السيد حسن العوامي ثقة بالنفس واهتمام بالشأن العام*
إنها لحظة وفاء رائعة تأخرت كثيراً ولكنها جاءت، جزا الله من زفّها لنا، وللوطن خير الجزاء.
السيد حسن العوامي، هذا الرجل الذي نسعد بالمشاركة في تكريمه، عالَمٌ رحبٌ من الصفات الطيبة، يمكن للإنسان أن يكتب عن كل جانب من جوانب شخصيته صفحات وصفحات، إنه رجل الثقافة والفكر والمعرفة، طول حياته لم يترك الكتاب والقلم يوماً، يقرأ ويكتب ويتابع، ويهتم بمتابعة التطورات الفكرية والمعرفية، وهو رجل في طليعة المتصدين لقضايا مجتمعه ووطنه، لم يسأم ولم ييأس ولم يسيطر الإحباط على قلبه، رغم الصعوبات والعقبات وتقلب الظروف والأوضاع، وهو رجل رغم صلابته وقوة شخصيته؛ رقيق القلب، غزير الدمعة، ما عليك إلا أن تراه وهو في المأتم حينما يسمع شيئاً من سيرة أهل البيت ، وكم رأيته وهو يهتز حزناً وألماً حينما يسمع بعض المقاطع من الشعر. مرة كان الخطيب يردّد هذا البيت:
هلا صفحتم عن الأسرى بلا سبب كالصافحين ببدر عن أسيركم
وإذا بالرجل قد دخل في عالم آخر من البكاء والتفاعل والانفعال، وكذلك حينما يسمع عن حاجة محتاج، أو مرض مريض، حتى أن البعض حاولوا أن يستغلوا هذه الرقة في قلبه فيقصدونه ليوهموه بحاجتهم، ويتفاعل مع أيّ قضية محتاج تطرح عليه، وفي بعض الأحيان يقال له: سيدنا هذه القضية تحتاج إلى بحث ودراسة حالة وتأكد، ولكن رقة قلبه تغلب في مثل هذه المواقف.
أودّ هنا التركيز على مفردة أراها مهمة من مفردات تصديه للشأن العام، الشأن العام الذي يحتاج أن نعمل لتوسيع رقعة الاهتمام به، هذا الرجل اهتم بالشأن العام، واهتمامه له مفردات عديدة منها: التصدي، والمبادرة، وتنسيق الجهود، وتوحيد الصفوف باتجاه خدمة الحقوق والقضايا المشتركة، لكنني أشير هنا إلى مفردة مهمة وهي تقديم وتكوين الرأي والتعبير عنه، مجتمعاتنا في حاجة ماسّة إلى الرأي، إلى الرأي الناقد الإصلاحي، إلى الرأي المرشد لمسار حركة المجتمع، قسم من الناس يستصغر نفسه، لا يرى نفسه أهلاً لكي يصنع، أو يبدي رأيًّا، وقسم من الناس يخشى من تبعات إبداء الرأي، لأن المجتمعات الساكنة، التي تعاني من مشاكل التخلف والحصار والقمع والكبت؛ عادة ما يكون الرأي فيها مكلفاً، وله ثمن باهظ، قد يكون ذلك من جهة سياسية ترفض وجود رأي آخر يحفز الناس للمطالبة بحقوقهم أو لتغيير واقعهم، وقد يكون من جهة اجتماعية نافذة ورأي سائد مسيطر يرفض أي رأي آخر مخالف.
هذا الرجل استعد لدفع الثمن كان ممتلئاً ثقة بنفسه، انطلاقاً من ثقته بربه ودينه وحق مجتمعه المشروع، ولذلك ما كان يرى نفسه أقل من أن يبدي الرأي حول القضايا الكبيرة، ليست المحلية فقط، وليست في محيطه الاجتماعي فقط، لو قرأنا الحلقة الثالثة من حلقاته «من وحي القلم» لرأينا عدداً من الرسائل وجهها للمراجع العظام، ولإدارة الحوزات العلمية، وغالباً ما يتوقف الكثيرون حتى لو رأوا أن هناك سبباً للنقد أو إبداء الرأي يتهيب أن يقدم رأيه أمام ساحة المرجع، أو المرجعية أو قيادة الحوزة ظناً منه أنه أقل من أن يبدي رأيًّا، وفي الواقع إن أية قيادة مخلصة تريد من الناس أن يبدوا آراءهم، وتستفيد من آراء الناس.
