الاختلاف في الاجتهاد ليس مبررا للإرهاب الفكري
في مواجهة التحديات المعرفية الخطيرة أمام الفكر الديني، وفي مقابل الطوفان الثقافي العالمي الجارف الذي يقتحم كل زوايا مجتمعنا وغرف بيوتنا، ويستقطب بوسائله الإعلامية والمعلوماتية المتطورة اهتمامات أبنائنا وبناتنا، هناك حاجة ماسة لتكثيف العطاء الفكري والثقافي من قبل المرجعيات والجهات الدينية.
كما أن تطور الحياة وتقدم مستوى العلم والمعرفة يستوجب تطوير استراتيجيات الطرح الديني، وتجديد خطط التثقيف والتوجيه.
إن على الساحة الدينية أن تثبت قدرتها على مواكبة التغيرات والاستجابة للتحديات. وذلك لا يتحقق إلا بتوجيه الاهتمام نحو التحديات الكبيرة، وبتضافر الجهود نحو الأهداف المشتركة، أما الانشغال بالخلافات الجانبية والقضايا الجزئية، فإنه يشكل هروباً من المعركة الأساس، ويضعف كل القوى الدينية.
لقد أصبحت حرية الرأي شعاراً ومطلباً لكل المجتمعات والشعوب، وأصبح الانفتاح والحوار بين الحضارات والثقافات نهجاً يتطلع إليه عقلاء البشر على مستوى العالم، فكيف سيقدم المتدينون أنفسهم أمام الآخرين، وهم لا يتحملون بعضهم بعضاً، ولا يحتكمون للحوار في خلافاتهم، ولا يستطيعون التعايش فيما بينهم واحترام بعضهم بعضاً؟
إن السمة الغالبة على من يمارسون الوصاية الفكرية استثارتهم لانفعالات المتدينين وتجييشيهم لعواطفهم، بعنوان حماية العقيدة والدفاع عن الثوابت والمقدسات، لكنهم لا يبذلون جهداً يناسب التحديات المعاصرة في إيضاح أصول العقيدة، وكأن العقيدة تتلخص عندهم في القضايا الجزئية التي يختلفون فيها مع الآخرين، كما أن بعضهم يخلط الأوراق في تحديد الثوابت والمقدسات، وكأنها قضايا اعتبارية، فالثابت والمقدس ما يعدُّونه هم كذلك دون مقاييس واضحة متفق عليها.
إننا بحاجة إلى تنوير العقول بالبحث العلمي والطرح المنطقي، وليس مجرد تجييش العواطف وإثارة الأحاسيس.
إن الطريق المشروع والنهج الصحيح لنشر أي فكرة ومبدأ، هو عرضها بأحسن بيان، والدعوة إليها بالمنطق والبرهان، والجدال عنها بأفضل أساليب التخاطب مع العقول والنفوس، وذلك هو النهج الإلهي الذي قرَّره القرآن الكريم، يقول تعالى:﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
كذلك فإن مواجهة الأفكار الباطلة، والآراء الخاطئة، يكون بنقدها ومناقشتها، وتسليط الأضواء على مكامن انحرافها، ونقاط ضعفها.
إن الرسالات الإلهية تتعامل مع الإنسان باعتباره كائناً عاقلاً مريداً، ولذلك تحترم عقله وتتخاطب معه، وتراهن على الثقة به وحسن اختياره.
كما ترفض أساليب الهيمنة وممارسة الوصاية الفكرية، بما تعني من تجاهل لدور العقل، ومصادرة لحرية الإنسان.
فالتخاطب مع العقل لا يكون بلغة العنف والقمع، وإنما بمنطق الحجة والبرهان:﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾.﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾.﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة﴾.﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾.
تلك هي المبادئ الناظمة للمواجهة الفكرية، لإثبات حقانية الدين وبطلان ما عداه.
ولا يقبل الإسلام الإساءة إلى المخالف في الدين والرأي لمجرد مخالفته، ما لم يمارس عدواناً يستلزم الردّ والردع.
كما لا ينصح الإسلام بالقطيعة مع المخالفين، بفصل وشائج العلاقات الإنسانية والاجتماعية معهم. بل على العكس من ذلك يوصي بالبر بهم والإحسان إليهم ما داموا مسالمين غير معتدين.
يقول تعالى:﴿لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
وقد ورد في أسباب نزول هذه الآية أن أسماء بنت أبي بكر، قدمت عليها أمها وكان أبو بكر طلَّقها في الجاهلية، فقدمت على ابنتها أسماء بهدايا: زبيب وسمن وقرظ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، وأرسلت إلى عائشة: سلي رسول الله، فقال: «لتدخلها». وفي صحيح البخاري (حديث رقم2620) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله فاستفتيت رسول الله قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلي أمك».
وفي وصية القرآن الكريم بالبر بالوالدين، يشير إلى أن واجب البر بهما، وحسن العلاقة معهما، لا يتأثر بالاختلاف الديني معهما، حتى وإن كانا يأمران الولد بالشرك بالله، يقول تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.
وكذلك الحال ينسحب على الأرحام والأقرباء، فإن الاختلاف الديني والفكري لا ينبغي أن يؤثر على مستوى التواصل معهم كأرحام، جاء عن الإمام جعفر الصادق أنه سأله الجهم بن حميد قائلاً: يكون لي القرابة على غير أمري ألهم عليّ حق؟ قال: «نعم حق الرحم لا يقطعه شيء».
