ثغرات تحتاج لجهود متخصصة
تحقيق الأمن الاجتماعي ومسؤولية العمل الأهلي التطوعي
بينما يندفع الناس في بلدان أخرى ضمن مؤسساتهم المدنية، ومنظماتهم الأهلية التطوعية لتبني قضايا إنسانية خارج حدود أوطانهم، وعلى المستوى العالمي، كالدفاع عن حقوق الإنسان، ورفض الحروب، وحماية السلم في العالم.
وبينما يبادر الناس هناك للاهتمام بأمن الحيوانات، حيث تتحرك مثلاً مسيرة في روما تضم أكثر من ألفي شخص للمطالبة بحماية القطط الضالة في المدينة[1] ، ترى غالبية الناس في بلداننا لا يبدون حماساً للعمل من أجل حماية مصالحهم العامة، وحفظ أمنهم واستقرارهم، ولا يبادرون للسعي والتحرك لمواجهة الأخطار التي تهدد قيمهم الأخلاقية، وكيانهم الاجتماعي.
بل يكتفون بإبداء التذمر والانزعاج، ويتبنَّون موقف التفرج وانتظار الحلول، ويتلاومون فيما بينهم ترامياً للمسؤولية للهرب من تحمل أعبائها، كما يقول تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ﴾.
إن مستوى العمل الأهلي والنشاط التطوعي لا يزال ضعيفاً جدًّا في مجتمعاتنا، ولا يتناسب أبداً مع خطورة التحديات التي نواجهها، ولا مع حجم الطاقات التي نمتلكها، ولا ينسجم مع مفروض انتمائنا لدين عظيم يحمِّل أبناءه المسؤولية تجاه واقع البشرية جمعاء يقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾.
هناك بالطبع أسباب تقف خلف تأخر مستوى العمل الأهلي في مجتمعاتنا، منها ما يرتبط بالواقع السياسي حيث تحتكر الدولة أمور الشأن العام، وتنخفض نسبة المشاركة الشعبية في صنع القرار، ولا تتسع القوانين لحرية العمل الأهلي إلا بحدود وقيود. لذلك تربى المواطنون على الانكفاء والانطواء، والانشغال بأمورهم الذاتية، موكلين كل ما يرتبط بالشأن العام إلى الدولة ومتكلين عليها.
ومنها أسباب تتعلق بالجانب الثقافي، حيث يفتقد الكثيرون الثقة بأنفسهم، ولا يمتلكون الطموح الدافع للقيام بدور كبير، وتبنِّي قضايا عامة، وتحقيق انجاز مهم.
كما يسيطر الهمُّ الذاتي على النفوس، ويتدنى مستوى الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، وغالب التوجيه الديني يركّز على المسائل العبادية الفردية، كأداء الصلاة، والحج والعمرة والزيارة، وتلاوة القرآن والدعاء، وإقامة المراسيم والشعائر الدينية، بينما لا يحظى الاهتمام بالشأن العام، وتحمل المسؤولية الاجتماعية، بما يستحقه من تركيز وتذكير.
وهذا ما يفسر إقبال شريحة المتدينين في مجتمعاتنا على هذه المسائل والمبالغة فيها، بينما يعزفون عن الاهتمام بقضايا الإصلاح الاجتماعي.
وليس المطلوب خفض الاهتمام بتلك البرامج الدينية، فإنها تؤدي دورًا ايجابيًا في تنمية نوازع الخير والصلاح، بل الارتقاء بسائر الاهتمامات الاجتماعية، والتعامل معها وفق التوجيهات الدينية التي تجعلها في موقع الصدارة والأولوية.
وهناك أسباب تتصل بالجانب الاجتماعي، وضعف إرادة التعاون والقدرة على العمل الجمعي، بما يتطلبه من التزام نظام، ومشاركة في القرار، وتنازل عن الرأي لرأي الأكثرية، وامتلاك مهارات الاتصال والإقناع.
إن توجهات التربية والثقافة، والأجواء السائدة في مجتمعاتنا، غالباً ما تكرّس الحالة الفردية، وروح الهيمنة، لذلك تكثر حالات التصدع والانشقاق حتى في المجموعات الصغيرة، بدل الاتجاه إلى تكوين التحالفات والتكتلات بين المجاميع والمؤسسات، كما يحصل في المجتمعات الأخرى.
