التيارات الاجتماعية والتنافس الإيجابي
التنافس حالة إيجابية في نفس الإنسان، فهي التي تدفعه باتجاه تفجير طاقاته وقدراته، كما أنها هي التي توجد نشاطًا وتطورًا في المجتمع عن طريق التنافس بين أفراد المجتمع وقواه.
التنافس تفاعل من نَفِسَ، و«تنافَسَ القوم في كذا: تسابقوا فيه وتباروا دون أن يُلحق بعضهم الضرر ببعض .. والتنافُس: نزعة فطرية تدعو إلى بذل الجهد في سبيل التشبُّه بالعظماء واللُحوق بهم» (المعجم الوسيط، مادة: نفس).
وهي مشتقّة من: نَفِسَ عليه إذا شح به عليه. تقول: نَفِسَ بالمال على فلان: شَحَّ به عليه. وقد تكون مشتقّة من النِّفَاسة، وهي الشيء الغالي القيمة والثمن، بمعنى التسابق لكسب الفضل قبل الغير.
التنافس حالة يعيشها الإنسان الفرد فيما بينه وبقية أفراد محيطه، كما هي حالة تعيشها الجماعات والتيارات الاجتماعية.
ففي كل مجتمع بشري تتكون وتظهر تيارات وتجمعات إما بناءً على اختلافٍ في المبادئ والأفكار بحيث تتبنّى كل جماعة أو تيار فكرًا ومبادئ تختلف فيها مع الجماعة والتيار الآخر، وإما للاختلاف في المواقف والمصالح، بحيث تكون لكل مجموعة مصلحة معينة تسعى لها ضمن الشأن العام في مقابل جماعة أخرى تنافسها لكسب هذه المصلحة. وإما بناءً على التمايزات العرقية أو القومية أو القبلية أو التبعية لبعض الزعامات البارزة في هذا المجتمع أو ذاك.
وهذه حالة طبيعية في المجتمعات البشرية، وغالبًا ما لا تكون الحالة حالة فردية في مسألة التنافس، وخاصة عندما يرتقي وضع المجتمع، لأنَّ تشكُّل التجمعات في أي مجتمع يعني حالة متقدّمة في واقع المجتمع.
في بعض المجتمعات التي تعوّدت على حالة الركود وعدم الفاعلية قد تنظر إلى نشوء وتشكّل تيارات اجتماعية مغايرة عن المألوف وما كان سائدًا تنظر إلى هذه المسألة بنظرة سلبية، وتصوّر الأمر وكأنه انقسام اجتماعي يؤدي إلى الفرقة والتشتت، بينما إذا أمعن الإنسان النظر فإنه يرى أنها حالة إيجابية، وليست سلبية، لأنها تعتبر نوعًا من التقدّم الاجتماعي.
وأي تقدّم لابدَّ وأن تنتج عنه بعض المضاعفات السلبية، وهنا يأتي دور القوى الفاعلة في المجتمع في السيطرة على هذه المضاعفات والحدّ منها، لا أن ترفض هذه الزعامات أو القوى حالة التطوّر.
1- إذكاء حالة التنافس لتطوير المجتمع
كل فئة إذا شعرت بوجود فئة أخرى تحاول أن تكون لها مساحة أوسع من الكسب والتأييد الجماهيري فإنها ستجدّ وتنشط بكل ما تستطيع من أجل أن تكون الأكثر والأوسع نفوذًا وتأثيرًا، وتشحذ من أجل ذلك ما عندها من طاقات وكفاءات، وهذا لصالح التقدّم الاجتماعي ولصالح المستفيد من الخدمة التي تقدّمها هذه الجماعة والجماعة الأخرى المنافسة لها.
وهذا بخلاف فيما لو كان المجتمع يخضع لجماعة وتيار واحد، حيث لن يكون هناك تنافس، كما أنه سينعكس على نفس الجماعة، لأنها ستتجمّد ولن تسعى لتطوير نفسها.
