لابد من دق جرس الإنذار
مؤسسات العمل الأهلي .. ومسؤولية حماية أمن المجتمع
يُفترض أن يشعر الإنسان بالأمن والاطمئنان في محيطه الاجتماعي، فالمجتمع هو عائلة الإنسان الكبيرة، والحصن الذي يلجأ إليه لدفع أي عدوان خارجي.
وأسوأ ما يواجهه الإنسان أن يشعر بالخوف على نفسه أو ماله أو عرضه من داخل مجتمعه، وتلك هي الحالة المرعبة التي تخشى مجتمعاتنا من الوصول إليها، في ظل تصاعد الجريمة والانحراف، بعد أن كانت هذه المجتمعات تعيش مستوى تُحسد عليه من الأمن الاجتماعي والاستقرار الداخلي.
فقد شاع استعمال العنف لأتفه الأسباب، وصار اقتناء السلاح أمراً مألوفاً، بل أصبح هناك تفاخر بكثافة إطلاق النار في بعض حفلات الزواج.
وفي كل يوم تقع جرائم قتل في المملكة العربية السعودية، بمعدل 43 جريمة قتل يومياً، حسب إحصاءات الأمن العام السعودي، التي سجلت حدوث 15492 جريمة قتل لعام 2006م.
عدا حالات النزاع والطعن بالسكاكين والآلات الحادة التي يسلم فيها الضحايا من الموت.
أما جرائم السرقة والاعتداء على الأموال والممتلكات الخاصة والعامة فحدّث ولا حرج، من اقتحام البيوت والمنشآت، وسرقة السيارات وموادّ البناء. كما تحصل اعتداءات مسلحة بعض الأحيان في وضح النهار على بعض المؤسسات التجارية، لأخذ ما في خزائنها تحت التهديد، ووصل الأمر إلى نهب أجهزة التليفون النقال من أيدي أصحابها، وخطف حقائب النساء منهن وسط الشوارع والأسواق.
إن إحصاءات الأمن العام السعودي تشير إلى وقوع 39608 جريمة سرقة لعام 2006م، بمعدل 110 جرائم يومياً، لكن هذا الرقم يقتصر على جرائم السرقة التي تصل عنها بلاغات إلى الأجهزة الأمنية، ومن المقطوع به أن نسبة عالية من حوادث السرقات لا يبلغ عنها ضحاياها لسبب أو لآخر.
والأكثر إثارة للقلق هو الخطر على الأعراض، بدءاً من المعاكسات التليفونية، ومحاولات الاستدراج والإغراء عبر محادثات الشات على الانترنت، والتعرض للفتيات والنساء في الأسواق والأماكن العامة، وانتهاء بحوادث الخطف والاغتصاب التي لم يسلم منها الأولاد القصّر ذكوراً وإناثاً.
ومطالعة عابرة لأي جريدة يومية محلية في السعودية ودول الخليج تكشف للإنسان تحوّل الجريمة إلى ظاهرة متنامية في هذه البلدان والمجتمعات.
إننا لا نريد أن نرسم صورة قاتمة سوداء عن واقع مجتمعاتنا، ونعلم أن ما يحدث هو إفراز لمشكلات اجتماعية قائمة، وأنه من آثار تحولات وتطورات الحياة، وانعكاس لواقع العولمة والانفتاح. وندرك أن مجتمعات أخرى تعيش واقعاً أفظع وأسوأ مما نحن فيه.
لكن ذلك يستوجب أن نقرع جرس الإنذار، وأن لا ننتظر الوصول إلى الأسوأ، فأمن المجتمع في خطر، ولا بد من إعلان حالة استنفار وطوارئ اجتماعية وأخلاقية، لوضع حدٍ للتصاعد المرعب في حوادث الإجرام والعدوان.
وإذا كانت الدولة مسئولة بالدرجة الأولى عن حفظ امن المواطنين، فإنها لن تستطيع مهما أُتيت من قوة أن تنجز هذه المهمة بعيداً عن مشاركة المواطنين وتحملهم للمسؤولية إلى جانب الدولة على هذا الصعيد.
إن من يمارسون الإجرام والعدوان ويعبثون بأمن المجتمع، لم يأتوا من كوكب آخر، ولا هم عناصر غريبة وافدة، بل إن معظمهم من أبناء المجتمع وأفراده، عدا نسبة من الأجانب الوافدين.
وذلك يكشف عن خلل في بنية المجتمع، وضعف في الحصانة الأخلاقية لأبنائه، وتقصير في الأداء التربوي، كما يكشف عن اهتزاز النظام القيمي، والالتزام الديني.
ومعالجة هذه النواقص وسدّ هذه الثغرات هي في الأساس وظيفة القوى الواعية في المجتمع.
بل إن للمجتمع الأهلي دوراً في تذكير أجهزة الدولة بمسؤولياتها الأمنية، والمتابعة معها والرقابة عليها، والتعاون معها من أجل إنجاز وظائفها بالمستوى المطلوب.
