علماء الدين بين التقديس والتمحيص
لا شك أن وجود فئة متخصصة في علوم الدين، ومهتمة بتبيين مفاهيمه وأحكامه للناس، هو أمر مطلوب وضروري في أي مجتمع ينتمي إلى الدين.
وبالإضافة إلى الدور المعرفي الذي تقوم به هذه الفئة -علماء الدين- فإن لها دوراً اجتماعياً هاماً، يتمثل في تحفيزها المجتمع للالتزام بالقيم والأخلاق، وفي كونها رموزاً وقدوات للناس، يتأسّون بها، ويلتفون حولها، مما يعزز تلاحم المجتمع وتضامنه.
لذلك أوجب الإسلام وجود هذه الفئة في أوساط مجتمعات الأمة، بمقدار ما يستلزمه دورها ووظيفتها، على نحو الوجوب الكفائي، يقول تعالى: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ».
لكن هذه الشريحة -علماء الدين- هي جزء من المجتمع، ومعرضة للإصابة بمختلف الأمراض والنواقص التي قد تعرض لأي فرد من أبناء البشر، فهم حالة بشرية، لا تخلو من نقاط الضعف وموارد الخطأ. لذلك فإن النصوص الدينية في الوقت الذي تدعو فيه إلى احترام العلماء وتقديرهم، وأخذ تعاليم الإسلام منهم، يقول تعالى: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، فإنها في ذات الوقت تدعو إلى اليقظة والانتباه، حتى لا يتسلل إلى هذه الشريحة مشبوهون ومنحرفون، أو يستغل أي أحد من أفرادها مكانته وموقعيته على حساب المبادئ ومصلحة المجتمع، وحتى لا يتحول الخطأ الذي قد يقع من أحدهم عن قصد أو غير قصد إلى دين وتشريع.
وقد تحدثت كثير من الأحاديث والروايات الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، عن وجوب الحذر والحيطة من الانخداع بالعلماء غير الصالحين، أو قبول ما يتنافى مع قيم الدين بسبب التدليس والتحريف. كما أن آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن انحرافات وتحريفات بعض علماء الديانات السابقة، من اليهودية والنصرانية، تبعث برسالة تحذير وتنبيه لأبناء الأمة الإسلامية، حتى يأخذوا موقف الوعي والبصيرة في التعاطي مع هذه الظاهرة حين تحدث في وسط علماء الأمة.
ومن تلك الآيات الكريمة قوله تعالى «وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».
فالآية تفضح دور قسم من علماء أهل الكتاب، الذين يعطون لآرائهم النابعة من أهوائهم وتوجهاتهم المصلحية المنحرفة صفة القداسة الدينية، وكأنها أوامر شرعية، يقحمونها بين تعاليم وآيات الكتاب السماوي، ليوهموا الناس أنها نازلة من عند الله تعالى.
والتزاماً بالموضوعية والإنصاف فإن القرآن الكريم لم يعمم التهمة على جميع علماء اليهود والنصارى، وإنما خص جزءاً منهم «وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً».
وتشير الآية الكريمة إلى أن هذا الفريق من علماء السوء في جميع الديانات الإلهية، يتفننون في أساليب التضليل حتى لا يكتشف الناس خيانتهم للدين، وتحريفهم لنصوصه المقدسة، بمزج كلام من عندهم بالنص الديني، «يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ»، حيث يقدمون ذلك الكلام الزائف بنفس الطريقة التي يقدمون بها النص المقدس، «لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ»، ليتوهم الناس أن ما قالوه هو جزء من الدين.
وقد يصرفون ألفاظ النص الديني إلى غير المعنى المقصود من قبل الله تعالى، كما تقول آية أخرى «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ».
إن من أسوأ الأخطار التي تصيب الدين هي الافتراء عليه من داخله، أي من العلماء الذين يعتبرهم الناس مصدراً لتعاليم الدين وأحكامه، فيصدرون للناس فتاوى وآراء تخالف قيم الدين ومصلحة الأمة، بدوافع مصلحية، لخدمة الذات، أو انحيازاً لمصلحة فئة، أو تعصباً لمذهب واتجاه، وينسبون تلك الفتاوى والمواقف للدين، ويعطونها صفة التكليف الشرعي.
وقد رأينا في عصرنا الحاضر كيف أدّت بعض الفتاوى والآراء إلى نشوء توجهات إرهابية، تمارس العنف ضد الأبرياء، وتستبيح الدماء، وتنتهك الحرمات، خارج الأمة وداخلها.
كما رأينا مواقف التعبئة والتحريض الطائفي بعناوين دينية، كحماية العقيدة، ومحاربة الشرك والبدع، والدفاع عن المذهب، وما أنتجته من مشاريع فتن وتمزيق ونزاع واحتراب.