ولذلك فإن وجود أكثر من تيار وجماعة في المجتمع تعمل في الشأن الاجتماعي العام يذكي حالة التنافس ويسرّع حركة التطوير في المجتمع.
2- تعدّد التيارات يساعد على سدّ نقاط الضعف عند كل طرف
لابدّ وأن يكون عند كل طرف أو تيار يعمل في الشأن الاجتماعي نقاط قوّة، ويقابلها نقاط ضعف، ولذلك عندما تتعدّد التيارات والأنشطة الفاعلة في المجتمع ويكون بينها حالة من التنافس ربما تستغل بعض هذه التيارات نقاط الضعف عند التيارات الأخرى، فيضطر كل طرف أن يعالج نقاط ضعفه وأن يسدّ الثغرات، وبالتالي سيكون هذا دافعًا للتكامل والتطوّر عند كل جهة من الجهات، أما إذا لم يكن هناك طرف منافس تبقى الثغرات والسلبيات دون أن يكون هناك تحفيز لمعالجتها.
3- استيعاب أكبر قدر من طاقات المجتمع
كل تيار من التيارات يحاول قدر طاقته أن يستقطب من المجتمع شريحة أكبر من المؤيدين، ومن الطبيعي أن لا يستطيع أن يجعل الجميع من تياره وفئته، خصوصًا عند وجود منافس آخر على الأرض، لذلك فإن وجود تيار آخر يحوي مساحة أخرى من الجمهور يساعد على أن تكون جميع قوى المجتمع فاعلة في تياراته المختلفة، لا أن تكون بعض القوى فاعلة، بينما تظل الأخرى معطّلة دون أن تجد من يحتضنها ومن يتبنّاها.
العلاقة بين التيارات الاجتماعية تختلف في طبيعتها من مجتمع لآخر، ويمكن تحديد هذه الأشكال وتنويعها إلى ثلاثة أنواع، هي:
1- علاقة النزاع والخصومة
في بعض الأحيان تكون العلاقة بين التيارات الاجتماعية الفاعلة علاقة نزاع وخصومة حادّة، بمختلف أشكال المنازعة والخصام، إلى درجة قد تصل إلى حالة من الاحتراب والمقاتلة، كما نرى ذلك في بعض البلدان حيث تتقاتل فيها الجماعات والأحزاب والفصائل.
وفي أحيان أخرى قد تكون العلاقة ما بين هذه التيارات يشوبها نسبة كبيرة من الخصام والمنازعة، ولكن لا يصل الأمر إلى مستوى التقاتل، ولكن تكثر فيما بينها حالة الفتن الاجتماعية والتشهير الإعلامي والتصعيد الكلامي والتشنّج في العلاقة.
2- علاقة التباعد والقطيعة
وفي هذه الصورة تكون كل جماعة منطوية على نفسها ومختصة بشأنها الخاص، وتتبع كل جماعة في علاقتها بالجماعة الأخرى سياسة المتاركة. وهذه الصورة ربما تكون أقل خطرًا من الصورة الأولى، ولكنها في كثير من الأحيان تتطور إلى أن تكون مقدّمة للحالة والصورة الأولى.
3- علاقة التعاون التكامل
حيث يكون هناك نوع من التواصل والتعاون والتنسيق بين هذه التيارات والجماعات داخل المجتمع، وهذه هي الصورة المثلى التي ينبغي الوصول إليها.
إن تحديد شكل العلاقة بين الجماعات والتيارات الفاعلة في أي مجتمع يعتمد على عاملين أساسيين، هما:
1- مستوى الوعي عند قيادات التيارات
حينما يكون هناك نضج ووعي عند القيادات الاجتماعية فإن هذه القيادات يكون لها دور في توجيه أتباعها وجماهيرها ومسيرة الحالة في المجتمع إلى أن تكون العلاقة بين التيارات علاقة إيجابية، وبالعكس منه إذا انعدم الوعي والنضج وسادت حالة الأنانية وحالة التوسّل بالوسائل الملتوية من كل فئة تجاه الفئات الأخرى، أو الأسوأ من ذلك أن تسود حالة تشيع فيها النوايا السيئة بإلغاء كل طرف للطرف أو الأطراف الأخرى، فهنا لا تكون العلاقة بين هذه الجماعات والتيارات علاقة إيجابية.