يتعاظم دور المؤسسات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني في المجتمعات المتقدمة، ويمتد إلى مختلف مجالات الشأن العام، فلا تكاد تجد جانباً من جوانب الحياة إلا وهناك جمعيات ومجموعات تطوعية توجّه جهودها للاهتمام به، بدءاً من الشأن السياسي وانتهاءً بقضية الرفق بالحيوان.
ولا شك أن وجود هذه المؤسسات الأهلية في تلك المجتمعات، هو من أهم مقومات قوتها واستقرارها، وتجديد الحيوية والنشاط في أوساطها.
وهو مظهر لإحساس الناس هناك بالمسؤولية تجاه قضايا الحياة، والتصدي لتحمل أعبائها. ومع قوة حكوماتهم ووفرة إمكانياتها، لكنهم لا يلقون الأعباء كاملة على كاهل الحكومات، بل يشاركونها إدارة مختلف شؤون الحياة.
وفي القضايا الاجتماعية بالذات تنتزع هذه المؤسسات الأهلية زمام المبادرة، وترى نفسها أولى وأقدر من الحكومات على مواجهتها.
تقول (ميليسا بيرمان) الرئيسة التنفيذية لمؤسسة روكفيلر فيلانثروبي ادفايزر – مؤسسة استشارية غير ربحية: (إننا في المجتمع الأمريكي عموماً فقدنا قناعتنا بأن الحكومة هي المكان الذي تتم فيه الحلول للمشكلات الاجتماعية، فمن أيام ثورة ريجان فصاعداً انجذبنا إلى الرأي بأن القطاع الخاص هو الذي سيوجد حلولاً ابتكارية وفعالة، والحل الحيوي الوحيد الذي نراه الآن يتمثل في المشاريع الخاصة، والعمل الخيري الخاص لذلك ننظر إليه لحل المشكلات)[1] .
لقد تم إنشاء مؤسسة كارينجي بنيويورك عام 1911م بوقف يساوي 136 مليون دولار لدعم المكتبات العلمية، وتوفير نظم التقاعد لأساتذة الجامعات.
وقامت مؤسسة روكفلر الخيرية بتمويل الأبحاث الطبية لتطوير اللقاح ضد الأمراض المستعصية آنذاك، بالإضافة إلى البحوث الزراعية التي رفعت من مردود زراعة القمح والأرز.
كما تأسست مؤسسة فورد سنة 1936م برأسمال يفوق 11 مليار دولار لمعالجة مسائل عالمية معقدة مثل إيجاد الحلول للصراعات الإقليمية ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وخصص رئيس مايكروسوفت (بيل جايتس) أكثر من 25 مليار دولار لإنشاء مؤسسة للعمل الخيري[2] .
ويبلغ عدد الجمعيات الخيرية في الولايات المتحدة الأمريكية (1.514.000) جمعية، وفي ألمانيا: (800.000) جمعية، وفي فرنسا: (600.000) جمعية، وفي بريطانيا: (350.000) جمعية، ويوجد في إسرائيل أكثر من 35 ألف منظمة غير ربحية[3] .
ومن المؤسسات الأهلية التي تلفت النظر وتشدّ الانتباه، تلك المؤسسات التي تُعنى بنشر القيم والتبشير بالتوجهات الأخلاقية في المجتمعات الغربية، ومن نماذجها الحركة التي انطلقت في باريس سنة 1993م للمحافظة على العفة، تحت عنوان ( الحب الحقيقي يستطيع الانتظار) وقد ضمت حوالي 600 عضو من الشباب والشابات الذين تتراوح أعمارهم ما بين 17 و 25 سنة، يلتزمون كتابةً بالمحافظة على عفافهم وطهارتهم، أي عدم ممارسة علاقة غير شرعية. هذه الحركة الفرنسية نشأت تحت إشراف جمعية تدعو إلى العودة إلى القيم العائلية.
وسبقتها حركة مماثلة في الولايات المتحدة الأمريكية بها حوالي 250 ألف شاب وشابة يجمعهم هدف واحد هو المحافظة على العفة[4] .
وذكر تقرير عن حركة التطوع في أعمال المساعدة المدنية والأهلية في المجتمع الياباني أنه أحصى في سنة 1999م سبعة ملايين متطوع اجتمعوا في نحو مئة وعشرين ألف رابطة وجمعية يفوق عدد متطوعاتها عدد المتطوعين الذكور[5] .
إن وجود المؤسسات الأهلية، وتفعيل دورها العام، هو من أهم عوامل حماية الأمن الاجتماعي وقاية وعلاجاً، فهي تساعد على تقليص دوافع الإجرام، كما تسهم في تأهيل المتورطين فيه، واستعادتهم إلى أجواء المواطنة الصالحة.
