(لا يسخر قوم من قوم)
السخرية بين الجماعات
قال الله تعالى في كتابه الكريم:﴿يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن﴾ (الحجرات آية 11).
تبدأ العلاقات الإنسانية من أول نظرة. فإذا ما نظر الشخص للآخرين وأخذ عنهم انطباعات جيدة، فلا شك في أن العلاقة ستكون سوية وطيبة.
أما إذا أخذ من نظرته هذه انطباعات سيئة وعدم ارتياح فالعلاقة ستأخذ منحى وغير سليم، وكما يقول المناطقة: النتيجة تتبع أخس المقدمات.
التعامل مع الآخرين يعتمد على هذه النظرة الأولية، فإذا أقبل عليك شخص ونظرت إليه نظرة احترام وتقدير، أو كانت لك سابق علاقة طيبة معه، فإن شعورك تجاهه سيدفعك إلى حسن التعامل معه. على العكس فيما لو أخذت عنه انطباعاً سيئاً فإن تعاملك معه سيكون على أساس شعورك النفسي تجاهه.
العلاج يبدأ من الأساس:
الإسلام القويم وتعاليمه السمحة تريد أن تربي الإنسان على حسن المعاشرة والخلق مع الآخرين فذاك أدعى لترسيخ حالة الألفة والوئام في المجتمعات البشرية، لذلك فالإسلام يسعى لعلاج هذه الحالة النفسية من الأساس، يسعى لتوجيه النظرة الأولى والأحاسيس والمشاعر التي ستبنى عليها العلاقة بالآخرين من الأساس والقاعدة، فإذا ما قوي الأساس رسخ البنيان.
الآية الكريمة التي افتتحنا بها حديثنا تتحدث عن مفردة من مفردات الأحاسيس النفسية ـ إن صح التعبير ـ في العلاقة مع الآخرين وهي مفردة السخرية.
السخرية: تعني الـهُزء بالآخرين، والحالة النفسية للسخرية هي أن ينظر الإنسان إلى الآخرين نظرة دونية، نظرة احتقار وازدراء، وهذه النظرة تنعكس على ألفاظه معهم و إشاراته إليهم.
والقرآن الكريم ينهى نهياً قطعياً عن هذه الحالة السيئة لما يترتب عليها من آثار عكسية.
الإنسان السوي بطبعه فضلاً عن المؤمن ينبغي أن ينظر للآخرين نظرة احترام وتقدير كما يحب هو أن ينظروا إليه.
النظرة الدونية:
ولكن لماذا ينظر البعض للآخرين نظرة دونية؟
الآية الكريم تجيب على هذا التساؤل إجابة موضوعية، وترى أحد سببين:
السبب الأول: أن يرى الشخص في نفسه الأفضلية على غيره.
الآية الكريمة توجه الإنسان إلى أن يتفكر في نفسه وأن يجيب على هذا السؤال: هل تستطيع أن تقطع بأنك أفضل من هذا الذي تزدريه؟
قد يكون لهذا الشخص نقاط قوة لم تظهر لك، ولعله يصل في مستقبله إلى رتبة عالية ـ إن لم يكن في حاضره ـ أنت لا تصل إليها.
ثم هل يقبل الإنسان المؤمن أن يكون في موقع تحدٍ مع الله تعالى؟ هناك مراتب ومنازل إلهية، ولربما نظر الإنسان إلى شخص نظرة ازدراء واحتقار، وكان هذا الشخص عند الله عظيم القدر والمنزلة، فكيف سيبرر موقفه هذا أمام الله وهو قد أهان واحتقر ولياً من أوليائه؟
السبب الثاني: أن تتضخم عنده نقاط ضعف الآخرين.
وهل يستطيع شخص أن يقطع بأن ليس له نقاط ضعف؟ قد تنظر إلى شخص نظرة دونية بسبب نقاط ضعف تراها فيه ولعلّ عندك من نقاط الضعف ما هو أكثر وأفظع منه! وقد تكون نقاط ضعف غيرك لها ما يبررها، وكما قال الشاعر: ( لعلّ لها عذراً وأنت تلومها ). قد ترى شخصاً مسلماً يأكل في نهار رمضان فتعتبره عاصياً مذنباً، ولكنك لو بحثت عن السبب فقد تجده مريضاً أو مسافراً أو لأي عذر شرعي.
النساء والسخرية:
﴿يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم﴾ لا تسخر من شخص فلعله كان في موقعية ومرتبة أفضل منك وأنت لا تدري. ﴿ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن﴾ وهنا يُطرح سؤال لماذا أفردت الآية كلمة نساء وخصتهن بهذا الأمر؟
هناك أحد احتمالين: الأول، أن تكون كلمة قوم عند العرب تطلق على جماعة الرجال وفي أشعار العرب ما يدل على ذلك، فتكون الآية بذلك قد خصت الرجال والنساء. فـ ﴿لا يسخر قوم من قوم﴾ أي لا يسخر رجال من رجال، كما ﴿ولا نساء من نساء﴾.
