اختلال الأمن الاجتماعي
لماذا تتصاعد معدلات الجريمة في الدول الخليجية؟
كانت مجتمعاتنا الخليجية إلى وقت قريب تنعم بدرجة عالية من الأمن الاجتماعي، بسبب وحدة نسيجها، ولبساطة الحياة، وسيطرة الأعراف والتقاليد، ودور الدين في ضبط تصرفات الأفراد وممارساتهم.
كانت حوادث الإجرام والعدوان نادرة محدودة، وكان الناس ضمن مجتمعهم يشعرون بالأمن على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
لكن تطورات الحياة أفرزت واقعاً جديداً يسلب الاطمئنان ويثير القلق في نفوس الناس على أمنهم الاجتماعي، فقد أصبحت حوادث الإجرام من ممارسة العنف، والسرقة والسطو على الممتلكات، وانتهاك الأعراض، وتهريب وترويج المخدرات حوادث يومية في مختلف دول الخليج
ولا تكاد تخلو الصحافة الخليجية يومياً من ذكر عدد من الحوادث في هذا السِّياق.
ومما يبعث على الفزع أن التقارير الصادرة عن الأجهزة الأمنية الرسمية في دول الخليج تشير إلى تصاعد خطير في معدلات الجريمة.
فقد ارتفع عدد الجرائم في السعودية ليصل إلى 90 ألف جريمة جنائية، بمعدل جريمة واحدة لكل 252 فرد في السعودية حسب إحصاءات الأمن العام السعودي لعام 2005م، وتتصدر حالة السرقة الجرائم الجنائية في السعودية بواقع 43489 حالة، تليها جرائم الاعتداء على النفس كالقتل وحالات الانتحار بواقع 14040 جريمة، تعقبها الجرائم الأخلاقية بواقع 10738 جريمة حسب الإحصاء نفسه. وتحكي هذه الأرقام ارتفاع معدل الجريمة عن معدلها عام 2001م إذ لم يتجاوز 73 ألف جريمة[1] .
ورغم أن إحصائية عام 2006م الصادرة عن الأمن العام السعودي قد أشارت إلى انخفاض طفيف في المعدل العام للجريمة، حيث كان الرقم هو 88609 جريمة، لكن المرعب في هذه الإحصائية هو الارتفاع النوعي في بعض مجالات الجريمة، فجرائم القتل التي كانت عند حدود 14040 حادثة سنة 2005م، بلغت 15492 جريمة قتل سنة 2006م، أي بزيادة 1452 حالة عن العام السابق[2] .
وتحدثت إحصائية لوزارة الداخلية الكويتية عن عام2004م أن متوسط إجمالي الجرائم في الكويت كل شهر 1571 جريمة، أي بمعدل 52 جريمة في اليوم[3] .
وفي سنة 2006م، بلغ عدد الجرائم 22062 جريمة أي بمعدل 62 جريمة في اليوم[4] .
إن أسباباً عديدة وراء هذا التصاعد في معدلات الجريمة واختلال الأمن، من أبرزها ضعف دور الأسرة وتأثيرها، والانفتاح الثقافي والإعلامي، وانحسار الوازع الديني، وضغوط الحياة المعيشية، وتفشي البطالة، وانشغال أجهزة الأمن بمواجهة الإرهاب، إلى ما هنالك من أسباب تخصصت في ذكرها ودراسة انعكاساتها الأمنية أبحاث ودراسات كثيرة.
إن الغالبية العظمى من أبناء مجتمعاتنا يعيشون هول الصدمة من واقع كانوا يسمعون عن مثله في بلدان أخرى، وكانوا يعتقدون أنهم بمنجى منه، لكنهم وجدوا أنفسهم محاصرين به.
إنه لا يفيدنا اجترار الحسرات على ماضٍ كنا نتمتع فيه بدرجة عالية من الأمن الاجتماعي، ولا ينفعنا إبداء التذمر وتهويل ما يقع من حوادث الإجرام، فتطورات الحياة لها انعكاساتها وإفرازاتها، كما أننا جزء من هذا العالم الذي يعيش المشكلة في كل أرجائه وأصقاعه، بدرجات متفاوتة، وواقع العولمة لا يتيح لنا فرصة الاختيار بين ما نريد وما لا نريد.
إنه تحدٍّ قائم لا يمكن تجاهله ولا تجاوزه، ولا يواجه بالتمنيات والآمال، بل يستلزم تعبئة الجهود والطاقات، ووضع البرامج والخطط، وتكامل الأدوار، بين مختلف قوى المجتمع وشرائحه.
إن ساحة مجتمعاتنا الخليجية بحاجة ماسة إلى تفعيل الدور الأهلي، واستنهاض القدرات الأهلية، من أجل حماية الأمن الاجتماعي، ومواجهة زحف الجريمة والفساد.
