الزعامات الاجتماعية لا تصنعها الرتب العلمية
في مقالي (الزعامات الاجتماعية بين العلم والإعلام) أشرت إلى أن الإعلام لا يصنع زعامات اجتماعية وإن أوجد حضورا بارزا لبعض الأشخاص والأسماء، لكني رأيت أن الحضور شيء وزعامة الناس وقيادتها شأن آخر، وأشرت حينها أن أي زعيم حقيقي حين يتهم بترميز الإعلام له، فهي لا تعدو محاولة إسقاطية من حساد أو مشتبهين، وما أكثر الصنفين في كل المجتمعات.
هل تصنع الألقاب العلمية الأكاديمية أو الدينية زعيما اجتماعيا حقيقيا؟
العلم والمكانة العلمية في الزعامة هي رأس مال مهم ، تماما كما هو المال في التجارة، لكن الأمر في كلا الميدانين لا يتوقف على وجود المال أو العلم، بل على تحريكهما والاستفادة منهما في ساحتهما المناسبة، فشيخ التجار ليس من يمتلك ثروة اكبر بل هو ذلك الذي يحرك ما عنده من ثروة ليتقاطع بمصالحه مع هذا التاجر وذلك المصنع، ويتواجد في هذا السوق ويبادر إلى اقتناص تلك الفرصة، ويعالج المعوقات التي تقف في طريق أقرانه من التجار.
والعلم كرأس مال لا يختلف عن المال شيئا، فمن يحرك علمه ومعرفته في أزمة هنا وقضية هناك، وتفكير في الشأن العام واجتهاد في تلمس السبل لمعالجة هذا الوضع وذاك الخطأ، يمكنه أن يتبوأ مكانة اجتماعية زعامية.
وإذ أؤكد على أزمة وشأن ومعالجة وتخطيط، فلكي أفرق بين من يستثمر علمه مهما قلّ في هذه الميادين، ليتبوأ بحسب نشاطه ونتاجه وتأثيره مكانته الزعامية بين قومه، وبين من يشتغل بعلمه في التعليم والتدريس وتخريج الطلبة من الجامعات أو المدارس الدينية، وإلقاء البحوث وهي كلها مهام عظيمة وجليلة لكن صاحبها لن يخرج عن شرف شيخ العلماء وليس شيخ الزعماء.
ولعل التاريخ يشهد بأن أيامه التي كانت تنتج علماء الكتاب والفكرة والبحث، كانت تعاني كثيرا كي تربي زعيما قائدا، فمن عشرات العلماء الفطاحل الذين يأخذون ألباب الناس بعلمهم وتبحرهم وقدراتهم الخارقة في المعرفة والاستنباط، نرى أن بينهم أسماء محدودة أخذت موقع الزعامة الاجتماعية.
لا يكاد يمر يوم إلا وللموضوع حضور في إحدى الصحف المحلية وبلغة عنيفة بعض الشيء، فالحديث كثير عن المشايخ الشباب الذين يغررون الناس بالفتوى غير الصحيحة شرعا ، وسبق أن قرأت تحذيرات للكثير من العلماء الكبار عن ضرورة الانتباه إلى أنصاف المثقفين وبعض الطلبة المتحمسين الذين يدفعون الناس إلى مواقف وتصورات غير سليمة، وعن ضرورة اخذ العلم والموقف من العلماء الكبار، وهذا كله صحيح وسليم، لكن الأمر لا يقتصر على هذا التوجيه والتقريع المتسرع.
أعتقد أن أجيال الشباب تصرخ بتصرفاتها وانتماءاتها التي توزعها هنا وهناك لتنادي : دعني أرى الكبير متفاعلا معي حاملا لهمي متلمسا لحاجتي معبرا عن آمالي حاكيا عن آلامي وأنا معه، أما أن اسمع له لأنه أكثر علما أو حفظا أو ألقابا فذاك زمن قد ولى وانتهى.
ولأقترب أكثر أقول : لكي يكون الحجاب في تركيا (وهذا مجرد مثال) حاضرا وممارسا دون نكد أو اعتراض دستوري وقانوني، لا يحتاج المسلمون في تركيا إلى اعلم الناس بفتاوى الحجاب ، ولا إلى أقدرهم على تمحيص أدلته من القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولا إلى أدقهم في استيعاب القواعد الفقهية ، بل يحتاجون إلى الحنكة والعلاقات والتحالفات والحضور الفاعل وغيرها من الأدوات، فهي ستكون سيدة الرأي والموقف، وسيصعد نجم من خلفها اجتماعيا.
وفي بعض دول الاغتراب التي مازال المسلمون يعانون من التعليم المختلط فيها لن يتعلقوا بأكاديمي يحاضر عن الآثار النفسية للاختلاط، ولا بديني يشدد على حرمته، وسيكون خيارهم السليم أن يتمسكوا بمن يسعى في الميدان ليجد حلا يحافظ على قيمهم ومبادئهم وتقبله القوانين العامة السائدة في تلك البلاد.
ولو خرجنا من تلك الأمثلة الدينية الضيقة إلى غيرها من القضايا الإنسانية الرحبة فسنرى أن المبدأ لا يتغير فالمجتمعات تتعلق بمن يسعى لمصالحها الدينية والدنيوية وتمنحه ثقتها وتفاعلها وزعامتها.
العلم من دون التقى لا خير فيه، والعلم من دون العمل صاحبه ﴿كمثل الحمار يحمل أسفارا﴾ والتحدي واضح بقوله تعالى ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ فحين يرى المؤمنون العمل فسينصاعون مطيعين ومندفعين وباذلين لكل ما يملكون ليكون الزعيم والقائد هو العمل الذي لمسوه وأحسوا به.