إن على المسلم أن يلتزم حسن الخلق مع كل من يتعامل ويتعاطى معه، حيث ورد عن رسول الله أنه قال: «أحسن صحبة من صاحبك تكن مسلما»، وجاء عن حفيده الإمام جعفر الصادق: «ليس منا من لم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه».
من أسوأ أمراض الساحة الدينية في مجتمعاتنا، ما يسود معظم أجوائها من حالات الصراع والخصام الداخلي، وسعي بعض الجهات لممارسة دور الوصاية على أفكار الآخرين. فما تراه هي هو الحق المطلق الذي لا يجوز لأحد الخروج عليه، وإلا استحق النَّبذ والطرد، والمحاصرة والإلغاء، وأصبح مستهدفاً في وجوده المادي والمعنوي.
نجد ذلك واضحاً في الخلافات المذهبية، حيث تتبادل الأطراف مع بعضها تُهَم التكفير والتبديع والمروق من الدين، ويجري التحريض على الكراهية في أوساط الأتباع، وقد يصل الأمر إلى إباحة هدر الدماء وانتهاك الحقوق والأعراض.
كما نجد ذلك على مستوى الخلافات داخل المذهب الواحد، حين تتعدَّد المدارس، وتختلف الآراء في بعض التفاصيل العقدية والفقهية في إطار المذهب نفسه.
إن اعتقاد كل طرف صواب رأيه وخطأ الرأي الآخر أمر مقبول، بناءً على مشروعية حق الاجتهاد، لكن إنكار حق الطرف الآخر في الاجتهاد وإبداء الرأي، والتعبئة ضده بالتشكيك في دينه والحكم بفساد نيته، هو مزلق خطير يؤدي إلى تمزيق الساحة الدينية، وتشويه سمعتها، ودفع أبنائها إلى الصراع والاحتراب، كما حصل بالفعل.
إن التعبير عن الرأي الاجتهادي عقديّاً وفقهيّاً ضمن الضوابط المقررة أمر مشروع، وحق مكفول للجميع، ولا يصح أن تحتكره جهة وتصادره من الآخرين، فإن ذلك إرهاب فكري، وإغلاق فِعليٌّ لباب الاجتهاد، وحرمان للساحة العلمية من الثراء المعرفي.
أما الحذر من وجود آراء خاطئة، وطروحات منحرفة، تخالف المعتقدات السائدة، والاتجاهات الفقهية المشهورة، فهذا لا يقف أمامه القمع والتهريج، وإنما المواجهة العلمية الفكرية، التي تثبت ضعف الرأي الآخر وخطأه، ومكامن الانحراف والثغرات فيه، وتظهر صحة الرأي المتين وأصالته، وتعالج الإشكالات المثارة حوله.
إن أساليب القمع والإرهاب الفكري لا تستطيع أن توقف زحف الرأي الآخر، بل قد تخدمه بإثارة الاهتمام به، وتكتل أتباعه للدفاع عنه، ولتعاطف الكثيرين مع ظلامتهم بسبب ما يستهدفهم من قمع وتشويه، وبخاصة في هذا العصر الذي سادت فيه شعارات الحرية والانفتاح، وتطلعات التغيير والتجديد.
إن تمزيق صفوف المؤمنين وتحويل ساحتهم إلى خنادق للصراع والاحتراب، ودفعهم إلى انتهاك حرمات بعضهم بعضاً، وإسقاط كل طرف وتشويهه لرموز وشخصيات الطرف الآخر، جريمة أكبر وخطر أعظم من وجود رأي في قضية جزئية نعدّه خاطئاً باطلاً.
ثم إن تعاليم الإسلام وأخلاقياته، وسيرة النبي والأئمة والصحابة الأخيار لا تقبل مثل هذه الأساليب ولا تتطابق معها.
وهناك روايات وردت عن أئمة أهل البيت يحذِّرون فيها أتباعهم من نهج الإقصاء والإلغاء لبعضهم بعضاً على أساس الاختلاف في بعض الجزيئات العقدية.
جاء عن يعقوب بن الضحاك، عن رجل من أصحابنا سرّاج وكان خادماً لأبي عبدالله الإمام جعفر الصادق قال: جرى ذكر قوم عند أبي عبدالله جعفر الصادق، فقلت: جعلت فداك إنّا نبرأ منهم، إنهم لا يقولون ما نقول.
قال: فقال: يتولّونا ولا يقولون ما تقول تبرؤون منهم؟
قال: قلت: نعم
قال: فهوذا عندنا ما ليس عندكم فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟ قال: قلت: لا ـ جعلت فداك ـ قال: وهوذا عند الله ما ليس عندنا أفتراه أطرحنا؟ قال: قلت: لا والله جعلت فداك، ما نفعل؟
قال: فتولّوهم ولا تبرؤوا منهم، إن من المسلمين من له سهم، ومنهم من له سهمان، ومنهم من له ثلاثة أسهم؛ ومنهم من له أربعة أسهم، ومنهم من له خمسة أسهم، ومنهم من له ستة أسهم، ومنهم من له سبعة أسهم، فليس ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستة، ولا صاحب الستة على ما عليه صاحب السبعة.
وعن عبدالعزيز القراطيسي قال: قال لي أبو عبدالله الإمام جعفر الصادق: يا عبدالعزيز إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء، حتّى ينتهي إلى العاشر، فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنّ من كسر مؤمناً فعليه جبره.
وعن الصباح بن سيابة، عن أبي عبدالله: قال: ما أنتم والبراءة، يبرء بعضكم من بعض، إن المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصراً من بعض، وهي الدّرجات.