مما يؤكد الحاجة إلى ضخ ثقافة العمل الجمعي، والتربية على العمل المؤسساتي، لتراكم الخبرة والتجربة لدى المواطنين في هذا المضمار.
تصاعد معدلات الجريمة، وارتفاع مؤشر اختلال الأمن الاجتماعي سنة بعد أخرى في دول المنطقة، يجب أن يدقَّ ناقوس الخطر في نفوس أبناء مجتمعاتها، فطوفان العولمة الجارف لا يتوقف زحفه، وثروات المنطقة تجعلها سوقاً مغرية لعصابات الإجرام، كما صرح بذلك أحد كبار المسؤولين في منظمة ( انتربول) الدولية (آراسندرا لينغام)، على هامش مؤتمر لمكافحة المخدرات، عقد في معرض (ميليبول قطر 96)، حيث ألقى كلمة دق فيها ناقوس الخطر، وأعطى أرقاماً دلّت على أن منطقة الخليج العربي باتت مستهدفة بشكل مركّز من قبل تجار المخدرات، وأن عصابات الإجرام تتطلع إلى هذه المنطقة بصفتها سوقاً جديدة مهمة[2] .
واستقطاب المنطقة للملايين من الأيدي العاملة الوافدة من مختلف المجتمعات والثقافات، يحدث اختلالاً في تركيبتها السكانية، ويُوجِد ثغرات في كيانها الاجتماعي.
يضاف ذلك إلى المشاكل القائمة داخل هذه المجتمعات، من أزمات تعليم، وبطالة، وصعوبات اقتصادية، وانعكاسات للتحولات الاجتماعية، وتأثيرات للتطورات السياسية في المحيط الإقليمي.
كل ذلك ينذر بوقوع ما هو أخطر وأسوأ في اختلال الأمن الاجتماعي، مما يستلزم حالة استنفار وطني عام، تتضافر فيه الجهود الأهلية مع الجهود الرسمية، لمواجهة هذه التحولات والتطورات، وللحفاظ على أمن المجتمع واستقراره، وحماية هويته وقيمه الأخلاقية.
إن هناك قضايا ومشكلات اجتماعية كثيرة تتطلب جهداً أهلياً مكثفاً للمعالجة، لتحصين أمن المجتمع، وسدّ الثغرات، ومواقع الخلل التي تنفذ منها عوامل الجريمة والفساد، ومن أمثلة تلك القضايا ما يلي:
الأسرة هي خط الدفاع الأول عن أمن المجتمع، حيث توفر الاستقرار النفسي، وتشبع الجوع العاطفي، وتوثّق صلة الفرد بمجتمعه، وحين تتعرض الأسرة للاهتزاز والتفكك، تنفتح على المجتمع أبواب الشر والفساد، وقد أصبح تكوين الأسرة أمراً بالغ الصعوبة عند أكثر الشباب والفتيات في الظروف الحاضرة، مما أدى إلى تأخير سنّ الزواج، وارتفاع نسبة العنوسة، وذلك من أهم أسباب الجرائم الأخلاقية وانتهاك الأعراض.
فقد جاء في دراسة للدكتور عبدالله الفوزان الأستاذ المشارك في جامعة الملك سعود بالرياض بتاريخ 17/2/2007م: أن نسبة العانسات في السعودية ارتفعت لتصل إلى أكثر من مليون عانس، فيما شهد عام واحد فقط 18 ألف حالة طلاق من أصل 60 ألف عقد زواج.
كما تتعرض الأسرة اليوم للكثير من الضغوط بسبب ضعف التأهيل للنجاح والتوافق العائلي، وللتأثير السلبي لوسائل الإعلام والاتصالات، وصعوبة توفير متطلبات الحياة.
ونتيجة لذلك تنهار كثير من الأسر، كما تحكي أرقام وإحصاءات وقوعات الطلاق، وتزداد المشكلات والنزاعات العائلية، حسب بيانات المحاكم الشرعية.
إن مجتمعاتنا بحاجة ماسّة إلى جهد أهلي مكثف، يهتم بقضايا الزواج والأسرة والتربية، بتأسيس مراكز ومؤسسات، لتيسير أمور الزواج، ولتأهيل الشباب والفتيات للنجاح في حياتهم الزوجية، ومساعدتهم في تجاوز المشكلات، وتكوين لجان لإصلاح ذات البين..