ومسألة النضج والوعي لدى القيادات عند كل فئة له علاقة بمسألة التجربة والخبرة في العمل، فإذا كانت التيارات في المجتمع لا تزال في طور النشء والحداثة في التجربة فإن هذا ينعكس على الأسلوب المتبع في العلاقة والتداخل فيما بينها، بحيث قد تصل في بعض الأحيان إلى حالة النزاع والخصومة والصدام.
ومن أبرز الأمثلة على هذه النقطة التجربة اللبنانية، حيث أن التيارات اللبنانية بعدما جرّبوا الحرب الأهلية وصلوا إلى حدّ من النضج والوعي السياسي إلى أن الحل الأمثل هو التعاون والحوار والتواصل فيما بينهم كجماعات وأحزاب وقوى.
2- مستوى البيئة الثقافي والسياسي
التيارات والجماعات هي جزء من المجتمع الذي تعيش فيه، وبالتالي تتأثر بالحالة السياسية والثقافية السائدة في المجتمع، فإذا كانت التيارات الاجتماعية تعيش في جوّ يسوده النظام والقانون وحرّية الرأي والفكر والمعتقد والعمل والتجمّع وهناك تقنين لهذه الحالة فهذا الوضع السياسي يجعل تلك التيارات والتجمّعات في علاقاتها تسير في الاتجاه الطبيعي والقانوني.
كما هو الحال الآن في الغرب، فهناك جماعات وأحزاب وحركات سياسية وثقافية واجتماعية ضمن جوّ سياسي عام يقنن ويرشّد العلاقة فيما بين هذه التكتّلات.
أما إذا كان الوضع السياسي لا يتيح فرصة لوجود جماعات ولا يعترف بوجود قوى أهلية تعمل في المجتمع، وليس هناك حالة من حرّية العمل الثقافي والسياسي والاجتماعي، هذه الحالة تنعكس على البقية.
وإذا كانت الحالة الثقافية في المجتمع ثقافة تسامح واحترام للرأي الآخر فهذه الثقافة تساعد على ترشيد العلاقة بين التيارات، أما إذا كانت الثقافة السائدة ثقافة إقصاء وإلغاء وخاصة ضمن العناوين الدينية، وهذا مما ابتليت به ساحتنا الدينية، فنجد بعض الساحات الدينية من يعتبر نفسه فيها وكأنه يمثّل الله والشرع في الأرض وبالتالي فإن أي طرف يختلف معه فكأنه يختلف مع الله والشرع والحق، وهو طرف ـ في نظره ـ لا يستحق الاحترام، ويستحق في مقابل ذلك كل تهم الضلال والابتداع والشرك والمروق من الدين، إن المجتمع الذي يعيش هذه الحالة من الثقافة لا تترشّد فيه العلاقة بين تياراته، لأن هذه التيارات تتنفّس من هذا الهواء الملوّث بهذه الأفكار الإقصائية الإلغائية العدوانية على الآخر، وبالتالي فإن أبناء هذه التيارات يتأثرون في علاقاتهم مع بعضهم البعض بهذا الجوّ السائد.
ظهرت وتظهر بين الفترة والأخرى بعض التيارات والجماعات في مجتمعنا الخليجي، واتخذت هذه التيارات مختلف العناوين، إما بعناوين سياسية أو ثقافية، وهذه حالة إيجابية في المجتمع، لأن المجتمع الراكد هو الذي لا تظهر فيه تيارات، بينما المجتمع الذي تشغله الفاعلية والحراك الاجتماعي والثقافي غالبًا ما تتعدّد تياراته وتوجهاته.