الاحتمال الثاني، أن لفظة قوم تشمل الرجال والنساء، ولكن ورد تخصيص النساء فيما بعد لوجود هذه الظاهرة أكثر في أوساطهن سيما في تلك العصور، ولعلها لا تزال في أكثر أوساطهن إلى عصرنا هذا.
ولكن لماذا تشيع هذه الظاهرة أكثر في الأوساط النسائية؟
بعض البحوث الاجتماعية الميدانية تشير إلى أن غالب الأوساط النسائية يشتغلن ببعضهن البعض فتبرز حالة السخرية عندهن، ولعلّ من أسباب ذلك هو اهتمامات المرأة الاجتماعية والسياسية والفكرية المحدودة في أغلب المجتمعات وهذا ما يؤدي إلى اهتمامهن بالجزئيات كما هو الحال عند الرجال الذين لا تكون عندهم اهتمامات عالية.
حتى على صعيد المجتمعات، فالمجتمع إذا كان له فكر سياسي أو ثقافي ستكون اهتماماته ضمن هذا التوجه.
السجناء مثلاً وبسبب انعزالهم عن العالم الآخر لا يحصل لهم أن ينشغلوا بالقضايا السياسية أو الفكرية فينصرفوا إلى اهتمامات أخرى كالتنافس على مكان النوم، أو الطعام، أو النقاش حول كلمة صدرت من هذا وذاك.
المجتمع النسائي سيما في مجتمعاتنا العربية غالباً لا تكون عندهن اهتمامات كبيرة فينصرفن إلى خلافات تافهة مع نظرائهن.
مشروع الزواج الجماعي عندنا يكون للرجال فقط، وقد اقترحت مرة على بعض اللجان أن يخصصوا حفلاً جماعياًَ موحداً للعرائس، فذكروا بأن ذلك يصعب مع المجتمع النسائي لانشغالهن بالمقارنة بين هذه وتلك من حيث الفستان والشكل، وغيرها من الأمور وقد يوقعنا هذا الأمر في إشكاليات وحرج.
ربما يكون الأمر مضخماً ولكني أقول مؤكداً أنه حتى لو كان هذا الأمر موجوداً عند نسائنا فإنه ليس لنقص ذاتي في المرأة، وإنما بسبب الظرف التي تعيش فيه، حيث لا تكون آفاق الاهتمامات العالية مفتوحة للمرأة. وبسبب تضييق المجالات الهامة التي ترقى بالمرأة تكون حالة السخرية عندهن أكثر من الرجال ولذلك خصصن في الآية الكريمة ﴿ولا نساء من نساء﴾.
أسباب النزول:
هناك روايات عدة يذكرها المفسرون في أسباب نزول هذه الآية الكريمة نذكر منها:
الرواية الأولى: تقول بأنها نزلت في قوم كانوا يستهزئون بفقراء الصحابة مثل عمار، وخباب، وبلال، وسلمان، وصهيب، فهؤلاء كانوا موالي من غير القبائل القرشية، وبعض أبناء القبائل القرشية كانوا يرون أنفسهم أكفأ وأفضل منهم ولذلك يسخرون منهم ويعيرونهم فنزلت هذه الآية تنهاهم عن ذلك.
الرواية الثانية: يُذكر بأنها نزلت في عكرمة أبن أبي جهل. وأبو جهل معروف بموقفه العدائي للإسلام والدعوة وصاحبها، حتى أطلقوا عليه فرعون هذه الأمة. أما عكرمة فهو مسلم مجاهد ضد أعداء الإسلام ولكن بعض المسلمين كانوا يعيرونه بأبيه فإذا ما أقبل عليهم قالوا: جاء ابن فرعون هذه الأمة.
وهذا بالطبع فيه جرح لمشاعره، وكأنه يتحمل وزر أبيه، وهذا لا يجوز، ولذلك نزلت هذه الآية.
الرواية الثالثة: تقول بأنها نزلت في بعض أزواج رسول الله ، كانت أم المؤمنين صفية بنت حيي ابن أخطب وهي من أصل يهودي ثم أسلمت وصارت زوجاً لرسول الله فكان بعض النسوة يعيرنها بأنها يهودية الأصل، فشكت ذلك إلى رسول الله فقال : هلا قلتي لهن أن أبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد . وهناك من يذكر بأن أم المؤمنين عائشة كانت تعيرها بقصر القامة فنزلت هذه الآية.