وفي داخل المذاهب تحصل صراعات تستخدم فيها الفتاوى الدينية بين الأطراف المختلفة في الرأي أو المصلحة، مما يتنافى مع حقوق الأخوة الإيمانية، ويتعارض مع احترام حق الاجتهاد واختلاف الرأي، ويجعل مجتمع المؤمنين ساحة نزاع وصراع.
وفي موارد كثيرة جرى توظيف الدين من قبل البعض لخدمة مواقف وتوجهات سياسية.
إن هذه المشاهد المؤلمة المؤسفة هي بعض نتائج سوء الممارسة في الوسط الديني، بعناوين وتبريرات تنسب إلى الدين. حتى إنه يمكن القول: إن بعض أوساط هذه الفئة من علماء الدين بدل أن تسهم في حلّ مشاكل الأمة، أصبحت مصدراً لمشاكل إضافية عويصة، وبين وقت وآخر نرى انشغال الحالة الدينية في هذه المنطقة أو تلك بالخلافات الداخلية التي تربك ساحتها، وتسبب ردود فعل سلبية تجاه الدين والمتدينين.
وإذا كان حدوث مثل هذه الحالات والظواهر أمراً متوقعاً، لأن أفراد هذه الشريحة -علماء الدين- ليسوا ملائكة ولا معصومين، وليسوا بعيدين عن التأثر بأوضاع وأجواء محيطهم الاجتماعي، فإنه لا بد من وجود آليات للحدّ منها، ولتحصين المجتمع من آثارها السلبية.
وسنعرض الحديث عن بعض الآليات والوسائل التي يمكن الإفادة منها في مواجهة هذه الظواهر:
يتركز اهتمام الدروس في المعاهد والحوزات العلمية، على الإعداد العلمي لطلابها، وغالباً ما يهمل جانب التربية الروحية الأخلاقية، مما يفسح المجال لنمو النزعات الفردية الأنانية، وتسرب التوجهات المصلحية، وقد يأتي بعض الطلاب للدراسة الدينية من بيئة غير صالحة، أو دون سابق إعداد تربوي، كما قد تسعى بعض الجهات المناوئة لزرع عناصر مغرضة في الوسط العلمي، أو للتأثير على بعض الأفراد فيها.
كل ذلك يوجب ضرورة التركيز والاهتمام برعاية الجانب التربوي الأخلاقي، لطلاب العلوم الدينية. وقد أكد على هذه الضرورة عدد من كبار المراجع والعلماء، وحذروا من تجاهلها.
تعاني الحالة العلمية الدينية في معظمها من غياب الأطر المؤسساتية، مما يكرس التوجه الفردي عند علماء الدين، بدءاً من مرحلة الدراسة، حيث لا توجد في غالب الحوزات العلمية عند الشيعة أنظمة ملزمة، بل يختار الطالب بحريته نوع ومكان وعدد دروسه، وشخصيات مدرسّيه، ولا أحد يحاسبه على حضوره وغيابه، ولا تحديد لمدة دراسته وتخرجه، أو انتقاله من مرحلة علمية إلى أخرى.
صحيح أن هناك أعرافاً وتقاليد سائدة في الوسط الديني، لكنها ليست ملزمة، وخاصة لمن يرغب في تجاوزها. وربما كانت هذه الحرية المفتوحة في المعاهد والحوزات الدينية ملائمة لعصور وظروف سابقة، أو كانت لتجاوز محاولات بعض السلطات للهيمنة على الحوزة، مما دفع بعض قياداتها لرفع شعار: أن الحوزة نظامها اللانظام.
لكن الظروف الحاضرة، والتطورات في الحياة الاجتماعية، تفرض وجود قوانين ناظمة لأوضاع الحوزات، وحامية لها من الاختراقات والتسيب. وقد بدأ هذا التوجه يفرض نفسه، وخاصة في حوزة قم العلمية، مع ممانعة لا تزال قائمة في بعض الأوساط التقليدية.
وحين يعود طالب العلم إلى مجتمعه ليقوم بدوره الديني، فإنه لا يرتبط بأي جهة أو مؤسسة ترعى دوره وتراقب تجربته، لا من قبل الحوزة العلمية التي تنقطع صلتها به، ولا من قبل أي إطار مؤسسي في منطقته لعدم وجود مثل ذلك غالباً. فيبدأ تجربته بمفرده، وقد يواجه في بعض الأحيان مشاعر غير إيجابية من العلماء السابقين له في منطقته، باعتباره منافساً لهم، أو مختلفاً عنهم في بعض توجهاته وانتماءاته.
كل ذلك يخلق الأرضية لنمو التوجهات الأنانية والاهتمامات المصلحية، والممارسات غير الأخلاقية في الوسط الديني.
