حوار التعاون بين الأديان
قبل اثنين وثلاثين عاما قدم الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين بحثا لمؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي الذي عقد في ليبيا عام 1976م, وقد ضُمّن البحث في كتاب بعنوان (الحوار الإسلامي المسيحي نحو مشروع للنضال المشترك) أصدرته عام 2004م مؤسسة الإمام شمس الدين للحوار بالتعاون مع مؤسسة المرحوم محمد رفيع حسين معرفى الثقافية الخيرية ولما في هذا البحث من وعي كبير وإدراك فذ وتنظير هادئ فسأعمد لاستحضار أفكاره ورؤاه كي ينسب الفضل لأهله.
لقد فشلت الحضارة المادية على الصعيد الإنساني فدمرت الأخلاق والضمير والسلام , لقد وفرت للإنسان اللذة في أعلى درجاتها، لكنها سلبت منه السعادة , وهيأت له حصانة قوية ضد الأمراض، لكنها سرقت منه الاطمئنان الداخلي، والاستقرار النفسي, ومنحته علما أوصله لسلام هش، سماه السياسيون العسكريون (بتوازن الرعب) فهدرت كرامة الضعفاء، ونهبت ثرواتهم واحتلت بلادهم, وانتهت أحلامهم، وأصبح أطفالهم يرضعون الموت والدمار والضياع.
فشلت الحضارة مع كل وعودها وتبجحها, وإعلامها الذي ملأ الدنيا صراخا، من أجل كرامة الإنسان وحقوقه وحريته, وتيقظ إنسان اليوم للأبعاد الخطيرة التي تهدد حياته وسعادته ومستقبله , فبدأ يصرخ ويئن ويتضجر ويتضرع.
ووصولا للخلاص بدأ مسكين هذا الكون ينشط أحيانا وينهار في أحايين أخرى، والحوار الإسلامي المسيحي هو استجابة لقيادات الفكر والروح والضمير في هذا الدين أو ذاك لصراخ ملايين البشر وسماع مسئول لتضرعاتهم بعد أن شعروا بالضياع والمسخ وضياع الكرامة والسعادة.
كل الأديان السماوية والمذاهب المتشعبة منها ترفع شعار السعادة للإنسان في الدارين (الدنيا والآخرة )، والاختلاف بينها إنما هو في الوسائل لبلوغ ذلك الهدف, ولذلك يؤكد كل منها بشكل جازم ونهائي أنه الوسيلة الوحيدة لخلاص الإنسان دون غيره من الأديان والمذاهب، ولعدم الوعي العميق بواجبنا الديني تجاه هذا الإنسان، أصبحت مشكلة كل دين هي الدين الآخر, فنسينا مشكلة الإنسان وأصبحنا نعيش مشكلة الأديان والمذاهب كيف نثبت أننا الأصلح والأحق والأقدر لانتشال الإنسان وإنقاذه، وغيرنا هو الباطل المطلق؟
خضنا حروبا مع بعضنا كي يحطم أحدنا الآخر فيكون الدين والمذاهب المسيطر على هذا الإنسان المتعب، فتطاحنا وشردنا بعضنا وسفكنا دماءنا, ولكن سنة الله (الاختلاف) أفشلت هذا المشروع, فلم ولن ينجح في أي مكان وفي أي زمان.
لكننا لم نتوقف بل انتقلنا إلى أسلوب آخر، وما زال قسم من المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات السماوية الأخرى ينشغل به, وهو أننا إذا لم نستطع أن نستأصل بعضنا بالنزاعات , وسقط من أيدينا حوار الحرب, فلابد من حوار من نوع جديد وهو الجدل الفلسفي والعقدي العقيم (قلتم ونقول وأجبتم ونرد).
هذا النوع من الحوار ربما تجاوزناه مع الأديان السماوية الأخرى، وإن كنت ذهلت وأنا أقرأ كلاما حول حوار الأديان نسبته جريدة المدينة (ملحق الرسالة) 13/ يونية/2008 لعضو مجلس الشورى والأستاذ المشارك بجامعة أم القرى، الشيخ الدكتور حاتم العوني الشريف يقول فيه:
((لابد أن يستعد المسلمون لهذا الحوار حتى لا نخسر معركة هذا الحوار، كما خسرنا معارك سابقة, عندما فوجئنا بالحرب السياسية سابقا، ولم نكن مستعدين لها الاستعداد الكامل, وبالتالي تشوهت صورة المسلمين كثيرا في العالم، وما دام أن الوسيلة اليوم الحوار, ونحن نثق تماما أن الذي لدينا من الحق في دين الله هو الحق المحض الكامل .. وبالتالي نعرف أن هذه القوة الحقيقية لنا, وأننا نمتلك الدين الحق، الذي نزل من عند الخالق سبحانه وتعالى وينبغي أن نكون أحرص الناس على الحوار وأقدرهم على قيادة هذه المرحلة )).
فمن الواضح أن دكتورنا يحمل هم حوار الجدل العقدي مع الدين الآخر أكثر من هم الإنسان الضائع خارج مساحة كل الأديان.
مهما كان فإن الجدل ما زال شديد الحراك في الوسط الإسلامي بين المذاهب المختلفة حيث تجند له الفضائيات, وتعد الكوادر, وتصرف الأموال والجهود بلا طائل لكل الاتجاهات، بذلنا كل ذلك لداع تبشيري يعمد لاجتذاب أتباع الأديان والمذاهب الأخرى لديننا ومذهبنا، وداع تحصيني يعمد إلى بث شعور في أتباعنا أن دينهم ومذهبهم هو الأقوى والأصوب والأحق.
اعتمدت اليقظة على أمرين الأول: لن يغير أي دين أو مذهب قناعاته، لان أتباع كل دين ومذهب يعتقدون بثوابت دينية وتعبدية تمنعهم من المساس بأصول دينهم وجميع تفرعاته, إذ في كل شرعة ما لا يمكن تجاوزه.
والثاني: شعور الأديان والمذاهب أن الحضارة المادية تدمر مجال عملها المشترك وهو الإنسان وتحاول مسخه والإجهاز عليه بكل قوتها وهيمنتها . من هنا كان الشعور بضرورة التعاون بين الأديان والمذاهب في المساحات المشتركة، بمعنى أن يكون لكل دين ومذهب مساحته الخاصة وعالمه الداخلي بين أتباعه وهم المؤمنون والملتزمون بمنهجه ومجال عمل مشترك يهدف لاستنقاذ الإنسان من ضياعه وتدمير الحضارة المادية لقيمه ومسخها لإنسانيته , ويكون همها هنا هو إعادة الإنسان إلى الإيمان بالقيم السماوية العليا، وللحديث تتمة.