ومجتمعنا الآن يعيش ضمن هذه المرحلة، حيث أصبحت هناك تيارات تعبّر عن نفسها بأشكال مختلفة من التعبير، ومن المفترض أن ترشّد العلاقة بين مختلف هذه التيارات والتوجّهات، وأن توجّه باتجاه التنافس الإيجابي في خدمة المجتمع، تطبيقًا لقوله تعالى: «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ».
وعندما نريد أن نطبّق هذه الآية على واقعنا اليوم من المفترض أن نسعى لأن يكون هناك تنافس إيجابي في خدمة المجتمع ضمن نطاق الجمعيات الخيرية أو الأندية الرياضية أو المنتديات الثقافية، وضمن مختلف الأطر والأنشطة.
ولتوجيه هذا التنافس في الاتجاه الإيجابي لابدّ من توفر هذه التجمّعات العاملة على أربع صفات، هي:
1- الاعتراف والاحترام المتبادل
إن مشكلة كثير من المجتمعات أنه قد تكون هناك قوّة أو تيار سائد، وتغلب عليه صفة التقليدية والتعصّب، فلا يعترف بانبثاق تيار جديد ونشوء قوّة جديدة، بل لا يرى أن لها الحق في الظهور على الساحة والتحرّك فيها. وهذا تطرّف وتعصّب، فللجميع الحق في العمل ولا يحق لجماعة أو فئة أو فرد أن يمنع الآخرين من ذلك.
2- التزام الوسائل المشروعة للتنافس الإيجابي
من الطبيعي أن تسعى كل مجموعة أو طرف لكسب أكبر قدر من الجمهور وساحة أوسع للعمل، ولكن من المهم أن تكون الوسائل المستخدمة للكسب وسائل مشروعة، لأن من طبيعة الحراك الاجتماعي أن تسعى كل فئة فيه أن تكسب الجمهور الأكبر والشريحة الأوسع إليها، ولكن من المفترض أن تبتعد هذه الوسائل عن أسلوب التشهير والاتهام والتشكيك في النوايا والأهداف.
3- الانفتاح والتواصل
مما يؤسف له أن تكون في بعض القرى تيارات وجماعات فاعلة فيها ولا يكون بينها أي نوع من التواصل والانفتاح. لأنه عندما ينعدم التواصل بين الجماعات والتيارات تكثر بينها الإشاعات بين كل فريق تجاه الآخر، وهذا بسبب حالة القطيعة وعدم الاتصال المباشر، حيث تفتح الساحة بينها للأقاويل والتفسيرات والتأويلات السلبية.
وبخصوص هذه النقطة كثيرًا ما تتوتّر العلاقات بين التيارات المختلفة بسبب ما قد يحدث بينها من تأزّم في العلاقة بسبب موقف قد لا تتحمّله الجماعة ككل.
إذ غالبًا ما يكون لكل جماعة مجموعة من الأتباع، وقد يتصرّف بعضهم أو أحد الأفراد منهم تصرفًا خاطئًا تجاه جماعة مقابلة، فتكثر التفسيرات والتأويلات على هذه الجماعة بسبب تصرّف أحد أفرادها، ويُحمل هذا التصرف على الجماعة ككل، وغالبًا ما تتطور الأمور إلى أكثر مما تحتمل، ووصول المسألة إلى هذه الحالة ناشئ من حالة القطيعة بين هذه الجماعة والجماعة المقابلة.
4- التعاون والتكامل
وهو المستوى الأرقى في مستوى العلاقة بين التيارات، فهذه التيارات والجماعات تعمل في مجتمع واحد، فمن المفترض أن يرتفع مستوى العلاقة بينها إلى نوع من التنسيق والتكامل، بحيث تحاول كل جهة أن تستفيد من الجهة الأخرى بما يرتقي بمستوى العمل.