حين يقول المجتمع شكراً
كان حفل التكريم الذي دعت إليه لجنة التكريم الأهلية بالقطيف، والذي أقيم بنادي الصفا بمدينة صفوى الحبيبة مساء الأربعاء المنصرم، وكرم فيه كوكبة من رواد العمل الاجتماعي، لفتة اجتماعية جميلة ونبيلة ورائعة، فتكريم الرواد في البذل والعطاء، والمساهمين في الفعل الاجتماعي الأهلي والتطوعي والباذلين لزينة الحياة الدنيا (المال)، ولكل ما ملكوه من وقت وجهد وطاقة لأهلهم ومجتمعهم، دليل ساطع على وفاء هذا المجتمع واعترافه بالفضل لرواده، وتقديره لما قدمه هؤلاء بنفس سخية وشعور طافح بالحب والإخلاص لأهلهم ومجتمعهم.
والتكريم هنا هو لحظة وفاء اجتماعية يتداعى فيها المجتمع لذكر من ذكره وشكر من قدم له، والثناء على ما بذله أخوه الإنسان، حباً واحتراماً وتقديراً لكباره وصغاره وتلبية لحاجاته وضروراته.
إن التكريم في شكله المألوف والمعروف الذي اعتدناه وسيتكرر علينا (إن شاء الله) هو مجموعة من القصائد المدحية والثنائية، وكلمات جميلة من الأدب الأصيل والثمين، وتشكيلة كبيرة من الدروع التذكارية والهدايا الرمزية، إنه الشكل والقالب الذي تحتويه احتفالية التكريم عادة والتي تنتهي غالباً بوجبة طعام على شرف المكرمين.
لكن حقيقة التكريم هي غير ذلك، إنها لحظة انتقال اجتماعية من حالة التنكر والتناسي والغفلة عن هذه القلوب الطيبة إلى حالة وجدانية جميلة مشحونة بالاعتراف بأدوار هؤلاء الرواد، والإقرار بصوت مرتفع ومسموع بما حصل عليه المجتمع من فضل عطائهم، كما أنها شهادة اجتماعية بإنسانية هؤلاء، وهي تختلف في معناها وفحواها عن الشهادات العلمية والأكاديمية وغيرها.
إنها لحظة انعطاف مهمة ينظر المجتمع فيها بايجابية لأهله ومنتسبيه، ويجهز على السلبية المقيتة التي لا ترى في المجتمع إلا ذوي المصالح الشخصية، ولا تختزل ذاكرتها إلا الصور المعتمة، التي لا يخلو منها مجتمع، ولا تنعدم في أي جماعة من الجماعات.
وفرق كبير بين أن تحدثك الروح السلبية عما صنعه هؤلاء بقولها: ماذا فعل هؤلاء؟ هل غيَّروا واقعاً؟ أو بدَّلوا فقراً؟ أو نقلوا المجتمع من سوء حاله إلى خير حال؟ ليحمِّلوا هؤلاء فوق طاقتهم واستطاعتهم، وبين الروح الايجابية التي تقول بتكريمها لهؤلاء، لو كان في مجتمعنا أعداد متكاثرة من أمثالكم لكنا في وضع أحسن وأرقى مما نحن فيه.
المكرمون ليسوا بحاجة إلى الهدايا والدروع التي قدمت لهم، ولعلي أصدق القول مع نفسي إن حدثتها بأن بعضهم ممنّ تربطني به لقاءات عديدة وجميلة، يتضايق من كلمات المدح والثناء، وينزعج للإطراء ، ويحب البذل والعطاء في هدوء وصمت مذهلين، وثقتي تامة أن الآخرين يشتركون معه في هذه الصفات الطيبة، كما أن اعتقادي جازم أنهم جميعاً لم يقبلوا بحفل التكريم إلا لأجلنا، فنحن أصحاب الحاجة لهذه الاحتفالات، وحاجتنا أن نسمع منهم كيف سيطروا على فرديتهم؟ وكيف طوعوا ذاتهم؟ وكيف ارتضعوا ثقافة الإيثار والبذل لتؤتي أكلها في أموالهم وأوقاتهم وراحتهم واهتمامهم بمجتمعهم . دعونا يا لجان التكريم العزيزة نأخذ مبتغانا من احتفالات التكريم، ولتكن برامج احتفالات التكريم قسمة عدل بيننا كمجتمع وبينكم كرواد ومبادرين، أنني اقترح ( وأرجو أن تتسع صدوركم لاقتراحي) أن نعطي للشخصية المكرمة وقتاً جاداً وكافياً لتنقل لنا تجربتها في العمل والعطاء، ولتحدثنا عن صراعاتها النفسية والداخلية مع العطاء والبذل والعمل التطوعي، وكيف انتصرت عليها؟ وعن الضغوط الاجتماعية وكيف واجهتها؟ وعن الآثار التي لمستها جراء عملها التطوعي وبذلها السخي، وعن لحظات الضعف التي اعترتها وكيف ثبتت واجتازتها بنجاح؟
نحن أيها السادة بحاجة إلى استفادة الدرس والعبرة والتحفيز من الاحتفالات، لتكون هذه الاحتفالات التكريمية المباركة بمثابة تحضير لرعيل قادم، وأجيال واعدة، تسلك مسلك الإنسانية والحب لمجتمعها.
إذا كان في مجتمعنا رجال يستحقون التكريم والشكر، ففيه نساء رائدات باذلات كريمات مجتهدات في دعمه ومساندته، ليس ذلك لان وراء كل رجل عظيم امرأة، بل لان قبل كل رجل عظيم امرأة اكبر عظمة ومكانة، حين أهدت لنا ممن تكون في رحمها وشرب من لبنها، وتربى على يديها رجالاً كهؤلاء، ان تلك الأمهات أنجبن كذلك بنات يرفع بهن الرأس، ولسنا بحاجة إلى أكثر من أن نلتفت عن يميننا وشمالنا لنجد هامات عالية من نسائنا وبناتنا اللائي يشاطرن الرجال في ريادة العمل الاجتماعي ويحفرن مكانتهن في قلوب الناس بعطائهن وسخائهن وجهدهن وجهادهن، وحقهن ألا ينسى هذا الفضل لهن.
لقد اخذ الرجال المبادرة وكرمّوا الرجال في أكثر من حفل، والأمل قوي أن تذكر المرأة وتكرم في الاحتفالات القادمة، مع مراعاة مختلف الجوانب (الشرعية وغيرها) اللازمة لهذا التكريم، وإذا كان ثمة صعوبات في هذا التكريم فعلى المرأة أن تبادر لإقامة احتفالات نسائية تكريمية خاصة بالرائدات في مختلف مجالات العمل والعطاء الاجتماعي والعلمي وغيرها.