منذ الحادي عشر من سبتمبر
بعد الحادي عشر من سبتمبر المشئوم، لاحت في الأفق تحركات نشطة للعديد من تيارات الأمة المختلفة، لتنفض غبارا فكريا وثقافيا راكمته فاعلية التطرف، وأفكار العنف، ومدارس الرفض لكل شيء لا يتبنى رؤاها وتصوراتها.
بدأت تلك التيارات تحركها في مواقع ثلاثة، معبرة عن يقظة غير مسبوقة، ومنبئة عن تحولات جريئة، وتفارق بين مرحلتين كانتا واضحتين حينها، هما ما قبل وما بعد الحادي عشر من سبتمبر.
التدقيق في المباني التي أسس عليها الفكر السابق وتمخضت منها ثقافته، ثم تحولت إلى برامج عملية، قدمت على أطباق جاهزة للأفراد ولفئات المجتمع كافة، فرسمت ملامح المجتمع الإسلامي، وحددت معالمه، فقرأه الآخرون من خلال الصورة التي رسمت لهم، وحكموا عليه على طبقها، ومضت كتاباتهم وسياساتهم ومواقفهم على نفس المنوال.
وقد شاهدنا هذه المراجعة في كتابات بعض الإسلاميين، وهم في المعتقلات المصرية، وفي التعاطي غير المسبوق بين قوى ما يسمى الجهاد المتمترسة في أعالي الجبال والحكومة الجزائرية، وأخيرا في السعودية التي شهدت حملة من المناصحة لأصحاب التوجهات العدائية.
كذلك يمكننا رؤية التأمل والمراجعة في الأقلام الناضجة في بلادنا، والضخ المتواصل للساحة الدينية والثقافية بالكثير من الإضاءات والمراجعات الجريئة، قياساً بالساحة التي تتحرك فيها.
المراجعات في المناطق المذكورة وغيرها على امتداد عالمنا العربي والإسلامي تقف وراءها هامات كبيرة من علماء الدين والمفكرين والكتاب والإعلاميين، كل بما يملك من علم ومعرفة ونور يكشف الظلمة ويفرج الكرب، ويهدي للخير.
تعرضت الرؤى والأفكار التي كانت محل تسالم وتراض إلى قصف عنيف ومركز في تلك الفترة الحساسة من تاريخ الأمة، قصف كاد يعصف بالكثير من القناعات، ويزلزلها عن قلاعها.
الكثير من الأمور وخاصة ما يتعلق منها بالقضايا المصيرية للأمة، والتي كانت محل تسليم وقبول وهيمنة على العقول، استبدل به العشرات والمئات من الأسئلة المعترضة، وأمطرت بسيل لاذع من النقد الذي طال كل شيء، دون أن يستثني أو أن يتسامح في صغائر الأمور ناهيك عن عظائمها.
الساحات المختلفة شهدت أصواتا تعلو دون أن تقبل المساومة أو المهادنة، فقد ترجمت نفسها في كتابات وخطابات، تتنافس في كسب القلوب والعقول بغية التأثر المعاكس، وأصبحت أقرب البرامج الفضائية لقلوب الناس هي تلك التي تستدعي الرأي الآخر معترضا ومنتقداً ومشاكسا.
ربما لأن تاريخ الصمت قد ولى إلى غير رجعة، وربما لأن الصمت حتى وقت قريب كان محزنا ومشينا، وربما لأن العالم العربي والإسلامي أراد أن يجرب الأفكار والآراء الجديدة، خصوصا حين شعر بفسحة مكنته من التعبير والبروز بالشكل الواضح الذي عايشناه.
الإيحاءات كانت كثيرة فثمة مرحلة مقبلة تحمل معها الكثير من مبادرات التصحيح والتقويم للفهم الإنساني والاجتهادات البشرية التي ألصقت بالدين، أو تلك التي عرضت نفسها باعتبارها حلا لوضع الأمة المأساوي، وعملت جاهدة على تحفيز الشباب ودفعهم لتبنيه والدفاع عنه.
هناك عدد كبير من الأمثلة يمكن استدعاؤها في هذا المضمار والتي تطلعنا إليها كتصحيح قادم، لقد واكبنا جميعا قضية مهمة كقضية المرأة التي عوملت في سالف الزمان بمنتهى الحساسية والتستر والخجل، ورأينا كيف كانت تبحث في مؤتمرات الحوار الداخلي.
وقبلها أيضا كانت قضايا ساخنة ناقشتها حواراتنا السابقة كالغلو والتشدد، ثم انعطفنا على موضوع الشباب، وهم الرقم الصعب في معادلة المجتمعات، وقياس تقدمها وسلامتها وضمان مستقبلها.
كان التصور أن الأمور بعد مازالت تتموج في أطر حوارية ذهنية، قد تتصادم أو تتفق في الفضاء الثقافي الواسع، دون أن تلامس الواقع، لكن الذي كنا نتأمله هو أن تأخذ طريقها إليه، وتحدث تغيرات مباشرة وملموسة في مساره. وكان من العدل أن ترهن التغيرات ببعض الوقت والزمن الذي تحتاجه لا غير.
هناك عدد قليل من المثقفين يعتبرون الشفافية والانفتاح والإشارة للأخطاء، والحديث حولها هو إنجاز ومكسب له قيمته ومعناه الثمينان حسب فهمهم، بينما بقي الشارع العام لا يرتضي ذلك مكسبا ولا يعتبره تغييرا، ولا يراه في مستوى الطموح.
لقد شهدنا مرحلة حرجة وحساسة، تميزت بالصراع الشديد بين السائد الممانع لحصول تغيير فعلي، وبين الجديد المناهض، وهناك اصطفاف وتخندق في الجانبين، فإذا كنا حتى الآن في نفس المكان، ألا يعني ذلك أن الممانعة انتصرت؟