وقد حقق مشروع ابن باز الخيري لمساعدة الشباب على الزواج تجربة ناجحة في هذا المجال، حيث تأسس هذا المشروع في الرياض سنة 1420هـ 1999م، بهدف إعانة غير القادرين من الشباب على تحمل تبعات الزواج المادية، والمساهمة في علاج ظاهرة العنوسة، ويقدم خدماته ضمن مدينة الرياض في صورة قروض وهبات، كما توجد فيه إدارة لتقديم التوجيهات والإرشادات والدراسات التي يحتاجها الشباب المقبلون على الزواج، وتشير تقارير المؤسسة إلى أنه تصلهم يوميًّا ما يقرب من عشرة طلبات من الشباب للمساعدة والقرض من أجل الزواج، ويعمل المشروع على تزويج حوالي 2500 شاب وشابة كل عام.
كما خصص المشروع هاتفاً للاستشارات الأسرية، يقدِّم من خلالها الاستشارات بالتعاون مع مجموعة من المختصين في القضايا الأسرية والاجتماعية. وقد كانت هناك نتائج ملموسة من خلال تراجع كثير ممن يطلبون الاستشارات عن الطلاق.
وفي المشروع وحدة للإصلاح الأسري، وأخرى للإسهام في التوفيق بين راغبي الزواج من الجنسين للحد من ظاهرة العنوسة[3] .
إن كل مدينة وقرية في بلداننا بحاجة إلى مثل هذا المشروع.
تأسست في مجتمعاتنا جمعيات خيرية لمساعدة الفقراء والمحتاجين، لكنها بحاجة إلى تفاعل وتجاوب أكبر من قبل أبناء المجتمع، فرقعة الفقر والحاجة تتسع يوماً بعد آخر، بسبب الظروف الاقتصادية، كما أنه لم يعد كافياً في مواجهة الفقر تقديم مساعدات وإعانات شهرية أو موسمية، بل لا بدَّ من وضع حلول ومعالجات جذرية لمحاصرة الفقر، بتشجيع التعليم، وتوفير فرص العمل، والمساعدة على إنشاء المشاريع وموارد الدخل، والسعي لحل أزمة السكن، والاهتمام بالمعوقين من ذوي الاحتياجات الخاصة.
ولا بد من الإشادة بالمبادرات الخيّرة الريادية التي اهتمت بتقديم معالجات أساسية لحاجات الضعفاء في المجتمع، كحل أزمة السكن، وتوفير فرص التعليم والعمل.
ومنها مبادرة رجل الأعمال البحريني الراحل الحاج حسن بن علي العالي (1921-2003م) لكفالة الطالب الجامعي، حيث أنفق ما يزيد على المليون دينار بحريني (عشرة ملايين ريال سعودي) لرعاية ما يربو على ألفي(2000) طالب وطالبة لمواصلة دراساتهم العليا في جامعات البحرين ومعاهدها وفي خارج البحرين.
وكذلك مبادرته الأخرى لتوفير السكن المناسب للعوائل الفقيرة بإنشاء مساكن لهم أو ترميم مساكنهم، والتي بدأها سنة 1986م، في بعض قرى البحرين، وأنجز حتى وفاته بناء 213 منزلاً، أشادها على نفقته الخاصة، وقام بترميم وصيانة أكثر من ألف منزل[4] .
وعلى غرار هذه المبادرة جاءت مبادرة أسرة الجبر في منطقة الأحساء بإقامة مشروع للإسكان الميسر بكلفة 50 مليون ريال، يشتمل على 225 وحدة سكنية.
كما أسست شركة عبداللطيف جميل في السعودية، صندوقاً لدعم المشاريع الصغيرة، أسهم في توفير آلاف فرص العمل لأبناء العوائل الفقيرة.
إن مثل هذه المبادرات الخيّرة يجب أن تتحول إلى مسار في العمل الأهلي، لا أن تبقى في دائرة المبادرات الفردية المحدودة.
تصل نسبة الشباب في مجتمعاتنا إلى 55% وتنصب أكثر ضغوطات الحياة على هذه الشريحة، كما تستهدفها مختلف التيارات والتوجهات، وعصابات الإجرام، وأساليب الإغواء والإغراء، لذلك يشكلون النسبة الغالبية من المتورطين في قضايا الإجرام، وأدوات الإخلال بأمن المجتمع.