بيد أن هناك عدداً من العوائق وعوامل التثبيط التي تحدّ من حركة العمل الأهلي، لعل أبرزها ما يلي:
1. الاتكال على الدولة:
ينحو الناس باللائمة على أجهزة أمن الدولة في اختلال الأمن الاجتماعي، ويحمّلون سياسات الحكومة التعليمية والاقتصادية مسؤولية هذه الظواهر المرعبة، ويريدون من الدولة أن تتصدى لمواجهة العابثين بأمن المجتمع، وأن تصحّح سياساتها لاستيعاب أبناء الوطن وخاصة شريحة الشباب، بإتاحة فرص التعليم، وتوفير مجالات العمل، وتهيئة الظروف أمامهم لبناء مستقبلهم في الحياة.
ولا شك أن الدولة تتحمل المسؤولية الأكبر في إدارة شؤون البلاد والعباد، لكن ما يجب إدراكه هو أن أي دولة مهما كانت قدراتها وقوتها لا تستطيع أن تقوم بكل شيء، وأن تفعل كل شيء، فلقدراتها وتأثيرها حدود.
إن أقوى الدول تعليماً واقتصاداً وأجهزة أمنية كالولايات المتحدة الأمريكية، ودول أوربا، لم تستطع أن تمنع انتشار الجريمة، ولا أن تحمي أمن مواطنيها حماية كاملة.
لقد أجري استطلاع للرأي العام في الولايات المتحدة سنة 1994م، قامت به شركةABC للتلفزيون، بالتعاون مع جريدة الواشنطن بوست، فوجد أن 21% ممن أجابوا يعتقدون أن الجريمة الآن هي المشكلة الكبرى التي تواجه البلاد، كما كشف استفتاء آخر أن 40% ممن أجابوا قد غيَّروا أسلوب حياتهم خوفاً من المجرمين، وبيَّن المسح العام لضحايا الجرائم في أمريكا لعام 1992م أن هناك شخصاً واحداً من كل 73 شخصاً تزيد أعمارهم عن 35 سنة وقع ضحية جريمة عنف، وأن شخصاً واحداً من كل 13 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 12-17 سنة قد تعرض لجريمة عنف[5] .
وتشير آخر الإحصاءات إلى أن هناك جريمة قتل واحدة تقع في أمريكا كل 22 دقيقة، وأن هناك حالة اغتصاب واحدة في كل خمس دقائق.
وأن هناك حالة سرقة واحدة تقع في كل 49 ثانية.
وأن هناك حالة سطو واحدة تقع في كل عشر ثوان.
وتوصل البروفيسور (مورجان رينولدز) الأستاذ بجامعة تكساس في دراسة له عن السرقة في المجتمع الأمريكي، إلى أن هناك حوالي 500 ألف جريمة سرقة تقع في أمريكا شهرياً، وأن نصفها فقط يتم إبلاغ الشرطة عنها[6] .
ومع تركيز أجهزة الأمن الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر على مواجهة الإرهاب، زادت جرائم العنف والسطو والسرقة في أمريكا بدرجة ملحوظة، وكانت المباحث الفيدرالية قد قالت في عام 2005م بأن جرائم القتل قد زادت بنسبة 3٬4%، وهي أعلى نسبة زيادة منذ 15عاماً. وقالت في تقريرها أن عدد جرائم العنف قد وصل إلى أكثر من 1٬4 مليون جريمة في أنحاء الولايات المتحدة لعام 2006م. وأن أعداد السرقات زادت بنسبة 7٬2% عن عام 2005م[7] .
إذا كان ذلك يحدث في هذه الدول العظمى المستقرة سياسيًّا، والمتقدمة اقتصاديًّا، والمتفوقة علميًّا، فكيف بحال دولنا النامية؟
إن ذلك يدل على أنه حتى لو تحملت الدولة كل مسؤولياتها، وقامت بكل ما يتوجب عليها، فإن الجريمة ستجد لها مسارب لتعكير صفو أمن المجتمع.
بالطبع فإن تقدم سياسات الدولة، وقوة وجديّة أجهزتها الأمنية، سيحاصر الانفلات في الأمن الاجتماعي، ويساعد على خفضه وتقليصه، لكن تعدد بواعث ومصادر الجريمة، وتحولها إلى واقع عالمي، وتوفّر فرص التواصل والتأثير لشبكاتها وعصاباتها وتجارها، عبر الوسائل التكنولوجية والالكترونية المتطورة، كل ذلك يجعل الحرب معها سجالاً، والمعركة ضدها طويلة شاملة.
فلا بدَّ أن يشمّر المجتمع الأهلي عن ساعديه، ويستنفر قدراته، لتتضامن جهوده مع جهود الدولة، من أجل تجفيف منابع الإجرام، ووقاية أبناء المجتمع من السقوط في مهاوي الفساد والانحراف، ولحماية الأمن والاستقرار الاجتماعي.
