|
|
جهود طائلة وإمكانات هائلة يصرفها الإنسان من أجل الاهتمام بجسمه وبحياته المادية، حتى أصبح كل جانب من جوانب الحياة المادية عالماً قائماً بذاته؛ ففي مجال الغذاء والطعام هناك: الزراعة وتربية المواشي وأسماك البحر، ومصانع الأطعمة والأغذية بمختلف ألوانها وأشكالها. وفي مجال الصحة والطب: هناك الجامعات والمستشفيات ومصانع الأدوية والبحوث والاكتشافات. وفي مجال الألبسة والأزياء وشؤون المنزل وقضايا الأناقة والجمال: هناك آفاق واسعة واهتمام كبير.
وعلى صعيد الاهتمام بالجانب العقلي من شخصية الإنسان تتقدم البشرية بخطى حثيثة لاكتشاف مجاهيل العلم والكون؛ فكل فرع من فروع المعرفة له تخصصه ومؤسساته، وهناك المدارس والجامعات ومراكز البحوث والدراسات، والمؤتمرات ودوائر المعارف والمجلات والمطبوعات. ولا تزال مسيرة الاختراعات والاكتشافات العلمية متواصلة متتابعة.
أما الجانب الروحي النفسي فهو البعد المهمل والمتروك من شخصية الإنسان، حيث لا يستأثر إلا باهتمام ضعيف بسيط، وحتى مجال دراسات علم النفس فإنها غالباً ما تنحو نحو الاتجاه المادي، وتتجاهل العمق الروحي المعنوي.
ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إن الرسالات والشرائع الدينية الإلهية إنما جاءت للاهتمام بهذا المجال الأساسي قبل غيره لأولويته على المجالين الآخرين، ولعلم الله تعالى بضعف البشر وتساهلهم فيه. فحينما يتحدث القرآن الحكيم عن أهداف بعثة رسول الله فإنه يضع هدف التزكية النفسية في المقام الأول، يقول تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾.
ورسول الله يعتبر أن دوره الأساسي ومهمته الرئيسية هي إنضاج وإكمال المستوى الروحي النفسي الذي تنبثق عنه أخلاق الإنسان وسلوكياته، يقول في الحديث المتواتر المشهور: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
لذلك فإن الثروة المعنوية والكنوز الروحية في الإسلام عظيمة وهائلة، وإنسان هذا العصر طغت فيه المادة، وسادت أجواءه الشهواتُ والأهواء، هذا الإنسان يعاني الآن فراغاً قاتلاً، وإهمالاً خطيراً في التوجه إلى خبايا أعماق نفسه، واكتشاف زواياها وجوانبها.
وما آلام البشر ومآسيهم المحزنة في هذا العصر والتي تتجلى في الحروب المدمرة، والاعتداءات الظالمة، والتمييز العنصري، والفقر والجوع المميت، والجرائم البشعة المنتشرة، والفساد الأخلاقي الفتّاك، وانتهاك حقوق الإنسان، كل ذلك ما هو إلا نتيجة طبيعية للفراغ الروحي والانحرافات النفسية.
إن البشرية اليوم، وأكثر من أي وقت مضى في حاجة ماسّة لثروات الإسلام الروحية وكنوزه المعنوية .. وهنا يأتي دور المسلمين في اكتشاف تلك الكنوز وكشفها للعالم.
غير أن المؤسف في الأمر ما يعانيه أكثر المسلمين من بُعد وابتعاد عن قيم دينهم وتعاليم شريعتهم حتى كادوا أن يساووا غيرهم في الجهل بمعالم الدين والتنكر لأحكامه مع تفوق الآخرين عليهم بالتقدم المادي.
ومع اليقظة الدينية الجديدة والصحوة الإسلامية المباركة التي يهبُّ نسيمها على المسلمين الآن، كان لابد من التوجه والاهتمام بالبعد الروحي الأخلاقي في الثقافة الإسلامية.
وهذه السطور المتواضعة بين يديك -أيها القارئ العزيز- هي محاولة بسيطة للمشاركة في الاهتمام بهذا الجانب الخطير، وكانت في الأساس مجموعة من الأحاديث والمحاضرات ألقيتها في فترات مختلفة، وقد نالت تسجيلاتها رواجاً وإقبالاً يكشف عن تلهف الجمهور لهذا النوع من الأحاديث، مما شجّع بعض الأخوة المؤمنين على كتابتها وتقديمها للطبع والنشر بعد شيء من التصحيح والتهذيب.. وإذ أقدمها اليوم مع تعديلات وتنقيحات لأعتذر للقارئ من غلبة طابع الأسلوب الخطابي على مواضيعها، وأضرع إلى الباري سبحانه أن يجعلني من المتعظين بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفع بها المؤمنين، وله الشكر والحمد على نعمه وتوفيقه.