إن وجود رعاية من كبار العلماء في كل منطقة للحالة الدينية فيها، باحتضان جميع العلماء والطلبة، ومساعدتهم على أخذ أدوارهم ومواقعهم، ودعمهم في أداء وظائفهم ورسالتهم،وتفقد أمورهم وشؤونهم الحياتية، وتوفير أجواء المشاورة والتناصح فيما بينهم، وتشجيعهم على التعاون والتكامل، يساعد كثيراً على تجاوز السلبيات، ويمكّن من الاستفادة من الطاقات، وبذلك تتقدم الحالة الدينية وتتطور.
تركيز مكانة عالم الدين في المجتمع أمر مطلوب، واحترام الناس له مما حثت عليه النصوص الدينية، لتعزيز موقعية الدين. لكن وجود ظواهر سلبية في الوسط الديني تهدد بأخطار وأضرار بالغة من أبرزها:
1- فقدان الحالة الدينية لمصداقيتها، وحصول نفور عند البعض من الدين، كرد فعل لهذه الظواهر السلبية.
2- انخداع الناس بنماذج غير صالحة ضمن هذا الوسط، يعطي هذه النماذج الفرصة لاستمراريتها في الخطأ ولخدمة توجهاتها الخاطئة، ويقود أتباعها إلى الطريق الخاطئ.
3- تتعرض الساحة الدينية للهزات والإرباكات وتنشغل بالمشاكل والأزمات الداخلية.
ومما يبدو لنا من نهج القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والروايات الواردة عن أئمة أهل البيت، هو ضرورة تحصين المجتمع بالوعي، حتى لا يتعامل الناس مع كل عالم دين بالتقديس المطلق والثقة العمياء، بل لا بد من إعمال العقل، واستخدام الفكر، والنظر إلى الأشخاص والأدوار والممارسات بعيون مفتوحة، وبصيرة واعية. فقيم الدين واضحة، ومصالح المجتمع تدركها العقول، ولا قداسة مطلقة لغير المعصوم.
وهذه هي الرسالة التي تريد إيصالها الآيات الكريمة التي تتحدث عن فساد وانحراف قسم من علماء أهل الكتاب، كقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ».
إن توجيه الخطاب للذين آمنوا هو لتحذيرهم من حصول مثل هذه الظاهرة في طبقتهم الدينية.
كما أن هناك عدداً كبيراً من الأحاديث والروايات التي تحذر من علماء السوء.
روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ويل لأمتي من علماء السوء)
وجاء عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم: (لا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العالم بالعقل).
أي أن على الإنسان أن يستخدم عقله لتقويم العلماء، ومعرفة الجدير بالاقتداء منهم، وتمحيص توجهاتهم.
السكوت على الأخطاء يراكمها، وقد يصدر الخطأ بسبب غفلة أو اشتباه، فوجود ناصحين ناقدين يدفع للتراجع عن الخطأ، كما أن شعور أي جهة بأنها معرضة للنقد وأن أعمالها تحت المجهر، يجعلها أكثر اهتماماً بضبط ممارساتها حفاظاً على سمعتها وموقعيتها.
ومن مشاكل ساحتنا الدينية رفضها للنقد، والتشكيك في أي ناقد أنه ضد الدين، ومناوئ للحالة الدينية، واعتبار النقد سبباً لإضعاف دور العلماء وإسقاط مكانتهم، وتحقيقاً لأهداف أعداء الدين والأمة. وهذا التفكير ليس صحيحاً، وليس مقبولاً، لأنه يخالف نهج القرآن والنصوص الدينية الأخرى، ويخالف منطق العقل، فالنقد والمعارضة سبب لاكتشاف الخطأ، ودافع لتصحيحه في كل مجال من المجالات.
وما أحوج ساحتنا الدينية إلى النقد البنّاء، فهو البديل الصحيح عن التهريج والتعبئة بين الأطراف المختلفة، وهو الذي يتيح فرصة التغيير والتطوير إلى الأفضل.
إن عالم الدين يجب أن يشجع من حوله على النقد وإبداء وجهات نظرهم، ليستفيد من ذلك في إصلاح ذاته، وإنجاح دوره، لا أن يفرض عليهم الرهبة والهيبة التي تمنعهم من إبداء آرائهم وانطباعاتهم. فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حين رأى أعرابياً قد أخذته الرهبة منه صلى الله عليه وآله وسلم، قال له: هوّن عليك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة.
بل إن على عالم الدين أن يضع برنامجاً لإشراك الناس معه في اتخاذ القرارات وإدارة الشؤون الدينية التي يقول بها، وأن يتسع صدره للنقد والاعتراض، فقد أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، على عصمته وكما له أن يستشير من حوله، يقول تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ».
من جانب آخر فإن على الواعين من أبناء المجتمع أن لا يترددوا في إيصال نقدهم وإبداء ملاحظاتهم لعلماء الدين، وأن يجهروا لهم بآرائهم الناقدة، مادام الهدف هو الإصلاح وحماية المصلحة الدينية.