من هدي الأئمة:
يروى عن زين العابدين علي بن الحسين رواية جميلة في سياق هذا الهدي القرآني لعلاج هذه الحالة النفسية يقول: «اجعل من هو أكبر منك بمنزلة الوالد »ولا أحد يقبل أن يهين والده، «والصغير بمنزلة الولد» والإنسان السوي لا تسمح له نفسه بتحقير ولده، «والترب بمنزلة الأخ» أي من هو في سنك،
«فأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره؟ وإن عرض لك الشيطان أن لك فضلاً على غيرك فانظر إن كان أكبر منك فقل سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني» من عنده خبرة عملية ثلاثون سنة لا يستوي هو ومن عنده عشر سنين في الوضع الطبيعي، وكذلك المؤمنون كلما تقدم بهم العمر زاد صلاحهم وعملهم الإيماني، «وإن كان تربك فقل أنا على يقين من ذنبي وفي شك من أمره فما لي أن أدع يقيني لشكي» لا أحد يرى في نفسه العصمة ولكن ليس من الصحيح أن ترمي غيرك بالخطيئة وأنت لا تعلم باطهنم، فما يعلم ذاك إلا علام الغيوب،
«وإن رأيت الناس يعظمونك فقل هذا لفضل أخذوا به» تعظيم الناس لك تفضل منهم عليك، لا يصبك الغرور والتعالي، وكما في دعاء كميل (وكم من ثناء جميل لست أهلاً له نشرته) ثم يكمل عليه السلام «وإن رأيت منهم جفاء فقل هذا لذنب أحدثته، فإنك إن قلت ذلك سهل الله عليك عيشك، وكثر أصدقاؤك، وقلّ أعداؤك»، يعلمنا كيف نحسن الظن بالآخرين ونحمّل أنفسنا المسؤولية، لا أن نتهم غيرنا ونبرأ أنفسنا.
السخرية بين المجتمعات:
السخرية بين شخص وآخر أمر سيء، ولكن الأسوأ منه أن تكون بين الجماعات، جماعة تسخر من جماعة والحال هنا تكون أشنع وأفظع لأن أثارها أشمل وأعم، ولذا يركز القرآن على النهي عن هذه الحالة ﴿لا يسخر قوم من قوم ﴾.
هذه الظاهرة السلبية مع الأسف تتفشى في المجتمعات المتخلفة حيث تعتقد بعض المجاميع أنها أفضل من المجموعات الأخرى، إما لنسب أو جاه أو مال، وهذا أمر يحاربه الإسلام، ولو راجعنا كتب الفقه باب النكاح مثلاً نرى أن الإسلام يشجع الناس على أن ينظروا إلى الشخص المتقدم للزواج بذاته وليس لأنه من القبيلة الفلانية، وإن كان النسب له دور لانعكاسه على سلوك الإنسان ولكن إذا تجاوز الإنسان هذه الانعكاسات فلا يبقى هناك مبرر. وهذه نقطة تغيب عن ذهن الكثيرين. الحسب والنسب يكون معياراً للتصور الأولي فإذا ما ذكر لك شخص لا تعرفه وقيل أنه من العائلة الفلانية المشتهرة بالتقوى والصلاح فسيتبادر إلى ذهنك صلاحه، بعكس ما لو كنت تعرفه فالاحتمال هنا يتوقف ويتحول إلى يقين.
بعض الأحيان تكون السخرية على مستوى المناطق فتجد من يسخر من أهل هذه المنطقة وتلك وهذه حالة سيئة موجودة في كثير من المجتمعات.
أحياناً تكون السخرية على أساس المستوى الاقتصادي فالأغنياء ينظرون إلى الفقراء نظرة ازدراء واحتقار. وفي بعض الأحيان تكون الانتماءات الاجتماعية وحتى الدينية سبباً للازدراء وهذا من أسوأ أشكال السخرية. فتسمع كثيراً عبارات تدل على السخرية عندما يذكر شخص لا ينتمي إلى نفس الجهة، هذا من المذهب الفلاني، وهذا من الحزب الكذائي، وهذا تابع للمرجع ... وهكذا كأن القائل بهذا يرى نفسه ومن معه في الدرك الأعلى وغيرهم في الدرك الأسفل. ومع الأسف فقد دخلت هذه الأمور في عباداتنا فجعلنا الانتماء المرجعي شرطاً لصحة الصلاة! والانتماء المناطقي مثلاً لشرط قبول شهادة الشاهد برؤية الهلال!
هذه أمور سيئة ولا ينبغي أن نقبل بها.
وقد أثبتت التجارب بأن الجماعات التي تنظر إلى نفسها نظرة نرجسية، ويرون الآخرين أقل منهم دائماً ما يكونون أقل فاعلية وعملاً ونشاطاً، يعيشون على حرير الأمجاد السابقة. وهذه الظاهرة بالإضافة إلى مقتها من قبل الله عز وجل تجعل أصحابها أمام موقف محرج في ساعة الجد، سيرون أن الآخرين هم الأكفأ وهم الفاعلين أما هم فليس لهم إلا أمجاد الماضي وكما يقول الشاعر:
أغنى بني تغلب عن كل مكرمةٍ قصيدة قالها عمر بن كلثوم
نأمل أن تتجاوز مجتمعاتنا هذه الظواهر السيئة، وأن نتحلى بأخلاق القرآن، وأخلاق رسول الله وآل بيته الطاهرين.
وصلى الله على محمد وآله أجمين.