ولا يمكن المراهنة على القمع والعقوبة لردع هذه التوجهات في أوساط الشباب، بل لا بدَّ من احتضان هذه الشريحة، وتفهم ظروفهم ومشاكلهم، وفتح الآفاق أمامهم، وإتاحة الفرص التي تمكنهم من التعبير عن ذواتهم، وتنمية طاقاتهم والاطمئنان إلى المستقبل.
وهذا هو دور المؤسسات الاجتماعية والعمل الأهلي، بتكوين أندية ومنتديات وجمعيات للشباب، تشبع لديهم شعور الحاجة للانتماء، وتوفر لهم الثقافة الهادية، والبرامج المفيدة.
إن الشباب الذين يسقطون في مهاوي الإجرام والانحراف لا يصح أن يُنظر إليهم نظرة مقت وانتقام، بل ينبغي التعامل معهم كضحايا ومنكوبين، يجب تشكيل فرق إنقاذ لإسعافهم وانتشالهم من مهاوي الرذيلة والفساد، والعمل على إعادة تأهيلهم لتجاوز آثار تلك الأمراض التي ابتلوا بها.
وهناك مثلاً تجارب ناجحة لتعافي مجاميع من الشباب من حالة الإدمان على المخدرات، بعد أن توجهت لهم لجان مختصة، تمكنت من استنهاض إرادتهم، وإيقاظ وعيهم، فأصبحوا دعاة خير وصلاح في أوساط زملائهم السابقين.
وفي مدينة صفوى من مدن محافظة القطيف في المنطقة الشرقية، واكبت تجربة رائعة، قام بها الإخوة العاملون في مهرجان الزواج الجماعي، حيث كانوا يعانون من وجود ثلة من الشباب الطائشين الذين كانوا يستغلون المناسبات الاجتماعية للقيام بأعمال التفحيط بالسيارات والموتورسيكلات، بطريقة خطيرة مزعجة، وكان الكثيرون يدعون إلى مواجهتهم، والاستعانة بالأجهزة الأمنية لقمعهم وردعهم، لكن أحد المسؤولين في إدارة المهرجان فكر في السعي لإصلاحهم، فعقد جلسات ولقاءات مع بعض أقطابهم، واستثار نخوتهم الاجتماعية، وامتدح شجاعتهم وقوتهم، وطلب منهم أن يقوموا بدور متميز لحماية المهرجان وإنجاح انعقاده، واستطاع أخيراً تحويلهم إلى فرقة عاملة في المهرجان، تقوم بأصعب المهام التنفيذية العملية.
ما يعيشه كثير من الشباب من فراغ فكري، يجعلهم فريسة سهلة للتوجهات الانحرافية، التي تتقن صناعة الإغواء والإغراء، وتستخدم أفضل وسائل التطور العلمي والتكنولوجي.
كما أن ضعف الاهتمام التربوي، والتنشئة الأخلاقية، يجعل نظام المناعة عند شريحة الشباب ضعيفة قابلة للاختراق، بينما تحيط بهم أجواء فاسدة تتعدد فيها أساليب إثارة الغرائز وتحريض الشهوات.
إن الخطاب الديني التقليدي، والمواعظ الأخلاقية التقريعية، لا تستطيع مواجهة هذا الطوفان الجارف من الانحرافات الفكرية والفساد الأخلاقي.
فلا بدَّ من تجديد لغة الخطاب الديني، وتحديث أساليب عرض الأفكار والتوجهات، وإنشاء المؤسسات والمراكز التخصصية، لدراسة القضايا الفكرية والمشكلات الأخلاقية، وإجراء البحوث الميدانية والعلمية، لمعرفة طرق التأثير، وأساليب تعزيز الأمن الفكري والأخلاقي.
إن كل ثغرة من ثغرات الأمن الاجتماعي تحتاج إلى جهود مختصة لدراستها، ووضع الخطط لمعالجتها، واعتماد البرامج لمواجهتها، كمشكلة المخدرات، واستخدام العنف، والانحرافات الأخلاقية، والتصرفات الطائشة، وما أشبه.
إن هذه المواقع الشاغرة تحتاج إلى مبادرات وجهود أهلية مكثفة لملء الفراغ فيها، من كل شرائح المجتمع وخاصة الدعاة وعلماء الدين والأثرياء ورجال الأعمال.