كان الرسول الأعظم نبينا محمد يقول لأصحابه دائماً: «أشيروا علي»، إنه لم يخصص مجموعة من أهل الحلّ والعقد، إنما كان يخاطب المسلمين جميعاً في المسجد «أشيروا علي»، ومن كان من الأصحاب حول رسول الله لم يكونوا كلهم عباقرة أو جهابذة، كان فيهم من له مقام وفضل ومعرفة، ولكن الغالبية وخاصة إذا أخذنا مسألة الزمن بعين الاعتبار، كانوا في مستوى بسيط أو عادي، وورد عن الإمام علي بن موسى الرضا أنه كان يتحدث عن أبيه الإمام موسى الكاظم قال: «كان عقله لا توازى به العقول، وربما شاور الأسود من سودانه، فقيل له: تشاور مثل هذا؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه».
إذن هذا الرجل ما كان يجد غضاضة في أن يكتب رسائل ناقدة ينقد فيها بعض ما يراه محتاجاً إلى الإصلاح ويعبّر عن رأيه أمام المراجع العظام، وأمام العلماء والقيادات الكبيرة، وهذا ما ينبغي أن يكون، نحن جزء من هذه الطائفة، وهذا المذهب، وبالتالي لا بدّ وأن نسهم أيضاً في ترشيد المسار، لا نعتبر أنفسنا مجرد جهة تابعة، أو جهة غير قادرة على أن تعطي وأن تقدم، نحن أيضاً كغيرنا، قادرون على أن نقدم فكرة ورأيًّا، وكذلك رسائله إلى المسؤولين في البلاد، التي يتحدث فيها بقوة وبكل صراحة ووضوح عن نقده لأوضاع التمييز الطائفي، وعن المشاكل التي يعاني منها أبناء المجتمع، وقد دفع ضريبة من أجل ذلك، وهو قرير العين، سعيد النفس، بما قدّم لوطنه ومجتمعه، ومختلف الشرائح في المجتمع، ولا أنسى رسائله إلى الخطباء، ففي كل مناسبة يبعث برسائل إلى الخطباء، ينقد فيها بعض التوجهات، ويؤكد على بعض الأمور التي يرى ضرورة تناولها وطرحها، حينما يطرح الإنسان رأيًّا ليس بالضرورة أن يكون رأيه صحيحاً، قد يكون صحيحاً، وقد يحتاج إلى تطوير، لكن المسألة المهمة هي مسالة إبداء الرأي، أصبح إبداء الرأي في مجتمعاتنا جريمة وذنباً، وهو من أهم معوقات تقدم هذه المجتمعات، بينما نجد أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: «ولَيْسَ امْرُؤٌ وإِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ وتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ ولا امْرُؤٌ وإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ واقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ».
إبداء الرأي أمر مشروع، وهو الطريق لتقدم المجتمع وإصلاح أوضاعه، وأمير المؤمنين الذي قال هذا ما كان ينزعج من الرأي المضاد، وما كان ينزعج من الرأي المخالف، بل كان يرفض أن يتعامل مع الرأي كجريمة. بعد واقعة النهروان بعض أصحاب الإمام جاءوا له بشخص اسمه أبو العيزار الطائي قالوا: يا أمير المؤمنين هذا يرى رأي الخوارج ويبشر به، قال : وما اصنع به؟
قالوا : اقتله يا أمير المؤمنين.
قال : كيف اقتله ولم يخرج عليّ؟
قالوا: اسجنه يا أمير المؤمنين.
قال : كيف اسجنه ولم يرتكب جناية؟
قالوا: فما نصنع به يا أمير المؤمنين؟
قال : اتركوه، خلوا سبيله.
لأن إبداء الرأي ليس جرماً، ولأن الواثق من نفسه ومن موقفه، لا يخاف من إبداء الرأي الآخر؛ بل يستقبله برحابة صدر، ويناقشه ويستفيد منه، وإذا كان الرأي الآخر خطأ فإن الناس والعقول ستدرك ذلك الخطأ.
نسأل الله أن يحفظ هذا السيد الكريم النبيل، وأن يطيل في عمره، وأن يمتعه بالصحة والعافية، وأن يوفقه للمزيد من العطاء في خدمة الوطن والمجتمع، فلا زلنا ولا زال المجتمع والوطن في حاجة إلى عطائه، وإلى آرائه، واسأل الله تعالى أن يوفق جميع المتصدين لخدمة المجتمع والوطن.