تجدر الإشارة إلى أن الجهد الأهلي أبلغ تأثيراً في بعض المجالات المرتبطة بأمن المجتمع من عمل مؤسسات الدولة، كتفعيل دور الأسرة، وإحياء الوازع الديني في النفوس، ونشر قيم الفضيلة والأخلاق.
2. تشريع العمل الأهلي:
في الدول المتقدمة تفسح الأنظمة والقوانين المجال واسعاً لانطلاق مؤسسات العمل الأهلي، وتقدم الحوافز المغرية لإنشائها، وتقدم الدولة الدعم والتشجيع لمنظمات المجتمع المدني، مما أتاح الفرصة أمامها لاستقطاب الجهود والقدرات التطوعية، من أبناء مجتمعاتها، ومكّنها من كسب مواقع القوة والتأثير، واستفادت من مظلة الأمم المتحدة لتتحول إلى منظومة عالمية رديفة وموازية للمنظومة الرسمية الحكومية.
فأصبح للعمل الأهلي ومنظمات المجتمع المدني تأثير في صنع القرارات والتوجهات على مستوى دولها وعلى المستوى العالمي، وتصاعد دورها في معالجة القضايا الإنسانية والاجتماعية.
وهكذا أصبح من الممكن في عام 1998م بالتحديد أن يعلن الأمين العام للأمم المتحدة أمام الجمعية العامة في تقريره الذي يوثِّق مشاركة المنظمات غير الحكومية في منظومة الأمم المتحدة: إن مشاركة المنظمات غير الحكومية في المؤتمرات قد بلغت مستويات لم يسبق لها مثيل، ولم يعد دور هذه المنظمات قاصراً على أنها عنصر لنشر المعلومات، بل أصبحت جهات لتشكيل سياسات، حيث تمثل الجسور التي لا غنى عنها بين الجماهير عامة والعلميات الحكومية الدولية، وأن درجة حشد أي مؤتمر عالمي لاهتمام المنظمات غير الحكومية، وسائر منظمات المجتمع المدني، أصبحت أحد المعايير المهمة للحكم على نجاح المؤتمر[8] .
أما في عالمنا العربي فلا تزال هناك الكثير من التحفظات الرسمية والقيود النظامية على حركة العمل الأهلي، وانطلاق المؤسسات الاجتماعية، فإنشاؤها يحتاج إلى الإجازة والتصريح، وليس إلى مجرد الإشعار والتسجيل كما في الدول المتقدمة، والحصول على الموافقة بالتأسيس دونه خرط القتاد لدى أغلب الحكومات، وبعد ذلك فإن كل نشاط أو فعالية يراد إقامتها قد تحتاج إلى تصريح وموافقة، وهكذا تنتصب العوائق والعراقيل أمام حركة العمل الأهلي الاجتماعي.
لقد انعقد مؤتمر بتاريخ 19-22 يونيو 2006م في قرية (وايلد باد كروث) قرب مدينة ميونيخ في ألمانيا، لمناقشة دور مؤسسات المجتمع المدني العربي، تحت رعاية مؤسسة (هانس سيدل) Hanns Seidel Stiftung وهي أكاديمية للعلوم السياسية، وشارك في المؤتمر عدد كبير من الأساتذة المتخصصين والخبراء العرب والألمان، ومندوبون من دول عربية، كان من بينهم وفد سعودي، أحد أعضائه الدكتور صدقة يحي فاضل عضو مجلس الشورى في المملكة العربية السعودية، الذي قال: إن أهم ما خلص إليه المؤتمر هو: أن مؤسسات المجتمع المدني في معظم عالمنا العربي، ما زالت تحبو.... وما زال قيامها، وممارسة نشاطها، تحيط به الكثير من القيود والمعوقات الحكومية وغير الحكومية، وما لم تسهل مهمة قيام هذه المؤسسات، ويحرَّر نشاطها من الإجراءات المعيقة، فإن دورها سيكون هامشيًّا ومحدودًا. أي إن أهم عنصر لنجاح هذه المؤسسات هو الاستقلالية، وإن عدم توفر هذا العنصر يلغي مدنية تلك المؤسسات، ويحولها إلى مؤسسات حكومية، ومن ثم ينسف الغرض النبيل الذي استحدثت هذه الوسيلة من أجل تحقيقه[9] .
إن التحديات الكبيرة التي تواجهها أوطاننا ومجتمعاتنا، تستلزم تضافر الجهود الرسمية والأهلية، ومن مصلحة الدولة تفعيل دور المجتمع، لتخفيف الأعباء على كاهلها، ولتحقيق التنمية البشرية، وإشراك الشعب في تحمل المسؤولية الوطنية.