حيوية النقد في السعودية
بإكبار وشجاعة تخرج علينا صحفنا كل صباح وهي تحمل من النقد والإشارة للخطأ ما يجعل الإنسان مبهوراً من المساحة المتاحة للنقد في ظرفنا الراهن، وفي بلادنا التي لم تشهد هذا الحراك وبهذه القوة والشفافية سابقاً.
لقد بلغ النقد بحيويته كل أنحاء الحياة العامة، وعوضاً عن الكم الهائل من المحرمات سابقاً، أصبحت المحرمات في نطاقات محدودة وضمن أطر قابلة للتأجيل مبدئياً، أما بقية الأمور الإدارية منها والدينية فقد أصبحت أصابع النقد تتجه إليها مباشرة ضمن شعار جميل يحمله غالبية النقاد وهو أن النقد طريق سليم لإصلاح الحال، وتغييره إلى الأحسن.
أخص هنا الجهة الدينية في المملكة العربية السعودية والتي تتحمل نقداً بالغ القسوة لكنها تتعامل معه بأريحية منقطعة النظير، وكأنها توحي للجميع أنها معادلة صعبة ومتجدرة في الذات الاجتماعية، وأن النقد لا يزيدها إلا صلابة وتصحيحاً للمسار، فهي لا تخاف ولا تخشى، فالناس يسلمونها الزمام، وهي ترى في نفسها القدرة على مشاركة السياسي ومواكبة مستجدات الساحة.
في هذا السياق يخالجني شعور مؤداه أن غالبية الكيانات والأطياف الدينية في المملكة لم ترتقِ لما ارتقت إليه المؤسسة الدينية الرسمية من حالة النقد العلني والمكشوف، فتلك الكيانات لاتزال مسكونة بالخوف من نشر غسيلها وانكشاف صورتها أمام الملأ، ولاتزال تبحث عن قداستها في الصمت والركود والتجاوز عن العثرات بإغماض العيون وصم الآذان، ولذلك أسباب ليس هنا محل ذكرها.
أعطف بالقول: لقد عصفت كتابات الليبراليين عصفاً شديداً وهي تنتقد وتقسو في نقدها على المؤسسة الدينية، لاحظ ذلك في كتاباتهم الفكرية ورواياتهم الأدبية، وأدبياتهم الساخرة، ثم تطور الحال إلى دراما تلفزيونية أخذ وهجها وبريقها داخلياً المسلسل الرمضاني «طاش ما طاش»، وتدحرج النقد ليصل إلى أئمة الجماعة وخطباء المساجد، وحلقات تدريس القرآن الكريم، ثم امتد النقد إلى جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسلط الإعلام أضواءه على هفواته كبيرها وصغيرها، ثم انتقلت الحملة إلى جهاز القضاء لتثار الكثير من القضايا وفي مختلف مدن المملكة بحركة محمومة من المحامين القانونيين الذين قبلوا النزال والتحدي، بعدها خطف الإعلام العالمي حركة النقد الداخلي ليحولها واحدة من أجنداته وبرامج ساسته في حملاتهم الانتخابية وتلميع مواقعهم في الدفاع عن كرامة الإنسان كما يدعون.
أمام كل ذلك لابد من التنويه إلى بعض الأمور:
الأول: مجتمعنا مجتمع مسلم، وبلادنا بلاد دينية فهي مهبط الوحي وقبلة المسلمين وفيها من روحهم وأرواحهم وروحانيتهم ما يبقيها مسلمة مؤمنة إلى أن تقوم الساعة، إننا لا نتمنى رؤيتها لحظة واحدة وهي في مسلكية تجانب الدين لا شعباً ولا كيان دولة، لا نريد لبلادنا الانفلات، فتجارب الدول القريبة قبل البعيدة في الانفلات مخزية ومحزنة، طالت في آثارها السيئة المبادرين والداعين للانفلات قبل غيرهم، واكتشفوا أن قدراتهم وإمكاناتهم مشلولة أمام الطوفان الذي فتحوه على أنفسهم ومجتمعاتهم من مشارب الضياع ومسالك الجريمة والفاحشة، كما استيقنوا أن طغيان الإنسان وعبثه لا حد له إن لم يؤطر بقانون أو يحكم بقيم.
الثاني: ما ذكر أعلاه لا يجب أن يدفعنا للتمسك بإجراءاتنا وتصرفاتنا باعتبارها حقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فنحن بشر قابل للخطأ والصواب، كما أن لعامل الزمن وتطور الأحوال أثره في قبول الناس لتصرفاتنا بالأمس، والانزعاج منها اليوم، فلابد من تطوير سلوكنا وتحسين تصرفاتنا وأدائنا، وتأهيل من يعمل في سلك الدولة الديني ليواكب الزمن والحضارة والتغيير الذي طرأ على حياة الناس وأفكارهم ونظرتهم للأشياء.
وإذا أردنا أن نتمسك بشيء فهو روح الدين وقيمه وآدابه وأخلاقه، وما عدا ذلك فسيكون في تمحيصه وتشذيبه مصلحة للقائمين على العمل الديني وللمجتمع أجمع.
الثالث: لابد من قوانين وأطر تنظم مختلف نواحي حياتنا العامة، ولنا في نظام البيعة الذي تبناه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله تجربة رائعة، فقد سنّ أطراً وتقنينات لما كان في السابق مفتوحاً على مصراعيه من دون أطر وقوانين، وعلينا كمؤسسات دينية أن نواكب ونستفيد من هذه التجربة الشجاعة، فنجدّ السعي لتقنين أمورنا ودسترتها، وتحويلها إلى قوانين منصوصة، تعرّف الجريمة وتحدد ملامحها، وفي المقابل تشير إلى عقوبتها بشرعية وقانونية تبعدها عن شخصنة القاضي، الذي لا يعدو كونه بشراً قد يتحكم فيه انزعاجه أو قربه أو انتماؤه، أو سوى ذلك من الأمور التي تعتري البشر (وإذا كان المطلوب منا شرعاً أن نحمله على محامل الخير) فإن ذلك لن يغير من بشريته شيئاً.
ولابد هنا من الشراكة بين الشرعي والقانوني في تقعيد نصوص تصلح أن تكون مرجعية واضحة لمختلف القضايا والأحكام.