المتصدية منهم الحكمين ويكون أمرهما نافذاً.
صفات الحكمين:
لكي ينجح الحكمان في مهمتهما الإصلاحية، ولتكون قراراتهما معتمدة من قبل الشارع، لا بد من توفر الصفات المساعدة على ذلك، وقد تحدث الفقهاء عن تلك الشرائط على النحو التالي:
1/القرابة من الزوجين: حيث نصت الآية الكريمة على أن يكون الحكمان من أهل الزوجين ﴿فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا﴾ لأن ذلك في الغالب أنجح لمهمة الإصلاح، وإذا كان الأجنبي أقدر على التأثير، فلا مانع من اختياره، وكذلك لو لم يكن لهما أهل، أو لم يكن من أهلهما من يصلح للقيام بهذا الدور، فيمكن اختيار أي عنصرين صالحين.
2/البلوغ.
3/العقل.
4/الصلاحية: بمعنى قدرتهما على القيام بهذا الدور، بمعرفة الأحكام المتعلقة بالحقوق الزوجية، وامتلاك الخبرة الاجتماعية. ويمكن أن يتعدد الحكم عن كل طرف، بأن يكون شخصين أو أكثر من جهة الزوجة، وكذلك من قبل الزوج.
5/العدالة: وهي شرط عند فقهاء السنة، أما فقهاء الشيعة فلم يشترطوا ذلك.
6/الإسلام: وهو شرط إذا كان الزوجان مسلمين.
7/الذكورة: وقد اشترطها بعض الفقهاء، وسكت عن ذلك أكثرهم، وصرح بعض الفقهاء بعدم اشتراطها. قال السيد السبزواري: ((الظاهر عدم اعتبار الرجولية فيهما بعد كون المرأة قابلة لذلك)).[8]
مهمة الحكمين:
الهدف الأساس للتحكيم، هو إصلاح العلاقات الزوجية، التي أصابها النزاع والشقاق، وإرجاعها إلى حالة الوفاق والوئام. ولإنجاز هذه المهمة، على كل من الحكمين أن يتحدث مع من يمثله بصراحة وانفتاح، ليعرف واقع حالته، وما يشكو منه، وما يطلبه، ويتحاور معه في الموضوع للوصول إلى نتيجة للمعالجة. ثم يلتقي الحكمان ويتدارسان الأمر بصراحة ووضوح، لا يخفي أحدهما على الآخر شيئاً مما له ارتباط بمعالجة الموضوع. ويتفقان على رأي واحد للحل، ورأيهما ملزم للطرفين، ((فكلما إستقر عليه رأيهما وحكما به نفذ على الزوجين، ويلزم عليهما الرضا به، بشرط كونه سائغاً، كما لو شرطا على الزوج أن يسكن الزوجة في البلد الفلاني، أو في مسكن خصوصي، أو عند أبويها، أو لا يسكن معها في الدار أمه أو أخته، ولو في بيت منفرد، أو لا تسكن معها ضرتها في دار واحدة، ونحو ذلك. أو شرطا عليها أن تؤجله بالمهر الحال إلى أجل، أو ترد عليه ما قبضته قرضاً، ونحو ذلك. بخلاف ما إذا كان غير سائغ كما إذا شرطا عليه ترك بعض حقوق الضرة، من قسم أو نفقة أو غيرهما.)).[9]
أما لو رأى الحكمان أن الحل هو الطلاق والفراق فهل يمضي قرارهما؟ فقهاء الشيعة يحصرون نفاذ أمر الحكمين فيما يتعلق بالإصلاح والجمع، أما التفريق فلا يمضي أمرهما فيه، إلا إذا كانا وكيلين عن الزوجين في ذلك، أو اشترطا منذ البداية أن لهما الجمع والتفريق، أو بموافقة الزوج على الطلاق، وإذا كان التفريق يتضمن بذلاً وفدية من الزوجة، فيحتاج مراجعتها وموافقتها. ويوافق الشيعة على ذلك أبو حنيفة والشافعي، وإحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل، وعند المالكية ينفذ أمرهما في الإصلاح والتفريق.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.