تحقق مؤسسات العمل الأهلي أغراضاً إيجابية كبيرة تخدم قوة المجتمع، وتعزِّز أمْنه واستقراره فهي:
أولاً: تخلق وتنمي الشعور بالمسؤولية لدى الأفراد تجاه مجتمعاتهم، وتكرّس في نفوسهم قيم الخير والعطاء، ولا شك أن هذا الانشداد الإيجابي للمجتمع، يمثل نوعاً من الحصانة الذاتية من الانزلاق في مهاوي الإجرام والفساد، فأكثر من يتورطون في الإضرار بأمن المجتمع، هم من يحملون مشاعر سلبية تجاهه، كردّ فعل لضغوط يعانونها، أو لتأثرهم بأفكار خاطئة.
ثانياً: تستوعب وتحتوي الطاقات من أبناء المجتمع، لتوجهها الاتجاه الصحيح، وخاصة من شريحة الشباب، الذين لديهم فائض من الوقت والطاقة، وطموح لتكوين الذات وانتزاع الدور، وإذا لم توفر لهم الأجواء الصالحة، والقنوات المناسبة، فقد يضيعون في المتاهات، ويصبحون عبئاً على أمن المجتمع.
إن قيام منظمات المجتمع المدني، ومؤسسات العمل الأهلي، تفتح آفاقاً واسعة أمام شريحة كبيرة من جيل الشباب والشابات، ليصرفوا فائض جهدهم ووقتهم، فيما يصقل مواهبهم وقدراتهم، ويخدم مجتمعاتهم وأوطانهم.
ثالثاً: تقدم الحلول والمعالجات للمشاكل الاجتماعية، حتى لا تتفاقم، وتصبح بؤراً منتجة للاضطراب وتقويض أمن المجتمع.
فمشكلة الفقر مثلاً، وضعف التعليم، ومشكلة البطالة، والخلافات الأسرية، والصراعات الداخلية في المجتمع، وأمثالها توفر أرضية خصبة للإجرام والإرهاب.
ووجود جمعيات خيرية، ومؤسسات أهلية، تقوم إلى جانب دور الدولة الرئيس، بالتصدي لمعالجة هذه المشاكل، والاهتمام بمناطق الضعف والحاجة في المجتمع، يساعد كثيراً في التقليص من مساحتها، واحتواء آثارها ومضاعفاتها.
رابعاً: تتبنى بعض المؤسسات الأهلية الاهتمام بنشر ثقافة الفضيلة والالتزام الأخلاقي، والتبشير بقيم الخير والصلاح، ووضع البرامج والخطط لمقاومة كل سلوك منحرف، وكل اتجاه ضار بأمن المجتمع ومصلحة الفرد.
إن افتقاد مثل هذه المؤسسات، يجعل ساحة المجتمع مكشوفة أمام إرادات السوء والانحراف، من داخل المجتمع وخارجه، خاصة في عصر العولمة، الذي تحولت فيه اتجاهات الفساد والإجرام إلى مافيات دولية، وشبكات عالمية، بادرت إلى توظيف تقدم التكنولوجيا، ووسائل الإعلام والاتصالات، في اختراق جميع الشعوب والمجتمعات.
وتشير التقارير الدولية إلى اليابان باعتبارها ذات أفضل تجربة في الاستفادة من العمل الأهلي، والإسهام الاجتماعي، للتصدي للجريمة وحماية أمن المجتمع. حسبما ورد في تقرير لمعهد بحوث الأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية UNRISD سنة 1995م.
فاليابان ـ قياساً إلى غيرها من البلدان ـ ذات نسبة متدنية من الجرائم، ولربما خلال الخمسين سنة الأخيرة، البلد الوحيد في العالم الذي تتناقص فيه معدلات الجريمة، ويعود قدر كبير من النجاح إلى ما يقوم به المجتمع، وإلى عدد كبير جداً من منظمات مكافحة الجريمة: فجمعيات منع الجريمة مثلاً، فيها540 ألف وحدة ارتباط، ومنظمة إرشاد الشباب فيها 126ألف متطوع متعاون، وجمعية المرأة لإعادة التأهيل تضم 320 ألف متطوعة، أما جمعية الضباط المتطوعين فتضم 80 ألف عضو.
وتركز الكثير من هذه المنظمات العاملة في الأحياء والمدارس، ومواقع العمل، جهودها على منع الجريمة. لكن المواطنين أيضاً يقومون بدور مهم بعد الإدانة في عملية الإصلاح.
ويُسهم الكثير من الأهليين مثلاً في نظام (الطبيب الزائر) الذي يقوم من خلاله كبار السن من المعلمين والمرشدين الاجتماعيين، والمحامين، والقسيسين وغيرهم، بتقديم النصح والإرشاد إلى المعتقلين في السجون، والشباب في الإصلاحيات.
وهناك ألوف من المواطنين الآخرين يحاولون تضييق الفجوة بين السجناء وبقية أفراد المجتمع، عن طريق تنظيم أنشطة تربوية وثقافية وفعاليات أخرى للنزلاء.
لذا فحين تنقضي فترة الحبس يساعد المجتمع المحلي على إعادة دمج الجناة السابقين في مجتمعهم[6] .